افتتاحية الموقع

حرية النقاش السياسي: بين الحق الديمقراطي والانحيازات المسبقة

ماهر عصام المملوك

لطالما كانت السياسة جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، تؤثر في تفاصيل معيشتنا، وتحدد مسارات مستقبلنا. ومع ذلك، كانت لفترات طويلة من الزمن تشهد تكميم الأفواه، إما عبر وسائل قمع مباشرة أو عبر ضغوط اجتماعية تجعل الحديث في الشأن السياسي أمرًا محفوفًا بالمخاطر. اليوم، ومع تطور الوعي العام واتساع رقعة منصات التواصل، باتت النقاشات السياسية أكثر انفتاحًا، لكن هل تُمارَس هذه الحرية بالشكل الأمثل؟ وهل يمكننا حقًا أن نناقش السياسة دون أن يُساء فهمنا أو يُساء إلينا؟

من حيث المبدأ، يعد النقاش السياسي أحد أركان الديمقراطية الحقيقية، فمن حق أي فرد، بغض النظر عن موقعه أو خلفيته، أن يعبر عن آرائه حول القضايا المحلية والدولية دون خوف من القمع أو التخوين. لكن، في كثير من الأحيان، تتحول النقاشات السياسية إلى ساحة للصراعات الشخصية بدلًا من أن تكون ساحة لتبادل الأفكار، حيث يتم تسفيه الآراء المخالفة أو اتهام أصحابها بنوايا غير نزيهة.

يطرح هذا التحدي سؤالًا جوهريًا: هل يمكننا بالفعل أن نصل إلى مستوى من النضج يجعل من الحوار السياسي وسيلةً لفهم الواقع بشكل أعمق، بدلًا من أن يكون مجرد أداة لإثارة الانقسامات والعداوات؟

فغالبًا ما يدخل الأفراد في نقاشات سياسية وهم محمّلون بانحيازات مسبقة تشكلت لديهم نتيجة عوامل متعددة، مثل البيئة الاجتماعية، والتعليم، والتجارب الشخصية، والانتماءات الأيديولوجية. هذه الانحيازات تجعل النقاشات أكثر تعقيدًا، إذ يصعب على البعض قبول آراء تختلف عن قناعاتهم، فيتحول الحوار إلى مواجهة دفاعية أكثر منه تبادلًا للأفكار.

وقد يكون هذا أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل البعض يفضّل تجنب النقاشات السياسية تمامًا، ليس لعدم اهتمامهم بها، ولكن خشية أن يتم تصنيفهم أو التشكيك في دوافعهم. وفي هذا السياق، يصبح الحديث عن الديمقراطية وحرية الرأي مجرد شعارات لا تجد تطبيقًا حقيقيًا في الواقع.

والسؤال الذي يطرح نفسه دائما لماذا نخشى النقاش السياسي؟

هناك عدة أسباب تجعل النقاشات السياسية محاطة بالمخاوف:

  1. الخوف من التبعات الشخصية أو الاجتماعية: فقد يتعرض الشخص للنبذ أو الانتقاد من قبل محيطه لمجرد التعبير عن رأي مخالف.
  2. التخوين والتشكيك في النوايا: في كثير من المجتمعات، يتم الربط بين المواقف السياسية والانتماءات الخفية، مما يجعل أي رأي مخالف يُنظر إليه وكأنه صادر عن أجندة معينة.
  3. التوتر العاطفي في النقاشات: تتحول الحوارات السياسية أحيانًا إلى مواجهات شخصية مشحونة بالعواطف، مما يفقدها قيمتها العقلانية.
  4. ضعف ثقافة الحوار: في بعض البيئات، يغيب مفهوم الحوار القائم على الاحترام المتبادل، ليحل محله الجدل العقيم القائم على الشخصنة والتصعيد.

في حقيقة الأمر إذا كنا نؤمن بأن مناقشة القضايا السياسية هو جزءٌ من حقوقنا الإنسانية، فمن الضروري أن نبحث عن أساليب تضمن أن تكون هذه النقاشات بناءة وليست هدامة. وفيما يلي بعض المبادئ التي قد تساعد في تحقيق ذلك:

  1. التمييز بين الرأي والموقف الشخصي: ينبغي على كل مشارك في النقاش أن يدرك أن انتقاد فكرة معينة لا يعني بالضرورة الهجوم على شخصه.
  2. الاستناد إلى الحقائق: النقاشات السياسية ليست مجرد تبادل انطباعات، بل ينبغي أن تقوم على بيانات ومعلومات دقيقة تدعم وجهات النظر المختلفة.
  3. احترام الرأي الآخر: حتى لو كان هناك خلاف جوهري حول قضية ما، يجب أن يكون الاحترام هو القاعدة الأساسية في الحوار.
  4. الابتعاد عن التخوين والتصنيف المسبق: لا ينبغي أن نبدأ أي نقاش ونحن نحاول إثبات أن الطرف الآخر “غير وطني” أو “متحيز”، بل يجب أن يكون الهدف هو تبادل الرؤى.
  5. التحكم في العواطف: الحوارات السياسية يمكن أن تكون مشحونة، لكن الانفعال الزائد قد يؤدي إلى تصعيد غير ضروري.

فمن المؤكد بأن  الديمقراطية الحقيقية تبدأ من الحوار الحر، وهي ثقافة خاصة حداً وبحاجة إلى تعلمها في المؤسسات التعليمية منذ حداثة العمر وبعيدة كل البعد عن التطور الفؤي والملي والطائفي والديني والعشائري وبحاجة إلى الكثير والكثير من الوقت والإدراك  والوعي في الابتعاد عن التحيز والانتماءات الضيقة .

فإذا كنا نطمح إلى ديمقراطية حقيقية، فإن أول اختبار لها هو قدرتنا على النقاش السياسي بشكل ناضج وعقلاني ،ولا يمكن لأي نظام ديمقراطي أن يترسخ في مجتمع لا يؤمن بالحوار، بل يعتمد على تكميم الأفواه أو تصنيف الآراء على أساس ولاءات سياسية مسبقة.

لذلك، فإن ممارسة حقنا في النقاش الحر لا تعني فرض آرائنا على الآخرين، ولا تعني التزام الصمت خوفًا من ردود الأفعال، بل تعني أن نتبنى أسلوبًا يقوم على الموضوعية والاحترام المتبادل.

وفي ختام القول فإن الدخول في نقاشات سياسية محلية أو دولية ليس مجرد ممارسة لحرية التعبير، بل هو مسؤولية تفرض علينا أن نكون منفتحين على آراء الآخرين، وألا نحاول فرض رؤيتنا على أحد، وألا نسمح لأحد بأن يكمم أفواهنا. فالديمقراطية الحقيقية لا تعني فقط حق التعبير، بل تعني أيضًا القدرة على الاستماع والتفكير النقدي دون تعصب أو تهجم.

في النهاية، يبقى السؤال: هل نحن مستعدون فعليًا لممارسة هذا الحق بطريقة ناضجة، أم أننا لا نزال أسرى الانحيازات والخوف من التصنيفات ؟

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى