«حارس الموتى» استعادة لحرب لبنان

على رغم مضي قرابة عقدين ونصف العقد على وضع الحرب اللبنانية أوزارها، ما زالت تُشكّل مادّة جاذبة للأعمال الأدبية، لا سيّما الروائية منها. ولعلّ رواية «حارس الموتى» (منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف) للكاتب اللبناني جورج يرق هي آخر ما صدر من هذه الأعمال.

تدور أحداث الرواية، خلال عام 1979، في فضاء ريفي في بدايتها، ومديني ما خلا ذلك، وهي تتناول ما يطفو على السطح من ممارسات تبدأ بالخطف وتنتهي به، وتمرّ بالاغتصاب، والقتل، والقصف، والقنص، والسرقة، والفساد، والتشبيح، واستغلال السلطة… إنها ممارسات تتوزّع على شخصيات الرواية بمقادير محدّدة، وتحصل في أمكنة روائية متنوّعة، تتراوح بين القرية والمدينة كمكانين عامّين، والمدرسة والثكنة والمتراس والمستشفى والبرّاد، كأمكنة وظيفية خاصّة، على سبيل المثل.

من شهادته على الخطف في بداية الرواية، يتحوّل عابر ليطاني، الراوي، إلى مخطوف في نهايتها. وبين البداية والنهاية، ينخرط بفعل الضرورة غالباً والاختيار أحياناً، في أنشطة التدريب والقتال والحراسة والقنص والسرقة والاختلاس، ويكون شاهداً على أعمال اغتصاب وسلب وقتل. فهو ضحية من جهة، ومرتكب من جهة ثانية، وإن كان ارتكابه لم يتعدَّ حدود الشهادة وإخفاء المعلومات والاختلاس والفساد. على أن الخوف هو المحرّك الأساسي لهذه الشخصية والمتحكّم بتصرّفاتها؛ فهو يهرب من قريته السهلية خوفاً من الانتقام جرّاء عمل لم يرتكبه، بل كان مجرّد شاهد عليه، ويلجأ إلى الثكنة بفعل الحاجة إلى الملجأ ثم يهرب للعمل في المستـــشفى، وتحديداً في برّادها، بفعل الخوف من القتل والحاجة إلى مأوى، وذلك بعيد مقتل صديقه عزيزي. ثمّ ينتهي به المطاف مرميّاً تحت جسر بعد خطفه وإطلاق النار عليه.

هكذا، تبدو الشخصية المحورية في الرواية مسيّرة، مضطرّة إلى القيام بما قامت به من دون أن تعني الضرورة تبريراً لممارساتها. وهذا ينسحب على معظم الذين وقعت عليهم الحرب، فكانوا أدواتها وضحاياها. وثمّة ممارسات تُقدم عليها الشخصية مختارة، بفعل إغراءات المال. وهذا، بدوره، ينطبق على آخرين في الرواية، والمرجعية التي تُحيل عليها.

يفكّك جورج يرق في روايته هذه ممارسات الحرب من خلال الراوي، شاهداً أو شريكاً أو عارفاً بالأحداث، وما يتبع ذلك من علاقات روائية ينخرط فيها من المواقع الثلاثة: الشهادة والشراكة والمعرفة. ويتمّ ذلك التفكيك في مكانين اثنين محوريّين يستأثران بالأحداث، هما: الثكنة والمستشفى، ولكلٍّ منهما وظائفه الروائية المستقلّة نسبيّاً، ذلك أن المكان الثاني يخضع لمداخلات الأوّل، والعكس ليس صحيحاً.

في الثكنة، تتمظهر ممارسات الحرب العسكرية في: التدريب، الحراسة، الاغتصاب، السلب، التشبيح، القتل، القتال، والقنص... وهذه الممارسات التي تحدث في الثكنة أو تنطلق منها تدخل في وظائف المكان الروائي. ولكن في المستشفى، تتمظهر ممارسات أخرى؛ بعضها ناجم عن الحرب، وبعضها مرتبط بالنفس البشرية الأمّارة بالسوء، ومنها: العلاقات غير المشروعة، الفســاد الطــبي، الفــساد الإداري، الاستباحة الحزبية، الإخلال بالأدبيات الطبية، السرقة والرشوة، والخطف… على أن هذا لا يلغي وجود إيجابيات تصدر عن بعض الشخصيات كالأخت كريستين التي تنقذ قسم الطوارئ بحزمها وحسن إدارتها.

شخصيات ناقصة

هذه الممارسات، سواء أكانت في الثكنة أو المستشفى، تصدر عن مجموعة من الشخصيات التي يرتبط حضورها الروائي بشهادة الراوي عليها، أو تعرّفه إليها، أو علاقته بها؛ فنابليون، رئيس الوحدة العسكرية، يقوم بعملية سلب صائغ وإطلاق النار عليه محذّراً الراوي من التفوّه بأي كلمة. وبو فهد، القناص، يقتل المارّة، ويبتهج حين تُذاع أسماؤهم مبرّراً فعلته بخدمة الرفاق والوطن. وعزيزي، الخطيب المفوّه في الثانوية والجامعة والذي دفعه الخوف إلى اللجوء إلى الثكنة، يذهب ضحية ما يعرفه من أسرار ويدوّنه من مذكّرات.

ودومينو، المـــسؤول العسكري الشبّيح، يتحوّل بفعل الشراب إلى دابٍّ على أربع تمتطيه فتيات الكباريه. والأخت كريستين، الراهبة الجميلة، تعطي دروساً في تنظيف الجثث في برّاد المستشفى وحشوها وتجهيزها للدفن، وهي إدارية حازمة لكنّها توافق على نزع الدمغات عن الأدوية الهبة وبيعها من المرضى، ناهيك عن التمييز بين الفقراء المعدمين والحزبيين المدعومين، وهي شخصية إشكالية يتضادّ فيها جمالها وأنوثتها مع عملها في البراد، ويتضادّ زيّها الديني مع بعض ممارساتها. ونهلا، زميلة الراوي في القسم، تكنّ له حبّاً خفيّاً يتمظهر، ذات لحظة قصف، في انحشارهما في زاوية واحدة، ويتطوّر ملامسات وقبلات مختلسة، ويبلغ الذروة في لقاء حميم، ذات ليلة ماطرة، عند الــشاطئ. وروبير، زميل الراوي في القسم، يفتح عينيه على أبواب رزق غير مشروعة كتقاضي الإكراميات من ذوي الموتى، والتواطؤ مع السائق أبي رضوان في احتساب عدد قوارير الغاز، غير أن الراوي يتقدّم عليه في مصدرين آخرين هما سرقة أسنان الموتى الذهبية واختلاس المال من جارور المستشفى.

هنا يتبيّن أن معظم شخصيات الرواية مصابة بعطب أو أكثر، في أخلاقياتها أو سلوكياتها. هي أعطاب الحرب التي تترك أثرها على النفوس والأفعال. وإذا كانت بعض السلوكيات، على غرابتها، تنسجم مع منطق الحرب وأدبياتها، فإنّ غلوّ بعضها الآخر في الغرابة هو ما يكشف فداحة الأعطاب وخطورة النوازع البشرية حين تفلت من عقالها؛ فقيام بعض المسلّحين بقوّة السلاح بأخذ أشلاء معيّنة لتدفن تحت اسم جثة أخرى لم يبقِ منها الانفجار سوى الحذاء، وقيام الراوي باشتهاء شابّة ميتة إلى حد أنه كاد يقع في خطيئة الولوج فيها، وقيامه بانتزاع أسنان الموتى الذهبية، هي ممارسات من «البعض» المفرط في غرابته.

إلى التحولات المتعلّقة بالشخصيات، ثمة أخرى تتعلّق بالمكان الروائي ووظيفته؛ فالاستعمال الروائي يحوّل المكان عن وظيفته الأصلية إلى أخرى مكتســبة؛ فالمتراس يتحوّل من مكان لإطلاق النار على العدو والاحتماء منه إلى ملاذ من الوحشة واليأس والغربة. «المتراس بات من الأمكنة المفضلة لدي» (ص 103) يقول الراوي. والبرّاد يتحوّل من مكان بارد مخيف إلى مصدر للأمان وباب للرزق. «المكان الوحيد الذي كنت أشعر فيه بالأمان هو البرّاد» (ص 186) يقول الراوي أيضاً. وعليه، فالمكان الموحش، المرعب، يمكن أن يتحوّل إلى مكان أنيس بفعل الحاجة إلى الأنس والرفقة، أو إلى مكان آمن بفعل الــعادة. وإن بقاء الراوي على قيد الحياة، بعد كلّ ما شــاهده وعرفه وانخرط فيه، وبعد خــطفه وإطــلاق النار عليه ورميه تحت الجسر، هي إشارة واضحة إلى أن الحياة أقوى من الحرب.

حياة وحرب

يسند جورج يرق فعل الروي في «حارس الموتى» إلى راوٍ واحدٍ مشارك هو بطلها، الذي ينطوي من خلال مشاركته على راوٍ عليم. ويراعي خطّية الزمن في الأحداث التي تكثر فيها الوقائع وتقلّ الذكريات. وهو لا يكسر هذه الخطية سوى في الوحدة السردية الثانية التي تتقدّم أحداثها على الأولى من حيث زمن حصولها. وإذا كانت الخطية هي سمة الزمن الروائي كمّيّاً، فإنّ الكاتب يكسر نمطية السرد نوعيّاً، فينتقل ممّا حصل فعليّاً، وهو مدار السرد، إلى ما هو محتمل الحصول (حركة الأستاذ المخطوف المضروب)، أو إلى ما هو مستحيل الحصول ويدخل في باب المتخيّل (أقوال فردة الحذاء)، وقد يكسر نمطية السرد باقترابه من الاعترافات (الوحدة 22)، أو بسرد الغرائبي من الأفعال (الوحدة 25)، أو بالاقتراب من اليوميات (الوحدة 26). ولعلّ هذا التنوّع السردي يعوّض عن غياب الحوار المباشر في النص بين الشخصيات، وهو إن حضر يتم بطريقة غير مباشرة من خلال الراوي، وهذا ينسجم مع العالم المرجعي الذي ترصده الرواية وتحيل عليه. ففي الحرب يغيب الحوار.

في «حارس الموتى»، يقدّم جورج يرق روايته للحرب الأهلية التي لا تقلّل من أهمية الفعل البشري في اقترافها، لكنّها تنحو باللائمة، بدرجة أعلى، على الظروف التي تدفع الناس بفعل الخوف أو الحاجة أو كليهما إلى الانخراط فيها وتحوّلهم إلى أدواتها وضحاياها. وهو يفعل ذلك بنصٍّ روائي متماسك، تقلّ فيه الأكسسوارات الروائية، لكنّه يحافظ على روائيته.

وعلى رغم ذلك، ثمة هنّات يقع فيها الكاتب، فيُورد للشــخصية الواحدة اسمين مختلفين في صفحتين متجاورتين، فاسم عزيزي الحقيقي هو جهاد الشاعر (ص 133) وجهاد فوزي العارف (ص 134)، ويُورد معلومات متضاربة تتعلّق بحضور الشخصية أو عدم حضورها في مكان معيّن، فحنكليس لا يحضر مع الآخرين في الكباريه (ص 119) بينما هو يحضر في صفحات أخرى (ص 235، 295، 296، 297).

ومع هذا، قد تُضيف «حارس الموتى» جديداً إلى رواية الحرب اللبنانية، لعلّه يكمن في رصد جانب منها، من مكان مرعب، هو البراد الذي تحفظ فيه جثث القتلى، وليس من مكان عسكري فقط، كالثكنة ومرادفاتها. وهي بطبيعة الحال، ترفض الحرب بتفكيك ممارساتها، ورصد أهوالها ومضاعفاتها.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى