خمسون عاما من العمل الثقافي (1)- (فؤاد قنديل)

 

فؤاد قنديل

 

من المواقف التي تطلبت مني ابتكارا أن بعض الممثلات كن يعطلن التصوير ويغبن دون سابق إشارة مدعيات المرض ثم يطلبن تغيير العقد ومضاعفة الأجر.

لست أدري السر فيما جرى! فجأة اكتشفت أني أعمل بالحقل الثقافي منذ خمسين عاما. بالضبط منذ ديسمبر/كانون الأول عام 1962حيث التحقت بشركة مصر للتمثيل والسينما (استديو مصر) احدى شركات بنك مصر التي أسسها خالد الذكر طلعت حرب رائد النهضة الإقتصادية المصرية في القرن العشرين، كانت خطابات التعيين تصل إلينا في المنازل دون أن نعلم عنها شيئا. كانت البنوك والشركات الكبرى ترسل إلى خريجي الكليات والمدارس الفنية طالبة أسماء العشرين الأوائل وعناوينهم، وسرعان ما ترسل إليهم رجاء بالحضور لاستلام العمل، وأعتذر عن إثارة هذا الموضوع الآن فليس من شك أنه ربما يزعج شباب اليوم الذين يعانون من البطالة.
كان هذا دأب الدولة في الخمسينيات والستينيات وما أدراك ما الخمسينيات والستينيات. وصلتني العديد من الخطابات فأهملتها جميعا حتى دق الباب خطاب من استديو مصر فقبلت على الفور وسافرت من بنها إلى الهرم لاستلام العمل، طلب مني مدير الحسابات الجلوس على مكتبي. كان كبيرا وقديما تبدو على ملامحه آيات الإهمال، ولمح المدير على وجهي بعض الامتعاض، فقال لي: إنه مكتب عماد حمدي ولم يجلس عليه أحد منذ تركه وانشغل بالتمثيل.
عندئذ انفرجت أسارير وجهي فأنا من محبي هذا الفنان، وأسرعت بالجلوس عازما على أن أجعل منه مكتبا أنيقا يحسدني عليه رئيس مجلس الإدارة شخصيا وكان موسى حقي شقيق كاتبنا الكبير يحيي حقي، ولما لمس المدير أني رضيت ناولني في وجهي وسمعي على الفور بنبأ صادم وهو أننا في هذه الأيام نعمل ليل نهار لننجز الميزانية التي لم تتم حتى الآن، وهكذا عدت إلى بيتنا في بنها حوالي الساعة الرابعة صباحا، وتوالت الأيام على هذا النحو إلى أن اقترح عليّ صديق من عمال البلاتوه وهو المشرف على حجرات الممثلين أن أنام في حجرة من حجراتهم، فكنت أختار في كل ليلة حجرة لممثلة شهيرة بدلا من سفري إلى بنها ولم يطل هذا الوضع اللذيذ، فقد أسرع والدي باستئجار شقة، فوجدت في لحظات شقة ثلاث غرف في عمارة جديدة في أول شارع البحر الأعظم وتطل على النيل وكوبري عباس وعلى يميني وأنا في الشرفة سينما شهرزاد، وكانت الأجرة غالية قليلا فقد كانت ستة جنيهات، وبالمناسبة كان المرتب يكفيني ويفيض.
كنت أتميز بذاكرة رقمية أذهلت كل العاملين، حيث أستطيع محاسبة منتجي السينما دون أن أرجع إلى أية أوراق بحيث أذكر المبالغ وأرقام الفواتير ونوع الخدمات والمبالغ المسددة وأرقام الشيكات التي تسلمناها والرصيد المطلوب سداده كما كنت أجمع الكشف الواحد من أرصدة العملاء والموردين في ثلاث ثوان بينما كان زملائي يستخدمون الآلات الحاسبة لجمع رقمين، وهذا ما تسبب بعد ذلك في نقلي بناء على طلب الكاتب الكبير سعد الدين وهبة للعمل مراقبا ماليا وإداريا للأفلام بعد أن تحولت الشركة إلى قطاع عام. أي أنني أتولي العمل بدلا من الشركة في متابعة الأفلام التي ينفذها القطاع الخاص للدولة.
ومن المواقف التي تطلبت مني ابتكارا أن بعض الممثلات كن يعطلن التصوير ويغبن دون سابق إشارة مدعيات المرض ثم يطلبن تغيير العقد ومضاعفة الأجر، وكان المخرجون لا يجدون غضاضة في أن يقولوا لنا: اعطوهن ما يردن لا نريد التوقف. خسارة الإلغاء أكبر بكثير من قيمة المدفوع لهن، لكني لم أقبل الرضوخ ومضيت ألهب فكري إلى أن توصلت إلى فكرة.. كلفت الريجيسير (مورد الكومبارس) أن يحضر لي خمسة يشبهن تماما يسرا مثلا فيسرع الرجل بعد ساعات قليلة بإحضار عشرة وليس خمسة وأطلب من المخرج الاستفادة بأفضلهن ولو من البروفيل أو بالظهر، ولما يتأملهن يوافق على ذلك مؤكدا على أن الأمر لا يجب أن يستمر فأقسم له أنه لن يطول أكثر من ثلاثة أيام، وفي اليوم التالي أفاجأ بالممثلة حاضرة وتقول: جاهزة يا أستاذ، حيث تكون إحدى صديقاتها أو واحد من زملائها الممثلين قد أخبرها أن فلان الفلاني (يقصدني) فعل كذا وكيت. اعتبر بعض المسئولين والفنانين أني قمت بثورة في تلك الفترة. ومن ثم انتقلت للعمل مديرا لمكتب رئيس مجلس الإدارة الكاتب الكبير عبد الحميد جودة السحار والدكتور عبدالرزاق حسن.
كنت منذ عام 1961 أغادر بنها صباح كل جمعة إلى القاهرة لحضور صالون العقاد الذي التقيت فيه بزكي نجيب محمود وصلاح طاهر وعبدالرحمن صدقي والعوضي الوكيل وروحية القليني وأنيس منصور وكثير من الأساتذة والأعلام. كنت في حضرتهم أكاد أعيش كل عصور الأدب إضافة للفلسفة والتاريخ والعلم. تلفني لحظات نادرة حيث تطير عصافير الفكر والمعرفة والمعلومات في شتى المجالات من حولي وأنا أجتهد كي ألتقط منها ما أستطيع وأعبئ عقلي وخيالي إلى أن مات المفكر الكبير صاحب الصالون في مارس/آذار 1964، لكننى كنت مع الوقت قد أدركت أن الشعر الذي أكتبه منذ سنوات قليلة لا قيمة له خاصة بعد لقائي ببيرم التونسي وصلاح جاهين، وانتقلت عام 1963 إلى كتابة القصة بعد أن تأثرت بمشهد الجنود المصريين العائدين من اليمن فكتبت قصة "الفوج القادم" وأثني عليها عدد من الكتاب، وكتبت عدة قصص بعد ذلك، لكن أول قصة نشرت في المساء عام 1966 كانت "حلم في الظهيرة"، وفي نفس العام نشر لي أول مقال في مجلة الفكر المعاصر.
كان للدكتور مندور الذي التقيت به أوائل عام 1964 الفضل الأول في إضاءة طريقي وتأكيده على أني خلقت للقصة حيث أنني – حسب قوله- صاحب روح حكاءة وثمة إحساس بالناس والنفس الإنسانية، لكنك يجب أن تترك طه حسين ومحمود تيمور وتنتقل إلى يوسف إدريس ويحيي حقي، وكانت رؤية سديدة للغاية فقد كنت عاشقا لهما، وما أن أقبلت على إدريس وأعدت قراءة يحيي حقي حتى أدركت على الفور أن هذه هي الكتابة التي أريد.
وبعد سنة تقدمت لمسابقة نادي القصة فحصلت على المركز الرابع بعد أن كان حظي المركز التاسع قبل عامين، وبعد عامين أحرزت المركز الثاني في الإسكندرية والأول على الجامعات وكذلك مسابقة وزارة الشباب، في منتصف الستينيات.
كان من أصدقائي في تلك الفترة أسامة أنور عكاشة ووفاء وجدي وفاروق جويدة وأحمد عنتر مصطفى ومحمد صدقي وعبدالفتاح الجمل وأحمد عتمان ومصطفي محرم ورجاء النقاش وجلال العشري وفؤاد دواره وعبدالله خيرت والشاعر إبراهيم عيسي، والفنان الضيف أحمد الذي كان متقدما علي في قسم الفلسفة، على أنني لا أستطيع أن أنسي أساتذتي الأعلام في قسم الفلسفة وعلم النفس أمثال زكي نجيب محمود وأحمد فؤاد الأهواني وتوفيق الطويل وعثمان أمين وزكريا إبراهيم وإبراهيم بيومي مدكور ومصطفي سويف (مد الله في عمره)، وقد كنت عازما على دخول قسم اللغة العربية لكن في اللحظة الأخيرة قررت فجأة أن ألتحق بالفلسفة، ومع نجاحي فيها بتفوق عكفت على وضع رسالة الماجستير قبل أن تسجل رسميا في موضوع "الإنسان بين الجبر والاختيار" لكن الدكتور زكريا إبراهيم قاومنى بشدة واقترح عليّ الدكتور إبراهيم مدكور وكان رئيسا للمجمع اللغوي أن أسجل في موضوع "فلسفة الجمال في القرآن" فأشرق النور بقلبي وانصرفت أجمع المادة وأبدأ الكتابة لولا أن فوزي المتتالي بالجوائز الأدبية في القصة القصيرة جعلني أشعر أن الفلسفة ليست طريقي وأنني ضعيف تجاه الأدب وإن لم تفارقني الفلسفة، خاصة إني عندما كنت أنوي التسجيل في موضوع الإنسان بين الجبر والاختيار كنت أعتزم التحيز لحرية الإنسان.
وحدث في حياتي في تلك الفترة عدة أحداث تثبت أن الإنسان مجبر إلى حد كبير على الأقل في الكليات والثوابت. ومن أسوأ تلك الحوادث الصادمة الاجتياح الإسرائيلي لسيناء في عام 1967 الذي زلزلني بشدة وهدد أحلامي لمصر التي كانت تكبر كل يوم مع عبدالناصر الرجل الذي استطاع أن يحقق كثيرا من الأماني للشعب المصري وللعروبة والدول المستعمرة، لكنه لم يحسن التخطيط ولم يحسن قراءة المعطيات التي فرضت نفسها على الساحة بصورة واضحة لا يجب أن يغفل عنها أمثال الرئيس، فهذا الجزء يجب أن نسأله عنه ونظل نسأل، لكن أميركا الاستعمارية لعبت دورا أساسيا وتآمريا فقد أرسل جونسون إلى الروس يطلب منهم أن ينصحوا حليفهم بعدم البدء بالعدوان حتى تمر المسألة بسلام، وفي المقابل دعا إسرائيل أن تبدأ الحرب وقت تشاء فقد أمن لها الطريق، كما أن هناك مسئولية عربية فقد تكالبت وسائل الإعلام على عبدالناصر تتهمه بالتقاعس عن نصرة السوريين الذين تهددهم إسرائيل وقد دخلت أراضيهم بالفعل، وتبين بعد ذلك عدم صحة هذه التهديدات. لكن وسائل الإعلام استمرت تضغط إلى حد قولها: إنه في الحقيقة خائف وليس بقدر كلماته.
المهم أنني لم أستطع بعد الحرب أن أصمت أو ألوذ بالسكات والرضا بالقدر، فقد ركبتني الهموم، ووجدت أن القصة القصيرة لن تعبر عن اللحظة التاريخية التعسة فكتبت أولى رواياتي "أشجان" عن أسرة في السويس عاشت ويلات الحرب وما بعدها والتهجير والتشرد واختفاء ولدها جابر الذي تعول عليه كثيرا لرأب الصدع بالنسبة لمشكلاتها. كان ذلك بين عامي 1968 – 1969، وأصر صديقي الراحل حمدان جعفر الذي كان زميلي في قسم الفلسفة أن تكون "أشجان" باكورة أعماله في دار النشر التي سيؤسسها خلال شهور ثم اختفي الرجل عشر سنوات والرواية معه وأنا أكاد أجن فلم يكن عندي صورة بسبب وعده لي بسرعة الطبع إلا أن يستخرج الترخيص ويستأجر المقر، عرفت بعد ذلك أنه سافر إلى السعودية كي يجمع مالا، ولما عاد كانت بالفعل باكورة أعماله التي تأخرت عن موعد نشرها عشر سنوات.

ميدل ايست أونلاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى