حكام وأوهام وركام (غسان شربل)

غسان شربل

في غياب مؤسسات منتخبة بحرية وصحافة حرة تمارس حق الرقابة والمساءلة تصاب الدول بغرور يدفعها الى ارتكاب أوهام مكلفة. تصاب الدول بما يمكن تسميته عقدة الدور. تريد إمساك أوراق خارج حدودها. أوراق للتأثير على قرارات جيرانها وأمنهم واستقرارهم وتوجهاتهم. تدافع الانظمة الديموقراطية عن سياساتها امام برلماناتها. تحاول حشد الأرقام لإقناع الرأي العام. تدافع الأنظمة الاخرى عن نفسها خارج حدودها. تضخم صورة العدو الخارجي وتعتبر العالم بأسره مسرحاً لاشتباك لا يرحم معه. تعيش من مناخ المواجهة المفترضة وتستخدمه لإسكات اي صوت معارض في الداخل.
تصاب الدول بعقدة الدور لأسباب كثيرة. النوم على ذاكرة امبراطورية او ما يقترب منها وشعور بأن مؤامرات خارجية ادت الى ضرب الزمن الذهبي الذي لا بد من استعادة بعضه اذا كانت استعادته كاملاً متعذرة. الشعور بفائض قوة بفعل امتلاك ثقل سكاني وآلة عسكرية وثروة يمكنها تطوير هذه الآلة او بفعل القدرة على استثمار موقع استراتيجي وبيئة مجاورة يمكن تأليب مكوناتها ضد بعضها البعض. او الشعور بضرورة تصدير ثورة او نموذج وانطلاقاً من توهم امتلاك حلول لمشكلات الآخرين ايضاً.
في غياب الديموقراطية ووسط تحيات الجنرالات وتقارير الامن ومدائح المستشارين يتحول الرجل الذي التهم السلطة ورفاقه قائداً تاريخياً تفيض طموحاته عن حدود دولته. هكذا تبدأ لعبة الترغيب والترهيب. والهدف واضح وبسيط مصادرة قرار الدول المجاورة والحاقها بطموحاته ومغامراته.
اننا لا نتكلم هنا عن فصول قرأناها في كتب التاريخ. نتكلم عما عشنا وسمعنا. في بدايات الحرب العراقية – الايرانية حضرت في بغداد مؤتمراً صحافياً ل "السيد الرئيس المهيب القائد" الذي حضر ببزة عسكرية كاملة الاناقة. كان الجيش العراقي توغل في الأراضي الايرانية والرئيس يحلم بتصفية حساب تاريخي واستغلال «فرصة لا تتاح الا كل مئة سنة او اكثر». سأل احد الصحافيين صدام حسين عن مستقبل ايران كدولة فرد بابتسامة خفيفة مطبوخة بالعنجهية: «هذا امر تقرره الشعوب الايرانية». وكان واضحاً ان صدام يحلم بتفكيك ايران. بعد عشر سنوات سيرسل الرجل نفسه جيشه لغزو الكويت ومن دون اطلاع وزير الدفاع ورئيس الاركان. كان صدام يريد زعامة الاقليم وان تعترف له اميركا بحقه في ان يكون شريكها الاول. وفي سياق معركة الدور هذه انتج صدام اسلحة كيماوية وجرثومية وارتكب الحلم النووي.
عقدة الزعامة والدور دفعت معمر القذافي الى تبديد ثروات هائلة في مغامرات مضحكة مبكية. ارسل الاموال والمتفجرات في اكثر من اتجاه وارتكب الحلم الكيماوي والنووي. أوفد قوات لدعم عيدي امين في اوغندا ثم تبين انها لا تتقن القتال في الغابات. ارسل قوات الى تشاد وعادت مهزومة. فجر الطائرات ودفع التعويضات لاحقاً. يئس من انتزاع الزعامة العربية فاشترى تاجاً ونصب نفسه ملكاً لملوك افريقيا. والبقية معروفة.
اعرف تماماً الفارق بين ايران والعراق وليبيا لجهة الدول والانظمة وصناعة القرار. لكنني اسأل نفسي احياناً هل سنكتب بعد سنوات ان ايران ايضاً دفعت ثمن لعنة الزعامة والدور؟. لا اعرف لماذا يخالجني شعور ان ايران ستنوء تحت اعباء الدور الكبير على غرار ما حل بالاتحاد السوفياتي. وان التهديدات التي يطلقها مسؤولون فيها عن «الشوط الاخير من المباراة» مع الغرب على ارض سورية تنم عن سوء تقدير للاخطار ومكابرة في قراءة المشهد.
وامام المشاهد السورية الراعبة يطاردني في هذه الايام سؤال: هل تدفع سورية حالياً ثمن استنزاف قدراتها وطاقاتها في احلام الدور الاقليمي ومعارك الخارج في وقت كانت تحتاج فيه الى الالتفات الى الفقر المتزايد في الارياف وتنامي البطالة وتصاعد الغضب من الفساد ومقاومة الحزب لواجب التقاعد واصرار الامن على الامساك بالحناجر والاقلام والنوافذ واجهزة الكومبيوتر.
تستحق هذه المنطقة ان تعلن منطقة منكوبة من فرط ما شهدت وتشهد. انها قصة حكام وأوهام وركام.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى