«جنيف 3» وعفاريت سايكس ـ بيكو!

لن يكون «جنيف 3» الأخير في سلسلة مؤتمرات السعي لحل الأزمة السورية، مثلما لم يكن الأول، ولا الثاني.

ومثل جنيف كان هناك فيينا وكان هناك أكثر من موسكو. اجتماعات ومؤتمرات فيما الحرب السورية تستمر في مأساتها للعام السادس على التوالي.

وبرغم ذلك فإن المناورات السياسية لا تتوقف عشية المؤتمر، ولن تتوقف أثناءه ولا بعده، وهذا أمر طبيعي في غمرة سعي القوى الإقليمية والكبرى لاقتطاع كل منها كسرة في كعكة الجغرافيا والمصالح في سوريا.

المفاوضات والمساومات التي سبقت انعقاد «جنيف 3» توحي كما لو أن سوريا والمنطقة على أبواب تطوّر تاريخي، قد يكون إيجابياً وقد يكون سلبياً، حيث لم تكن «حروب» اختيار مَن سيتمثل في جنيف أقل شراسة من حدة المعارك في ريف اللاذقية والشيخ مسكين والبغيلية.

التطور الجديد عشية المؤتمر هو أنه ينعقد على أساس قرار دولي من مجلس الأمن يحمل الرقم 2254، وهو اول قرار دولي حول سوريا منذ اندلاع الأزمة، ويضع عناوين لمسار حل سلمي في سوريا، طاوياً بذلك كل البيانات والمقررات التي كانت تصدر عن اجتماعات هنا وهناك.

المساومات الشاقة في اختيار الممثلين في «جنيف 3» مرتبطة مباشرة بكون القرار 2254 هو المرجعية الوحيدة للمؤتمر. وهذا يعني بكل وضوح أن القوى والدول التي تقف خلف المجموعات المسلحة المعارضة في سوريا تذهب إلى المؤتمر وهي فاقدة للورقة الأكبر التي كانت تطالب بها بل تضعها شرطاً أول، وهي تنحية الرئيس السوري بشار الأسد أو في أحسن الأحوال اعتباره جزءاً من مرحلة انتقالية قصيرة جداً (تركيا كانت تقترح ستة أشهر).

تذهب هذه القوى وهي خاسرة سلفاً هذه الورقة، التي لم يشر اليها قرار مجلس الأمن الدولي لا من قريب ولا من بعيد. كما أنها تذهب في ظل موازين قوى متغيرة جداً على الأرض ومرشحة لمزيد من التغير لمصلحة النظام السوري وحلفائه من روسيا وإيران و «حزب الله». لذا هي أرادت أن تعوّض هذا الإخفاق من خلال تركيبة الوفود المشاركة وفرض شروط على مشاركة فلان او رفض مشاركة علتان أو فرض مشاركة آخرين.

الهدف الأساسي هو تحقيق بعض الانتصار الديبلوماسي من جهة، ولكن من جهة أخرى الوصول إلى الهدف الأساسي وهو تفخيخ عملية الوصول إلى حل تمهيداً لتخريبها وتفجيرها، وبالتالي تعطيل مفاعيل القرار الدولي تمهيداً لمرحلة جديدة تأمل في أن تتمكّن خلالها أن تتغير بعض المعادلات الميدانية. لم يكن فرض بعض الأسماء الفجة من قبل المعارضة السورية، كما فرض شروط مثل وقف النار والقصف سوى وسيلة لمثل هذا الفرض والتفخيخ.

لكن أيضاً يمكن أن يكون أكثر فجاجة في هذا السياق محاولة تركيا الرفض الكامل لمشاركة «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي. موقف وزير الخارجية التركي مولود تشاووش اوغلو من أنه إذا حضر ممثل عن «حزب الاتحاد الديموقراطي» مؤتمر جنيف فسوف تقاطعه تركيا، فتح الباب على مصراعيه أمام توجسات كردية بعيدة المدى قد تصح وقد لا تصح.

كانت الأمور حتى نهار الثلاثاء تسير في اتجاه دعوة رئيس «حزب الاتحاد الديموقراطي» صالح مسلم وشخص آخر من الحزب. وقد أعلن مسلم أنه في طريقه الى جنيف. لكن اجتماع المعارضة السورية في الرياض لاتخاذ قرار المشاركة ومن ثم تأجيله الى الخميس كان مرتبطاً بجانب منه بمسألة تمثيل الأكراد.

انتظرت تركيا قدوم نائب الرئيس الأميركي جو بايدن إليها في الأسبوع الماضي لتبني على الشيء مقتضاه. عرض رئيس الحكومة أحمد داود اوغلو «بالوثائق» صلة «حزب الاتحاد الديموقراطي» بـ «حزب العمال الكردستاني»، وطلب منه عدم تزويده بالأسلحة التي تذهب الى «حزب العمال الكردستاني» في الداخل التركي. وطلب داود أوغلو من بايدن التعامل مع «حزب الاتحاد الديموقراطي» على أنه منظمة إرهابية، ومنعه في محاولة التوسّع غرب الفرات في اتجاه جرابلس او غير جرابلس. وسعت تركيا لدفع بايدن الى الموافقة على السيطرة عسكرياً على منطقة «داعش» بين جرابلس ومارع عبر عملية عسكرية تركية ـ أميركية مشتركة أو عبر مجموعات مسلحة من التركمان وغيرهم.

تجاوب بادين كان محدوداً وغير واضح بالنسبة الى العملية العسكرية، واكتفى بالقول إن الخيار العسكري ضد «داعش» قائم إذا فشل الحل السياسي، لكنه لم يحدد أين وكيف.

لكن بايدن كان سلبياً تجاه المطلب التركي حول «حزب الاتحاد الديموقراطي». كرر بايدن لازمة أن «حزب العمال الكردستاني» تنظيم إرهابي ويشكل تهديداً لتركيا. لكن هذا الأمر معروف لأنقرة التي كانت تنتظر موقفاً تجاه «حزب الاتحاد الديموقراطي».

لم يغيّر الأميركيون موقفهم، وهم لا يزالون يعتبرون هذا «حزب الاتحاد الديموقراطي» تنظيماً يحارب من أجل الحرية ضد تنظيم «داعش». وأكدوا بذلك على استمرار دعمهم له.

مجمل الزيارة كانت سلبية في كل عناوين المحادثات.

كان يمكن للموقف الأميركي أن يوفر غطاء لمشاركة «حزب الاتحاد الديموقراطي» في «جنيف 3»، لكن انقرة لعبت كما يُقال «صولد»: إما أنا وإما الأكراد.

بين الموقفين كان الحرج الأممي للموفد ستيفان دي ميستورا. وكانت المفاضلة أن تركيا بلد مركزي في حل الأزمة السورية وربما تتغير الظروف ليمكن لاحقاً ضم الأكراد الى مؤتمرات جنيف 3 او 4 او 5، او غير ذلك من مسمّيات.

لعبت تركيا على رغبة الأطراف الكبرى بعقد المؤتمر. وبين نسف المؤتمر قبل انعقاده أو استيعاب تركيا داخل المؤتمر، فكان الخيار الثاني لنزع كمائن التفجير. لكن في المحصلة الظاهرة فإن تركيا نجحت في تحقيق انتصار ديبلوماسي، لكنه غير كاف لاستثماره لا على الأرض ولا في نتائج المؤتمر.

غيّرت تركيا في شكل المفاوضات، لكنها غير قادرة على تغيير الوقائع على الأرض.

أول ردة فعل لـ«حزب الاتحاد الديموقراطي» كانت إعلان رئيسه صالح مسلم أنه لن يعترف بأية قرارات قد يتخذها مؤتمر جنيف. وهذا أمر طبيعي، إذ من غير الجائز أن يكون أحد أكبر المكونات السورية المعارضة خارج محادثات يفترض أن ترسم ملامح سوريا المستقبلية.

لذلك فإن الغطاء الأميركي ـ الروسي لمشاركة الحزب الكردي لن يتأخّر في المؤتمرات المقبلة.

مع ذلك، فإن التوجّس لا يغادر المكوّن الكردي. حتى الآن ليس من طرف سوري معارض واحد أعلن رغبته في أن تكون سوريا بلداً فدرالياً او أن يكون على الأقل للمنطقة الكردية وضع إداري مختلف أو مميّز عن سائر المناطق السورية. كذلك فإن النظام والقوى المؤيدة له تكرر الإشارة الى وحدة التراب السوري وترفض أي نوع من أشكال يشتمّ منها تفكك في وحدة سوريا.

أكثر ما يتردّد على ألسنة المفكّرين والكتاب الأكراد في سوريا وفي تركيا أن الأكراد قد يكونون من جديد ضحايا خريطة أو حل يرسم على غرار سايكس ـ بيكو، ويأخذ في الاعتبار مصالح القوى الكبرى والإقليمية ولكنه يُضحّي، كما قبل مئة عام، بالأكراد.

الحرب التركية على «حزب العمال الكردستاني» في الداخل التركي، والقائمة منذ أكثر من ثلاثة أشهر، جزء من منع أكراد سوريا من المضي في تحويل شمال سوريا الى شمال عراق جديد. إضعاف «حزب العمال الكردستاني» وكسره في الداخل التركي هو مرحلة أساسية من إضعاف «حزب الاتحاد الديموقراطي» في سوريا ومنعه من إقامة إدارة ذاتية سواء بحل أو من دون حل.

اعتبار تركيا لـ «حزب الاتحاد الديموقراطي» تنظيماً إرهابياً يحمل تضليلاً وازدواجية تغطي أهدافاً تركية أخرى وأكثر خطورة من مشاركة او عدم مشاركة الحزب في مؤتمر جنيف.

قبل عام ونصف العام، وخلال معركة عين العرب/ كوباني، استضافت تركيا صالح مسلم بالذات في مقر وزارة الخارجية. عرضوا عليه شرطين لمساعدة أكراد كوباني بوجه حصار «داعش»: الأول فك ارتباطه بالنظام السوري والثاني الانضمام إلى قوات المعارضة. لم يُقَلْ له إنه إرهابي وامتداد لـ «حزب العمال الكردستاني»، لأن الهدف التركي هو دمشق أولاً وأخيراً. لكن بعد رفض مسلم الشرطين، خصوصاً أن الشرط الأول غير صحيح، بدأت أنقرة تصف «حزب الاتحاد الديموقراطي» بأنه إرهابي وامتداد لـ «حزب العمال الكردستاني»، أي إن أنقرة تصنف الحزب الإرهابي متى شاءت، ولا تفعل ذلك متى وافق ذلك مصالحها. كذلك فإنّ تركيا ناقضت نفسها بنفسها عندما سمحت لقوات كردية قادمة من العراق بالمرور عبر أراضيها الى كوباني لمساعدة «إرهابيي» قوات الحماية الكردية.

لا يشذّ عن بال تركيا أن وضعها في سوريا أصبح ضعيفاً جداً. وهي تبحث الآن عن طريقة تحفظ بها ماء الوجه وإظهار أنها لا تزال موجودة. التدخل الروسي كان جذرياً في إخفاقات تركيا ولا سيما في ريف اللاذقية ومستقبلاً في ريف حلب الشمالي.

وفي حال تحقق معركة حلب الكبرى، تكون تركيا خرجت نهائياً من المعادلة السورية. ومن هنا فإن هدف تركيا الملحّ اليوم هو منع عبور قوات الحماية الكردية الى غرب الفرات وجرابلس لمنع خلق أمر واقع جديد هناك ومن ثم اتخاذ تلك المنطقة من جانب تركيا مبرراً، بسبب «داعش» للسيطرة المباشرة عليها ومنع إسقاط حلب.

من هنا يظهر أن المعطيات الميدانية هي أساس رسم أي حل سياسي في سوريا.

ومع أن جنيف يمكن أن يطلق دينامية معينة لمسار سياسي لكن الواقع الميداني سيبقى ضاغطاً، وهو الذي سيرسم الحل النهائي الذي سيكون «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي فيه وجزءاً منه، لا مناص؛ إذ من غير المقبول تكرار سايكس ـ بيكو وأن يكون الأكراد ضحيته من جديد، وهم الذين حاربوا «داعش» وبشجاعة، وقدّموا مثالاً على التمسك بالأرض، وكانوا من أهم عوامل إضعاف المشروع التكفيري بكل رعاته الإقليميين وفي مقدمهم تركيا.

لذا فإن الأخذ بهواجس الأكراد في سوريا وغير تركيا هو حق من حقوقهم وهو من شروط الاستقرار المستقبلي، كما في سوريا، كذلك في المنطقة.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى