خيارات السيسي في الذكرى الثالثة للثورة (مصطفى اللباد)

 

مصطفى اللباد

حوّلت التفجيرات الإرهابية التي طالت المنشآت والميادين المصرية قبيل ذكرى ثورة «25 يناير» 2011، المشهد السياسي المصري إلى حالة غير مسبوقة من التعقيد والتشابك. ومع المخاوف من دخول مصر نفق التفجيرات الذي دخلته دول مجاورة ولم تخرج منه حتى اللحظة، جاءت الذكرى الثالثة للثورة والأطراف الفاعلة في الحراك السياسي في مواقع مختلفة تماماً. وزادت التفجيرات من حالة الاستقطاب والخوف في المجتمع على خلفية صراعية مفادها الدولة المصرية في مواجهة تيار الإسلام السياسي، فاتحة الطريق بذلك أمام الرجل القوي في النظام الفريق عبد الفتاح السيسي للترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة "قائداً" و"منقذاً" للدولة المصرية في مواجهة الإرهاب المتلفح بالدين.
ميدان التحرير 2014
نهض ميدان التحرير في أغلب الأحوال خلال السنوات الثلاث الماضية وكيلاً عن الحراك السياسي المصري وتوازنات القوى في المحروسة، فتميز بتنوع كبير بين قواه السياسية وأجنداتها المتضاربة، حتى بدا للمتفحص وكأن الفيلسوف هيغل قد قام من رقاده الأبدي ليصوغ فيه الديالكتيك من جديد: الوحدة والصراع ونفي النفي. التف الميدان حول مطلب إسقاط مبارك في ثمانية عشر يوماً مجيدة، ولكن الشروخ بدت فوراً في هذا الاصطفاف بعد تنحي مبارك. بعدها تبادلت القوى السياسية المختلفة التظاهر في الميدان حسب مقتضيات الأحوال، وإن ظهر للكافة أن تباينات القوى المدنية وانقساماتها تمنعها من التحلق حول مطالب مشتركة. بحيث لم تستطع أن تفرض كلمتها وأن تظهر وزنها في مقابل الآخرين. في المقابل، استغلت الميدان قوى الإسلام السياسي، فعرف الميدان "جمعة قندهار"، التي أعلن فيها التيار السلفي عن حضوره في المشهد السياسي بعد شهور طويلة من ثورة لم يشارك فيها بأي شكل من الأشكال. كما عرف الميدان تظاهرات جماعة "الإخوان المسلمين"، التي توصلت سريعاً بعد سقوط مبارك إلى تفاهماتها مع المجلس العسكري عبر رسم خريطة طريق تؤاتي مصالحها، فقطفت ثمار ثورة لم تشارك في إطلاقها. كانت الذكرى الثالثة مختلفة عن كل ذلك، إذ تحولت إلى سيطرة كاملة للنظام الحالي على الميدان، سواء عبر الصور الضخمة المعلقة في الميدان للفريق السيسي، أو في إحياء فرقة موسيقى الشرطة للأغاني في الميدان. هكذا احتفل الحاضرون في ميدان التحرير بالذكرى الثالثة لثورة لم تكتمل حتى الآن على أنغام موسيقى الشرطة، التي قتلت في اليوم ذاته عشرات المتظاهرين في أنحاء مختلفة من الجمهورية، واعتقلت المئات على خلفية اشتراكهم في تظاهرات الذكرى خارج الميدان. وإذ خالط البعض إحساس بالقهر والعجز، وهم يرون ثورتهم تُختطف للمرة الثانية من فلول النظام السابق الرافعين لصور الفريق السيسي، فقد تحلقوا في ذكراها الثالثة حول شاشات التلفزة مستذكرين أفضل شيء حصل في حياتهم وحياة أجيال مختلفة من المصريين: ثورة «25 يناير».

«25 يناير» في مواجهة «30 يونيو»

قبل الذكرى بأسابيع، سادت في الإعلام المصري، الحكومي والخاص، نقاشات حول أيهما أحق بإطلاق وصف "ثورة" عليه: «25 يناير» العام 2011 التي أطاحت مبارك، أم «30 يونيو» العام 2013 التي أسقطت مرسي. وإذ تكالبت جماعات المصالح والنفوذ من أنصار النظام السابق على إعلاء ذكرى الموجة الثانية من الثورة التي أسقطت مرسي على ذكرى الموجة الأولى، فيما توحدت القوى المدنية حول أسبقية «25 يناير» باعتبارها الموجة الأم التي تتلوها موجات أخرى، أما جماعة "الإخوان المسلمين" فقد حاولت التمسح من جديد في ثورة «25 يناير» طلباً لسلطة الدكتور مرسي الساقطة وليس الديموقراطية. وتحول الشحن الإعلامي على خلفية أسبقية التواريخ إلى مادة أساسية صنعت وعي بسطاء المصريين، خصوصاً مع تشويه إعلامي متعمد ومتواصل منذ أسابيع لرموز شبابية للثورة، بغرض الحط من قدرهم وإلصاق تهم العمالة بهم. وساهمت التفجيرات الإرهابية الآثمة التي جرت قبل الذكرى الثالثة بيوم واحد، إلى دفع عشرات الألوف من المصريين إلى التظاهر دعماً للفريق السيسي والنزول إلى ميدان التحرير لإظهار ذلك. كان مشهد التحرير في ذكراه الثالثة غريباً، فتجاوزات الشرطة أطلقت شرارة الثورة وفي يوم الذكرى الثالثة بدت الشرطة حاضرة بفرقتها الموسيقية ومحتفلة بحضورها العلني. ولئن ساهمت التفجيرات الإرهابية في ازدياد النقمة على جماعة "الإخوان المسلمين"، فإنها لا تنفي – بغض النظر عن الفاعلين – تدني الكفاءة عند جهاز الشرطة وإلا لمنع حدوثها. كما أن الفريق السيسي الذي توزعت صوره الضخمة على أركان الميدان، كان مديراً للمخابرات الحربية وقت اندلاع الثورة، وبطبيعة الحال لم يشارك فيها، ولكن نزوله على إرادة غالبية المصريين في «30 يونيو»، وجرائم الإرهاب المتتالية من وقتها، جعلت التحرير يعطيه تفويضاً بالترشح في انتخابات الرئاسة المقبلة.

خيارات السيسي

ربما يعتقد البعض أن طريق الفريق السيسي قد صار معبّداً إلى رئاسة الجمهورية، وأن المسألة مجرد وقت قبل الإعلان القريب عن التبكير بانتخابات الرئاسة وترشيح السيسي لها، ولكن نظرة أعمق إلى الأمور ربما لا تتطابق مع هذا الاعتقاد. لا يماري أحد في أن السيسي هو رجل النظام القوي، وأن شعبيته الجماهيرية الراهنة ستجعله يربح الانتخابات الرئاسية في مواجهة أي مرشح في انتخابات نزيهة وبرقابة دولية. وبالرغم من ذلك تبدو مشاكل مصر الاقتصادية والاجتماعية أعقد كثيراً مما يعتقد، إذ ما زالت العدالة الاجتماعية، باعتبارها هدفا أساسا للثورة، غائبة وذلك بعد مرور ثلاث سنوات على سقوط مبارك تقلب خلالها على السلطة كل من المجلس العسكري والدكتور محمد مرسي والرئيس المؤقت الحالي عدلي منصور، دون حلول واقعية وناجزة؛ وبالتالي ليست الرئاسة الآن مغنماً بأية حال في ضوء هذه المشاكل الكبرى. وعند استمرار الغياب للعدالة الاجتماعية مع رئاسة السيسي، فستنزل الجماهير المصرية التي كسرت حاجز الخوف إلى الشوارع مرة أخرى مطالبة بحقوقها، وساعتها ربما تفقد المؤسسة العسكرية شعبيتها مرة أخرى.
وفي هذا السياق، ينبغي التذكير بالشعبية المتدهورة للمشير طنطاوي والفريق عنان إبان حكم المجلس العسكري السابق، الذي فشل في حل مشاكل مصر الاقتصادية والاجتماعية، فيما أنقذ السيسي شعبية المؤسسة العسكرية بنزوله على إرادة المصريين في خلع "الإخوان المسلمين". ربما كان الأفضل – من وجهة نظر السيسي – أن يُنتخب رئيس مدني له بعض القبول يتعاون مع وزير الدفاع القوي والمسنود بالدستور الجديد، للتعامل مع هذه المشاكل في السنوات الأربع المقبلة. وبغض النظر عن هوية الرئيس الجديد، سيعني التعامل مع المشكلات الاقتصادية والاجتماعية العويصة إظهار الانحياز الاجتماعي للرئيس، وهو أمر ستكون له في كل الأحوال كلفته السياسية العالية. ولا يخفى أن التحالف الاقتصادي – الاجتماعي المؤيد للسيسي راهناً يتكون من الطبقات الشعبية المصرية ومؤسسات الدولة المصرية وفلول النظام السابق ورجال الأعمال الكبار المستفيدين من عصر مبارك، وهو تحالف متناقض في أساسه الاجتماعي؛ وبالتالي فسينفرط عقده بعد فترة قصيرة من وصوله إلى هدفه بإيصال السيسي إلى مقعد الرئاسة. وبغض النظر عن ترشح السيسي لانتخابات الرئاسة – وهو أمر وارد جداً – من عدمه، تبدو الانفجارات الإرهابية المجرمة على منشآت الدولة المصرية ومعالم حضارتها (المتحف الإسلامي) دافعة إلى تغليب مرحلي لتناقض الوطني المصري مقابل الإرهاب على تناقض العدالة الاجتماعية، والأخيرة هي مطلب الثورة الرئيس.
استرد المصريون ثورتهم المخطوفة من "الإخوان المسلمين" في الموجة الثانية للثورة، لكن نضالهم ضد الجماعة لم يعن يوماً قبولهم بعودة الاستبداد وإغلاق المجال العام مرة أخرى أو عودة فلول مبارك، التي تتحين فرصتها تحت شعار ترشيح الفريق السيسي والتلطي وراءه، ولكنها لا تستطيع حتى الآن. سيستمر نضال المصريين المشروع من أجل الخبز والكرامة والعدالة الاجتماعية حتى وصول الثورة إلى أهدافها بغض النظر عن اسم الرئيس المقبل، ومهما بدا الطريق وعراً أو شائكاً كما هو الآن!
تبدو مشاكل مصر الاقتصادية والاجتماعية أكثر تعقيداً، لذلك لا تشكل الرئاسة مغنماً بأي حال. من هنا، ربما كان الأفضل، من وجهة نظر السيسي، أن يُنتخب رئيس مدني يتعاون معه للتعامل مع هذه المشاكل في السنوات الأربع المقبلة.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى