حاجة السوريين إلى لغة السياسة!

أعرف جيدا أن الحرب لم تنته، فنهاية الحرب مرهونة بالكثير من المعطيات، وأهم تلك المعطيات محلي، بمعنى أن مقومات البناء الداخلي على صعيد آليات الصراع ينبغي أن تتغير لكي تنتهي الحرب، ولا تتغير إلا بقراءة مجموع السنوات التي مرت وأثرها على بنى المجتمع بشكل عام، وتداخل ذلك مع العامل الخارجي !

إن ملاحظة هذه الأجزاء من معادلة الحياة السياسية السورية، تعني بالضرورة اعترافا بأن ثمة خللا وقع حتى حصل هذا النوع من التصادم الذي يعرف بلغة الفيزياء بالصدام القاسي أو الصلب !!

شهدت الحياة السياسية السورية منذ الاستقلال نماذج مهمة في الصراع السياسي، ومن المفيد أن نعترف، أن تحول الصراع السياسي من صراع برامج ورؤى وحتى عقائد ، إلى صراع إنقلابي عسكري ودموي كان يهيئ الظروف إلى مثل هذه الحرب التي نسأل عن نهايتها الآن !

كانت الكتل السياسية في سورية تتصارع، وينظم صراعها ثقافة ديمقراطية ووطنية وتنويرية ربما يكون أساسها المصالح الاقتصادية التي كانت تمثلها الأحزاب الكبرى في ذلك الوقت عشية وبعد الاستقلال، لكن أحدا لم يكن يقبل أن تلصق به تهمة اللاوطنية ، بل إن السياسيين دخلوا جميعا السجون في متن الصراع مع المستعمر ((راجعوا جدران قلعة أرواد))، وأما من هادن المستعمر، فقد سقط سريعا في معركة الاستقلال وسجل التاريخ اسمه بعيدا عن قائمة : الأبطال ! كسر هذا النمط الانقلاب العسكري للجنرال حسني الزعيم، وفي أغلب الكتابات التي تستعيد تلك المرحلة يبرز العامل الخارجي الدافع للانقلاب، أي أن ثقافة السوريين لم تكن مولدة لهذا النوع من الصراع الذي يقوم على إلغاء الآخر.

ومع اندلاع ((لعبة)) الانقلابات، خسر السوريون النموذج الأرقى للصراع السياسي، وتلك الخسارة برزت في العبارة التي قالها الملازم أول عبد الغني قنوت، وكان من جماعة أكرم الحوراني، إلى الرئيس شكري القوتلي وهو ((يأسره ويتجول مع في دبابة ليريه لمن آلت الأمور بعد انقلاب الشيشكلي)) !!

وفي عملية الاحتضار التالية لمنظمة الصراع السياسي الحضارية، كان الصراع واضحا بين النوعين، حتى أن مرحلة الوحدة والانفصال كشفت عن انسداد أفق الصراع السياسي بالوسائل السلمية نهائيا.. ونتذكر جميعا، على هذا الصعيد، أنه حتى عندما وقع الانفصال، انكشف دور خطير للمخابرات المركزية الأمريكية بتمويل شخصية معروفة ((نشرت اعترافها لي في صحيفة الحياة قبل سنوات))..

إذن ، هل كان من المفيد بقاء نواظم الصراع السياسي الأولى، رغم ظهور الأحزاب العمالية والفلاحية ، وتنامي قوتها على الأرض؟!

ليس لدي جواب .. لأن الجواب معروف للجميع، وواقعيا : انتبه الرئيس حافظ الأسد إلى أهمية المسألة، في مطلع السبعينات من القرن الماضي، فسعى إلى تأسيس بديل جرى الحديث عنه فيما بعد بأنه ” النموذج السوري” ، وهذا النموذج : أفرز دستورا وبرلمانا يقوم على سيادة العمال والفلاحين ثم باقي فئات الشعب، فاستقرت الأمور نسبيا، لكن الاستقرار أنتج شريحة اجتماعية قويت سنة بعد سنة، وضيقت على الشرائح الاجتماعية الأخرى التي ظن كثيرون أنها ذابت، ولكنها كانت تخفي جذورها تحت التربة الاجتماعية، وتسعى للخروج مستفيدة من تراكمات حصلت في العقود الثلاثة التي مرت..

كذلك نما الجيل الجديد على وطن بلا صحافة ولا أحزاب دون أن ترضيه الهياكل الموجودة التي تراخت إلى درجة الذوبان نتيجة قوة السلطة والدولة، وهنا لابد من الانتباه إلى ظهور تمردات خطرة في كل البنى السياسية ومنها من مارس الارهاب بطريقته : الطليعة المقاتلة في الإخوان المسلمين ومجزرة المدفعية الطائفية . المنظمة الشيوعية العربية وعملية الإن سي آر . بعث العراق وعملية السميراميس.. وظهور رابطة العمل الشيوعي، واتحاد الشغيلة، وصولا إلى التنظيم الشعبي الناصري، وكلها قوى ظهرت لعدم وجود ناظم قانوني للعمل السياسي ..

هل نحن بحاجة إلى نواظم جديدة ؟!

لاحظوا ماذا حصل بعد إندلاع حريق الربيع العربي وسقوط الرؤساء زين العابدين بن علي ومحمد حسني مبارك ومقتل الرئيس معمر القذافي بطريقة بشعة .. الذي حصل أن استجابة واضحة جلية تصدرت الموقف المستجد في سورية ، وهذا يعني فهما لخطورة مايجري:

 أولها وقف الأحكام العرفية .
 ثانيها صياغة دستور جديد .
 ثالثها زيادة الرواتب والأجور ..
 رابعها قانون جديد للإعلام ..

لكن الحريق كان قد اشتعل، ورغم اشتعاله تغير الدستور من ديمقراطي شعبي إلى ديمقراطي يقر بتبادل السلطة، حيث يعتبر ((انجاز هذا الدستور تتويجاً لنضال الشعب على طريق الحرية و الديمقراطية و تجسيداً حقيقياً للمكتسبات و استجابة للتحولات و المتغيرات , و دليلاً ينظم مسيرة الدولة نحو المستقبل)) ، وصارت سورية ((دولة ديمقراطية ذات سيادة تامة)) ، وجاء في المادة الثامنة :

((1. يقوم النظام السياسي للدولة على مبدأ التعددية السياسية , و تتم ممارسة السلطة ديمقراطياً عبر الاقتراع .

2. تسهم الأحزاب السياسية المرخصة و التجمعات الانتخابية في الحياة السياسية الوطنية , و عليها احترام مبادئ السيادة الوطنية و الديمقراطية(( ..

وسريعا ظهرت أحزاب معارضة بلا برامج وبلا جمهور وبلا أفق .. يا ألله .. هكذا تغير كل شيء فجأة .. لكن الذي حصل حصل ..

استمر الحريق، ودمر أكثر من نصف سورية ، وقتل وجرح وشرد وخطف وهجّر أكثر من ثلاثة أرباع سكانها، ومرت ست سنوات، والحرب سجال، وصار الأمريكي عطوفا على الأكراد، والتركي حنونا على الإخوان ، والسعودي ميالا إلى السنة، والإيراني متمسكا بمحور المقاومة ، والفرنسي تواقا لصداقة سورية.. وحمل السياسيون المعارضون في الخارج سلاح التصريحات النارية عن ثورة وشعب، وتسلحوا بكلاشنكوف وسيارات مفخخة ودبابات مسروقة وأحزمة ناسفة في الداخل (!!!!!) وجلسوا في الفنادق الدافئة ينددون بالوضع المأساوي للمواطن السوري في مخيمات اللجوء وفي البحار الذاهبة إلى الأمان (!!) .

أما في الداخل فقد تحول الجيش إلى أكثر من مئتي جبهة بدلا عن جبهة الجولان ، وشاع الفساد والتعفيش وانتشر بيع الأعضاء والدولار والمخدرات والتهريب والسرقات .. وكان السوريون المتحصنون في وطنهم يراهنون على شيء ما يصل إليه السياسيون في أروقة المحافل الدولية ، أو في صحوة ضمير تعيد العقل إلى الرأس!!..

ولم ينتبه أحد إلى الحاجة إلى لغة السياسة.. !!

لاحظوا الخطاب الذي ينتشر حاليا :

خطاب مكاسرة وإلغاء ، حتى أن رياض نعسان آغا نفسه صار لايقبل إلا بمرحلة إنتقالية .. لايوجد لغة سياسة أبدا .. لا هنا ولا هناك ..

ماهي لغة السياسة إذا ؟!

هي كل الأدوات الممكنة للحل ، ماعدا الحرب .

وهذه تحتاج إلى نواظم ، والنواظم لاتحتاج إلى كتاب منزل من السماء. تحتاج إلى إيمان بالوطن الغالي الذي لم يبق منه شيء . لغة السياسة الآن تستدعي الاستفادة من فرصة التغييرات الاقليمية والدولية، والسؤل صراحة : هل أنتم مع بقاء ماتبقى من سورية ؟ هل أنتم مع بقاء سورية ؟ إذن أروني كيف تتحاورون لإنقاذها من الحرب الهادفة إلى تدمير ماتبقى؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى