كتب

حياة مؤجلة في رواية ‘الرجل الذي كان يحب الكلاب’

وفرة المعلومات المتضاربة بشأن الأحداث والتحولات الفارقة في حياة الأمم قد يكون تحدياً بالنسبة للروائي الذي يريدُ كشف الغطاء عن الجانب المتواري من المشهد من خلال الآليات السردية التي يتشابكُ في إطارها المتخيل بالحقيقة طبعاً ليس الكاتبُ مطالباً باستنساخَ مارودَ في المدونات التاريخية وهذا لا يعني بالضرورة بأنَّه يخالفُ الحقيقة إنما يهمهُ تصميمُ مادتهُ وفق منطقه الاشتقاقي.

 أكثر من ذلك فإنَّ المهمة تزدادُ صعوبةً إذا كان العملُ الأدبي مستوحياً موضوعه من تاريخ قريب ولا تزالُ وقائعه وشخوصه ماثلةً في الأذهان هنا يتمكنُ الروائي من الانفصال عن السياق التاريخي وذلك بالانصراف عن العام والمشترك والاهتمام بالفردي والجزئي.

الأمر الذي تراه بالوضوح في منهج الكاتب الكوبي ليوناردو بادورا إذ يرصدُ في روايته المعنونة بـ”الرجل الذي كان يحب الكلاب” مفاعيل الثورة الروسية والحرب الأهلية في إسبانيا على مصير شخصيات محددة.

وتستشفُ هذا الملمح من استعادة رامون ميركادير ديل ريو للحوار المتبادل بينه وبين أمه كارديدا على سفح جبل غودارما عندما كان مقاتلاً في الجيش الجمهوري إذ سألته عن استعداده للقيام بعملية تخدمُ المشروع الثوري وما من الإبن المأخوذ بأحلام عريضة إلا أنْ وافق ومنذ ذاك الوقت غابت ماهية رامون وأصبح كائناً يتمُ تطويعه ذهنياً وجسدياً لتحقيق الهدف الأكبر وهو تصفية عدو الثورة والضليع في التآمر على منجزاتها “تروتسكي” وينضمُ الأخير إلى الحزام السردي المتسع لتداعيات الصراع الناجم من التسابق للصعود إلى سدنة السلطة.

هذا ناهيك عن انفتاح فضاء النص على بوادر الحرب العالمية الثانية وما أسفر عن هذه المرحلة من تبدلات في موازين القوة واقصاء ماكان يعتبرُ خصماً لستالين جسدياً.

والأهمُ في هذا المنحى أنَّ جغرافية الإتحاد السوفياتي تكونُ في صميم المشهد الروائي بالتوازي مع تحركات رامون وانتقالات الزعيم المنفي كما تقع الشخصيتان في بؤرة المتن الروائي من حيث الفعالية.

شخصيات مركبة   

تقومُ أركانُ الرواية على الشخصيات التي تمتازُ بوجود واقعي وليست مخلوقات ورقية وتعرف عليها المتلقي في سياقات أخرى لكن التفصيل في بناء العلاقة بين شبكة الشخصيات ضمن المناخ السردي هو ما يعمقُ البعد الدرامي ويزيدُ من حيوية المادة المسرودة إلى أنْ تكتملَ مواصفات هوية العمل ولايكون اجتراراً للتاريخ أو مختزلاً في وظيفة توثيقية عليه نجح بادورا في اختيار شخصيات مركبة تتباين أدوارها في مراحل الحياة وهذا ماينطبقُ أكثر على تروتسكي الذي كان صنواً لرفيقه لينين إذ ما أن تقترب السفينة التي تقلُ لييف دافيدوفيتش إلى شواطئ المكسيك حتى يذكره المشهد بالحشود التي أحاطت بلينين ومحاولة إغتيال الأخير في 1918.

مايعني بأن تروتسكي كان مقتنعاً بحتمية استهدافه وسحقه فهو قد كابد معاناة تضاهي ماقدرَ لشخصيات أسطورية تنتحرُ إبنته زينا وأودي العنف الستاليني بحياة ابنيه سيروجاٍ وليوفا فمقتل الأخير كان إيذانا بأن العدد التنازلي قد بدأَ لإسدال الستار على حياة تروتسكي.

فيما تتناولُ الرواية عملية مطاردة قائد الجيش السابق ومحاصرته فإنَّ الراوي يتكفلُ بالإخبار عن ضلوع تروتسكي في جريمة “كرونشتادت” وإعدام الأبرياء مستبطناً مايعتملُ في أعماق ذكر البط كلما دار الحديث حول سحق البحارة في عام 1921 واستمرار التنكيل بالمحتجين والمُطالبين باجراء الانتخابات والمفارقة تتمثلُ في احتمال خسارة البلشفين للسلطة وفقدان ثقة العُمال إذا تمت تلبية تلك المطالب.

ومن المعروف أنَّ الرهان معقودُ على القوى العُمالية لبناء المجتمع الشيوعي حسب نظرية الماركسية،أياَ يكن الأمر فإنَّ تروتسكي لاينسحب من فضاء الرواية بل مُستقطباً مدارات السرد بشخصيته المتعددة الأبعاد فهو إضافة إلى مشاركته الفعالة في انطلاقة الثورة كان مفكراً وعسكرياً كما أنَّ حياته كانت تضجُ بمُغامرات عاطفية وفق ماتفيد بذلك محتويات الرواية.

فكانت زوجته الأولى وسيطةً وبينه وبين الماركسية زودتهُ ألسكاندرا سوكولوفسكايا بأولى كراسات ماركسية وبذلك أخذت حياة المناضل اليافع منحى جديداً.

وحين استقر المقام بالثوري المُطارد في البيت الأزرق وحل ضيفاً على الرسام المكسيكي ديغو ربيبرا وفريدا كاهلو قد هام غراماً بزوجة الرسام بعدما لم تجدِ مغازلاته مع كريستينا إلا خيبةً.

ويفهمُ مما يردُ في تلافيف الرواية أن مفوض الحرب السابق كان متذوقا لشعر بودلير ويزور قبر صاحب “أزهار الشر” برفقة نتاليا منشداً قصائدهَ.

إذن يجوسُ الروائي في حياة تروتسكي متعهداً برواي كل العلم لترتيب المروية السيرية وقد يتخذُ السردُ في هذا المفصل صيغة خبرية كذلك الأمر بالنسبة للأجزاء التي تدور حول القاتل رامون.

ميتافيزقيا الثورة

تحفلُ الرواية بشخصيات مُتعددة وتتوالي الأحداثُ في بيئتها المُحتشدة بالقصص إذ يتحركُ السردُ على ثلاثة مستويات فمن جهة يضعك أمام شخصية إيبان الذي يتركُ له المؤلف مجالاً لرواية قصته بمضير المتكلم فمن خلاله تتواردُ المعلومات عن كوبا وماتحملهُ الشعبُ من وزر سوء الأحوال الإقتصادية والسياسة العقائدية المُتشددة إذ تتفاقمُ الأزمة أكثر بعد انهيار جدار برلين واندثار الطوباويات ويحلُ حزنُ ثقيل على أسرة إيبان بعدما يلتهمُ المجهولُ أخاه وليام ومن ثمَّ يخطفُ الموت والديه وينفصلُ من زوجته راكليتا.

وتدورُ مروحة السرد من جهة أخرى حول مسيرة حياة تروتسكي والثمن الذي يدفعهُ بعد خلافه مع جوزيف ستالين ورأي عراب مفهوم الثورة المستمرة عن غريمه اللدود، وأول صدفة قد جمعت بين الإثنين كانت في لندن ولم يجد تروتسكي أثناء اللقاء في ستالين شخصية قمينةٍ بلفت النظر ويلتقي به لاحقاً في فيينا أنذاك كان تروتسكي الخطيب والمفكر معروفاً فيما الدب الجورجي لم يزلْ بعيداً عن الأضواء ويتذكرُ الزعيم المنفي ماقاله لينين عن خلفه بأنَّ اختصاصه هو عدم الإيفاء بالوعود ضفْ إلى ذلك كلام بوخارين الذي سيكون أحد ضحايا الإرهاب الستاليني إذ يرى بأنَّ الصفة الأساسية في شخصية ستالين هي الكسل والحسد.

ولاتكتملُ أطراف الإطار السردي دون إضافة شخصية رامون إذ يتوغلُ الراوي في مناخ حاضنته الأسرية مشيراً إلى مقتل أخيه بابلو وثورة أمه على القيم البرجوازية إلى أنْ تنضمَ إلى الجيش الجمهوري الإسباني وتصبحُ وسيطة بين إبنها والمستشار السوفياتي كوتوف تتضافر عدة عوامل في انقلاب مسيرة حياة راموان ميركادير الذي  برمج على تقمص أدوار وشخصيات مختلفة بمسميات متنوعة والحال هذه عندما يلتقي بـ”إيبان كارنياس” في “سانتا ماريا دل مار ” بكوبا يكون متستراً وراء إسم خايمي لوبيث.

يذكر أنَّ لعبة الأسماء هي ركن أساسي في العلاقة القائمة بين رامون ومعلمه كوتوف فالأخير تتبدلُ أسماؤه تبعاً لمكان إقامته وفي الواقع تثير هذه العملية التمويهية استغراب رامون الذي حلَّ الرقمُ  مكان إسمه الحقيقي في قاعدة”مالاخوفكا” حيثُ تزدادُ الفجوة اتساعاً بين رامون ورقم 13.

ومايعلنُ عن التحول في شخصيته هو قتله لرجلين خلال الحصة التدريبة إطاعةً لأوامر أسياده.عليه يسكنُ رامون في شخصية جاك مورنارد في موسكو ويشهدُ محاكمات قادة الحزب الشيوعي ياخودا وبوخارين ولعبة مسخ الشخصية قبل الانتقال إلى محطته التالية في فرنسا إذ يتعرفُ هناك على سيلفيا المناصرة للتيار الذي يتزعمه تروتسكي هكذا تتابعُ الأيامُ إلى أنْ يتجاورَ القاتلُ العجوزَ الرابض في كويواكان.وفي هذه المسافة الفاصلة بين محاورة كارديد مع إبنها ولحظة إنقضاض رامون على تروتسكي يضجُ فضاء الرواية بالأحداث والشخصيات ومعمعان الصراع والملاحقات دون أن يسحبُ كل ذلك الأضواء من حياة إيبان الذي يتعهدُ إليه رامون المتنكر باسم خايمي رامون لوبيث بأوراقه ومدوناته.

ولاينقطعُ شريطُ السرد بمقتل تروتسكي الذي تدوي صرخته في رأس قاتله.بل يبدأُ فصل آخر في حياة رامون إذ يمضي سنوات من عمره في معتقل ليكوبيري قبل أن يعودَ إلى موسكو التي يكونُ فيها الخوفُ أقلَّ وطأةً بعد غياب ستالين ولكن عودة الوعي تورث ألماً لدى القاتل الذي لم يعشْ حياته الحقيقية لأنَّ الثورة قد اتخذت طابعاً ميتافيزيقيا ومايقولهُ كونديرا عن صيغة الملف في رواية “المحاكمة” لكافكا ينطبقُ تماماً على مفهوم الثورة التي تتطلبُ تأجيل الحياة وأولوية الفكرة على الشخصية.

صنعة

لايستمدُ هذا العمل الروائي عناصر تشويقه من مناوراته خارج التقيدات التصنيفية فحسب صحيح أن بادورا تمكن من توظيف التاريخ وتطعيم نصه بطابع ملحمي وتطويع تقنيات مابعد الحداثية وامتداد قوس السرد للحديث عن كتابة القصة داخل الرواية وايراد المدونات دون الإسراف في بناء النص الإبداعي لكن مايضاعفُ من طاقة النص هو التفصيلات الدقيقة التي تعدُ قوام الرواية وهذا مايفيدُ بأنَّ التفصيل فن تماماً مثل الحذف.

أكثر من ذلك فإن مؤلف “وداعا همنغوي” يطرزُ عمله وفق المبدأ التشيخوفي لا يكون دور شخصياته تمطيطاً لرقعة السرد بل يفاجئ المتلقي بإستعادة معظم الشخصيات في الفصول الأخيرة لعلَّ أكثر مايؤكدُ دراية المؤلف هو الوظيفة التي تسند إلى الرجل الأسمر الذي يرافق رامون في كوبا وهو يغادرُ منطقة الصمت سارداً آلام القاتل في أيامه الأخيرة.

كما يتحققُ ترابط أوصال النص حين يستبطنُ الراوي دواخل رامون وهو يتداعي في ذهنه سيل الافتراضات بمجرد تذكر إبنته لينينا التي أنجبها من افريكا المرأة التي فتنته بشخصيتها وإرادتها الثورية ومايزيدُ من شحنة عاطفية في هذا السياق هو مقتل لينينا دون أن يراها الوالد أبداً.

والمفارقة الديستوبية في الرواية تتمثلُ فيما يسمعه رامون من معلمه بأنَّ السجن قد أنقذه من الإرهاب الستاليني الذي كان يستهدف كل بيادقه واحداً تلو آخر.

والمؤثر في كلام رامون هو اعترافه بأنَّه لو قرأ كتب تروتسكي مسبقاً ماتورط في جريمة قتله وماتستخلصُ إليه أن مايكون عاملاً وراء مضي رامون لارتكاب الجريمة هو الخوف وليس يقينا عقائديا.

يشار إلى أنَّ النظام الشمولي لايلقي بظلاله الثقيلة على نفسية الكائن البشري فحسب بل يبدل وظيفة وتصميم المباني والمدن.

وقد يبحثُ المتلقي عن العنصر الذي راهن عليه بادورا في روايته الملمحية لتفادي مطبات الملل والرتابة طبعا المتعة المنبثة في جسد النص والفنيات العالية في التنظيم والتناوب في آلية الضمائر كل ذلك يزيدُ السرد رشاقة وخفةً.

كما أنَّ عتبة العنوان تتواصلُ مع محتويات الرواية إذ يكون الكلبُ بمثابة وسيط بين إيبان وزوجته الثانية آنا كما أنَّ الكلب يكسرُ الجليد بين رامون وأجواء بيت تروتسكي.

لايخلوُ النص من إيحاءات رمزية وذلك يتجلى في مشهد موت إيبان إذ يراه صديقه تحت أنقاض سقف غرفته المنهارة مع كلبه كأنّ المؤلف أراد بهذا الإبانة وزر الأفكار التي تحملها جيلُ قدرَ عليه أن لا يعيش حياة حقيقية.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى