خذوا رئيساً وانتخبوه ! (نصري الصايغ)

 

نصري الصايغ

قريباً، لن يكون للبنان رئيس إلا إذا…
أمس واليوم وغداً، لن يكون للبنانيين أمن مستتب، إذا… والتشابه بين الاستحقاقين الحيويين، أن اللبنانيين يعرفون جيداً أن الانتخابات الرئاسة ليست من اختصاص "الطبقة السياسية"، وأن الفلتان الأمني يدار من الخارج، بحضانة داخلية موفورة الدعم والتأييد والتحريض.
كان من المفترض، منطقياً فقط، أن توفر حكومة "المصلحة الوطنية" (لقب غريب لحالة شاذة) فرصة صغيرة للملمة الوضع الأمني، لوقف جموحه، لمنع انتقاله، لخفض منسوبه، لنزع فتائله، لوقف التحريض والتأييد والتبرير… كل ذلك لن يحدث. الحكومة تعيش في الفراغ. هي في مكان، السياسة في مكان آخر، والضوابط الأمنية في أماكن عدة، قليلها في لبنان، وعديدها في الخارج.
الاجتماعات الأمنية، الخطط التي وُضعت لطرابلس، غض النظر الذي تحظى به الجماعات الخاطفة للمواطنين الأبرياء، الانسحاب من تنكّب المسؤولية من فرقاء النزاع السياسي المطل على الشارع الفالت من كل قيد. كلها باتت معروفة. نتائجها تدل على هزالة أوصياء السياسة وأوصياء الدماء النازفة من سواهم.
ما لنا وللأمن! فلننتظر النهائيات البعيدة في المحيط. فلننتظر الفصل الأخير من الحروب السورية، وما بعد ريف دمشق والقصير ويبرود وريف حلب وحلب وريف حمص وحمص، ريف درعا ودرعا ومحيط دير الزور ودير الزور… ما لنا وللأمن! فلننتظر احتمالات ازدياد الافتراس الجهادي والإسلامي وانعكاساته على المنطقة. بيروت وضواحيها، طرابلس وضواحيها، الضاحية وضواحيها، الشمال وضواحيه، البقاع وضواحيه، شديدة الاتصال بدمشق وضواحيها ومحافظاتها، والعراق وأقاليمه، وقطر وأنابيب دعمها، والسعودية وحروبها في كل مكان، وعلى أي كان، لا يكون تحت خيمتها… لبنان أمنياً، هو أولاً في الإقليم. أما سياسياً، فلم تأت ساعته بعد.
فازت الحكومة بالثقة. لماذا ارتسمت على شفاه كثيرة ابتسامة ساخرة. يعرفون أن الحكومة لن تحكم، لا بهذه الثقة ولا بسواها. الحكومة محكومة بمن فيها قليلاً، وبمن هم خارجها كثيراً. والخارج مكتظ بالعنف والجبهات والأعداء والأوصياء. لذلك، لا يعوِّل اللبنانيون عليها. هي فقط، فراغ يسدُّ فراغاً أعظم. شيء من اللامنطق واللاسياسة، أليس كذلك؟ بل هو كذلك وأكثر.
أما بعد، فالذهاب إلى الاستحقاق الرئاسي، يدفع حشرية اللبنانيين المنخرطين في تيارات وفي أحزاب للمفاضلة المجانية بين المرشحين المتبوئين لائحة اشتهاء الموقع. ومثل هؤلاء يخوضون جدالاً حامياً، متوقعين أن يبدأ لبنان فصلاً جديداً من حياته الجديدة.
فالجنرال ميشال عون يحظى بتأييد حقيقي من تياره، وتأييد ملحق به من قبل حليفه الماروني، سليمان فرنجية، ومن قبل حليفه المركزي "حزب الله". ولكن الرئيس نبيه بري "يصلّي" كي يبعد عنه هذه الكأس. وليد جنبلاط سيخترع من المواقف والأساليب والاستدارات، كي لا يكون للجنرال بصيص حظ في بلوغ الرئاسة. فهو، على ما يظن بشدة، يعتبر أن عون لا يُطاق خارج السلطة، وفوق الاحتمال داخل الحكومة، فكيف يكون الحال في الرئاسة؟ وهنا، لا بد لجنبلاط الاستعواذ، إلا إذا…
الانفتاح العوني على الجميع لا يلغي إغلاقه الأبواب والنوافذ في وجه خصومه "الأشاوس"، ولا ينسي اللبنانيين حروب "ملفات الفساد" التي ظلت مغلقة دائماً. الغزل اللدود، بالإشارة، بين عون والحريري، لا يطعم عنباً. الحصرم السابق مذاقه صعب. وحساب المصالح ليس مؤكداً، فما يقال للحريري عن قوة عون إزاء قوة حزب الله، وإمكانية انتزاع القوي من الأقوى مواقف أساسية، ليس حقيقياً. فما يريده الحريري من حزب الله، لا يستطيع سداده عون، ولو كان رئيساً للجمهورية، في حقبة المارونية السياسية السالفة.
يتراءى لجعجع أنه المرشح القوي. قوي بمن؟ بذاته أم بحلفائه؟ قوي بعواصم القرار. أميركا ليس عندها مرشح واحد. السعودية ليست مضمونة. أوروبا آخر من يحسب لها حساب. أما الخصوم، فإنهم ما زالوا يلبسونه ثوب "قائد القوات" في أزمنة القتال. وصورته هذه قاتلة له ولأحلامه. غير أن اللائحة بعد ذلك تطول، وأسماؤها تزن في العواصم وليس في شوارع لبنان وأزقته السياسية. الأسماء تبدأ من مصرف لبنان إلى كل ماروني سلك طريقاً معوجاً في السياسة والإدارة وما بين السفارات والمرجعيات.
لن يكون للمرجعيات "الروحية" أي دور في التمديد. سيُعطى لها أن توافق علناً، ولو غصباً عنها. وفي الأساس، هي "كومبارس"، أو ملحق بزعامات سياسية، مع بعض الامتيازات الدسمة والمصالح الراجحة. هذه أيضاً لا يعوَّل عليها.
فريق «8 آذار»، وبلسان السيد حسن نصر الله، أعلن أنه سيكون له مرشح رئاسي علني. جعجع يطالب فريق «14 آذار» بذلك أيضاً. ولكن المعركة ليست تخاض داخل قوس البرلمان. فمن هم داخل البرلمان، مرجعيتهم ليست هنا. أصواتهم مجيَّرة. ولا ضرورة لإعادة حكاية إبريق الزيت اللبنانية. فمعروف كيف تم تعيين شارل دباس من قبل الديكتاتور الفرنسي الانتدابي الاستبدادي، وكيف تم اختيار رؤساء للبنان من عواصم القرار البعيدة والقريبة، وكيف فرض الرؤساء في زمن الوصاية السورية. فشعب لبنان العظيم، مسرحية سمجة. هذا العظيم جداً في مقام المفاخرة الشعرية، وضيع جداً في مقام السيادة والكرامة والوطنية.
لعل الرئيس سليمان فرنجية هو الوحيد الذي انتخب بإرادة لبنانية، في زمن كان الإقليم يعيش حالة الغيبوبة، بعد نكسة حزيران، و«أيلول الأسود»، وتراجع دور عبد الناصر قبيل وفاته بأيام.
قلنا: قريباً لن يكون للبنان رئيس، إلا إذا…
إلا إذا قدرت واشنطن، لا سواها، على انتزاع اتفاق بين السعودية وإيران، بشأن حل الفراغ، خوفاً على مصالح الطرفين أولاً، وما تبقى من لبنان ثانياً، وهذه المهمة ليست صعبة فقط، بل تكاد تكون من جنس الهذيان، لما بين البلدين من عداء، تخوض السعودية حروبها في ضوئه. وهي حروب لم تتوقف، وحروب تندلع، وحروب لن يوضع لها خاتمة قريباً.
وجه الاستحالة بادٍ من السعودية التي غضبت من أميركا، لأنها خفضت من منسوب العداء لإيران. وجه الاستحالة، الحرب السورية حيث ينخرط الطرفان في الجبهات، قتالاً وسلاحاً ومالاً ورجالاً ونفوذاً وقيادة عمليات… والحرب في سوريا ليست على التوقيت الرئاسي. ثم أصبح لسوريا رأي، بعد نشوتها بما حققته مع "حزب الله" في المعارك الأخيرة، فما عاد ممكناً أبداً تجاهل قصر المهاجرين.
وجه الاستحالة، أن صانع الرئيس المقترح، سيكون مؤلف حكومة سلام، لا سواه. ديفيد هيل عقد صفقة مع الجميع لولادة الوزارة. لقبول "حزب الله" في الحكومة، وهي العقدة الأصعب التي كانت تتمسك بها السعودية وفريقها… هيل لعب على إقناع الحريري من خلال السعودية، لعب على إقناع طهران من خلال الثنائي اللبناني، نبيه بري ووليد جنبلاط… فهل ستكون خريطة الطريق هذه سهلة ويمكن سلوكها مرة أخرى؟
لا يبدو الأمر كذلك. فالرئاسة ليست الحكومة. يكفي أن يقول الجنرال لا… حتى يسقط المرشح المدعوم… إلا إذا. الجنرال يتمتع بحق النقض، و"حزب الله" هذه المرة معه لن يتركه وفاءً وسياسة.
لهذا… العين بدءاً من يوم غد، ستكون على هيل. فقد يكتشف رئيساً لا لون ولا طعم ولا.. له. ولدينا من هؤلاء نسخ كثيرة صالحة للديكور.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى