دراسة| الإرهاب العابر للحدود .. الأنماط والمحفزات

شكلت التحولات التي مرت بها منطقة الشرق الأوسط، خلال السنوات الماضية، فرصة مواتية للتنظيمات الإرهابية لتطوير آليات عملها، والتكريس لصيغ عابرة للحدود لنشاطها. فالمنطقة تأثرت كثيرا بتداعيات العولمة، التي تكفلت في الوقت ذاته بتعزيز الخطاب الأصولي المتجاوز لحدود الدولة بالمنطقة، حيث يفترض أوليفيه روا “أن الأصولية هي شكل الدين الأفضل تكيفا مع العولمة، لأنه يضطلع بإزالة هويته الثقافية المحلية، ويتخذ من ذلك أداة لطموحه إلي العالمية”(1).

هذا الخطاب المتأثر بالعولمة، والمبشر بإطار أيديولوجي متجاوز لحدود الدول، وجد له صدي عند التنظيمات الإرهابية الموجودة بالمنطقة. ولم يقتصر الأمر عند حدود التماهي بين العولمة والمنظومة الإرهابية، ولكنه انتقل لمرحلة آخري أكثر عمقا بعد الثورات العربية، والتي كشفت عن هشاشة بنيوية في الدول العربية. إذ تراجع دور الدولة في ضبط أمنها وحدودها، وتنامي تأثير الانتماءات الأولية، ومن ثم تعزيز أدوار الفاعلين الآخرين (من غير الدول)، ولاسيما التنظيمات الإرهابية التي وسعت من شبكات تحالفاتها العابرة للحدود.

الإرهاب العابر للحدود .. الماهية والمحفزات:

يستند الإرهاب في توجهه العام إلي منظومة نفسية تستهدف من وراء عمليات العنف نشر الخوف والقلق بين الأفراد المستهدفين، وذلك لتحقيق الأهداف المختلفة التي يسعي إليها التنظيم (2). وثمة مستويان أساسيان للتنظيمات الإرهابية، أحدهما علي المستوي المحلي الداخلي الذي يقصر الأنشطة الإرهابية علي الداخل، بحيث تكون المنظومة الإرهابية في كافة أبعادها (القيادات، والتمويل، والعناصر، والأهداف) محدودة بحدود الدولة، ولا تمتلك أي امتدادات خارجية.

أما المستوي الآخر (وهو محور اهتمام الورقة البحثية)، فهو مستوي يتعدي حدود الدول، ويطمح إلي الإقليمية والعالمية. وفي هذا الإطار، تصبح المنظومة الإرهابية عابرة للحدود، سواء من خلال عناصر التنظيم التي يمكن أن تنتقل من مناطق لأخري، أو من خلال العمليات التي يتم تنفيذها ضد أهداف في دول مختلفة. وبالطبع، تمتلك هذه التنظيمات مصادر متنوعة للتمويل تمكنها من ممارسة نشاطها(3).

وإجمالا، يعتمد الإرهاب العابر للحدود علي عدد من المحفزات لتعزيز نشاطه، والتوسع الراديكالي في الجبهات المختلفة. ومن الجائز اختزال هذه المحفزات فيما يأتي:

أولا- أزمات الدولة الوطنية: فخلال السنوات الماضية، نشأ اتجاه يري أن “النموذج الويستفالي” الذي يعلي من سيادة الدولة سيتراجع في ظل التحولات التي أفضت إليها العولمة، وما ارتبط بها من تنامي أدوار الفاعلين من غير الدول، فضلا عن حالات الإخفاق التي تمر بها الكثير من الدول، وبزوغ ظاهرة الدولة الفاشلة في العلاقات الدولية، والتي تعطي أريحية كبري للتنظيمات الإرهابية للتحرك عبر الحدود.

واتساقا مع هذا المنحي، افترضت العديد من الأدبيات أن ظاهرة الدولة الفاشلة تقدم للتنظيمات الإرهابية فرصا مواتية لعدة أمور، أهمها تراجع قدرة الدولة علي إنفاذ القانون، واحتكار العنف، حيث ينازعها في وظائفها فاعلون كثر، خاصة مع ظهور ما يعرف “بمناطق خارج سيطرة الدولة” Stateless Areas، والتي تعطي للتنظيمات الإرهابية إمكانية لتأسيس نمط مستقل من السلطة، بعيدا عن الدولة، علاوة علي تزايد معدلات العنف والسخط داخل تلك الدول، بصورة توفر للتنظيمات الإرهابية العابرة للحدود مخزونا بشريا يمكن الاعتماد عليه لتدعيم القوة البشرية للتنظيم(4).

هذه المعطيات المرتبطة بأزمات الدولة كانت لها تجلياتها في منطقة الشرق الأوسط، خلال السنوات الماضية، حيث بات خيار التفكك/الانهيار مطروحا بشكل رئيسي في التعامل مع فكرة الدولة. فبعضها تعرضت وحدته الإقليمية للانحلال لتنشأ محلها دول أخري كما حدث في السودان، والبعض الآخر شهد ضعفا وتفككا للسلطة بحيث تغيب عن مناطق معينة من الدولة. ومن النماذج المهمة علي ذلك حالات سوريا، وليبيا، واليمن، والعراق في مرحلة ما بعد الثورات العربية. وهكذا، شكلت هذه الملامح دافعا لتعزيز أدوار التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود(5).

ثانيا- سؤال الهوية ومعضلة الطائفية: إذ إن التنظيمات الإرهابية الدينية تستند إلي أيديولوجية محددة تستصحب مكانة مركزية لفكرة الهوية، وبالتالي تطرح نفسها كبديل عنيف يعبر عن خيار هوياتي في خضم جدل الهويات غير المحسوم في المجتمعات. فتلك التنظيمات تقوم بالأساس علي فكرة العداء للدولة الوطنية، علي أساس أنها (أي الدولة) كانت نتاجا لتجربة غربية علمانية خالصة لا تتوافق بالضرورة مع النصوص الدينية، بالإضافة إلي اعتماد هذه الدولة علي القوانين الوضعية، وعدم الاحتكام للشريعة.

خلال العقود الماضية، ظلت مسألة الهوية إحدي القضايا الإشكالية في منطقة الشرق الأوسط. فتجربة الدولة الوطنية لم تنجح في حسم تنازع الهويات، لتستمر حالة التصادم والصراع بين هذه الهويات. ولم تكن الثورات العربية سوي لحظة كاشفة لمدي عمق هذه الأزمة، حيث أفضت (هذه الثورات) إلي المزيد من الاستقطابات الراديكالية، ليبزغ علي إثرها النموذج الإسلامي العنيف الذي عبر عنه تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وغيره من التيارات الجهادية التي ترفض في المجمل المنظور الوطني للدولة(6).

بالتوازي مع استثمار التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود لأزمة الهوية، كانت معضلة الطائفية تمثل هي الأخري دافعا لتوسيع شبكات الإرهاب العابر للحدود. فقد وظفت التنظيمات الإرهابية الصراعات الطائفية الدائرة في المنطقة، خاصة بين السنة والشيعة، لتأسيس خطاب يلقي ترحيبا لدي البعض، ويدفعهم للانضمام إلي هذه التنظيمات. وقد بدت سوريا النموذج الأهم في هذا السياق، حيث إن تدخل حزب الله وإيران المعلن في الصراع السوري استدعي خطابا سنيا مضادا يدعو للجهاد داخل سوريا(7). ومع تدفق المقاتلين علي سوريا، كانت التنظيمات الإرهابية تجد رصيدا بشريا هائلا يمكن الاستناد إليه في تكوين شبكاتها الخاصة.

ثالثا- القتال الأممي والبيعة: هذان المصطلحان يشغلان مساحة مهمة في أدبيات التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود، ولاسيما تلك التي نشأت في منطقة الشرق الأوسط، حيث وجد خطاب الأممية المتجاوز لحدود الدول إرهاصاته الأولي في تنظيم القاعدة، حينما أطلق زعيم التنظيم السابق، أسامة بن لادن، دعوته الشهيرة في عقد التسعينيات من القرن الماضي للجهاد والقتال الأممي، وضرورة التحاق المسلمين بهذا القتال(8). وعبر هذه الدعوة، حفز بن لادن المنظومة الإرهابية العابرة للحدود، وأعطاها التأصيل الأيديولوجي المطلوب، لتصبح الصراعات المحلية جزءا من صراع ونضال عولمي ضد “الردة والكفر”(9).

ويقدم تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” نموذجا رئيسيا آخر للتنظيمات الإرهابية العابرة للحدودة، والتي تستند إلي إطار أيديولوجي قائم علي مصطلح “البيعة”، كمصطلح جوهري في التاريخ الإسلامي، ويستدعي في مخيلة الكثير من الإسلاميين حالة مثالية للدولة الإسلامية العابرة للحدود. فقد ارتبط ظهور تنظيم الدولة في العراق وسوريا بطرح فكرة “الخلافة الإسلامية”، التي تعني حتمية مبايعة المسلمين لها، والولاء لقائدها أبي بكر البغدادي(10). وعطفا علي ما سبق، استقطب التنظيم عناصر بشرية كثيرة، فضلا عن إعلان تنظيمات مختلفة مبايعتها للبغدادي، وهو ما كرس لصورة نموذجية لتنظيم عابر للحدود يتمكن من توسيع شبكته في فترة زمنية وجيزة.

رابعا- التنافس التنظيمي: فعادة ما يؤدي وجود عدد من التنظيمات المتنافسة إلي تسارع وتيرة أنشطة كل تنظيم لإثبات وجوده، ومن ثم توسيع شبكته المتجاوزة للحدود. وهنا، تفترض نظرية المزايدة Outbidding Theory أن التنظيمات الإرهابية تسعي إلي المزيد من العنف للحصول علي الشرعية والتمايز عن غيرها من التنظيمات المنافسة، وبالتالي ضمان الحصول علي المزيد من الموارد البشرية والمادية، التي تكفل للتنظيم درجة كبيرة من الاستقلالية، وبالتبعية الحفاظ علي البقاء والاستمرارية(11).

في اللحظة الراهنة، تبدو منطقة الشرق الأوسط محتدمة بتنافس شديد بين تنظيم القاعدة، وتنظيم الدولة الإسلامية، الذي يقدم نموذجا جديدا لحركة جهادية تتوسع علي الأرض بوتيرة متسارعة، وفي الوقت ذاته تفرض ضغوطا علي تنظيم القاعدة. إذ إن المقارنة بين التنظيمين قد لا تكون في مصلحة تنظيم القاعدة. فالظواهري يبدو في صورة أضعف، مقارنة بغريمه أبي بكر البغدادي، الذي يتوسع ويشن حروبا، وينشئ دولته الخاصة المنخرطة في صراعات مع القاعدة علي غرار تلك التي تجري في سوريا بين الدولة الإسلامية، وجبهة النصرة (التابعة للقاعدة)(12).

هذا التنافس بين التنظيمين تتجلي أبرز ملامحه في الصراع حول العنصر البشري، حيث إن كل تنظيم يسعي إلي تضخيم هيكله البشري عبر استقطاب عناصر جديدة، خصوصا مع تعاظم معدلات تدفق المقاتلين الأجانب علي المنطقة، والذين تقدر أعدادهم بأكثر من 25 ألف مقاتل أجنبي خلال الفترة من منتصف 2014 حتي مارس 2015(13).

خامسا- التوظيف الإعلامي: فالإرهاب بطبيعته يعول كثيرا علي الجانب الدعائي في توصيل رسالته، والترسيخ لصورة نمطية خاصة به، فضلا عن استقطاب المزيد من الداعمين له. وتأسيسا علي هذه الرؤية، أمست وسائل الإعلام الحديثة، مثل شبكات التواصل الاجتماعي، واليوتيوب، بل وحتي “جوجل إيرث”، أدوات مهمة في أيدي التنظيمات الإرهابية -كتنظيمي القاعدة، والدولة الإسلامية- تتيح لها التخطيط، والقيادة، والسيطرة، والاتصال بين جماعات منتشرة في مناطق مختلفة، والحصول علي الدعم المادي والبشري، فضلا عن نزع الغطاء الأخلاقي عن خصومها، وكسب التعاطف(14).

يأتي ذلك بالتوازي مع خلق حالة من الفوضي والخوف، من خلال نشر فيديوهات توثق العمليات التي يقوم بها التنظيم، علي غرار ما يقوم به تنظيم الدولة الإسلامية، وبثه فيديوهات خاصة بعملياته، كان من أشهرها فيديو حرق الطيار الأدرني معاذ الكساسبة، وفيديو ذبح 20 مصريا في ليبيا في فبراير .2015

أنماط الإرهاب العابر للحدود:

أفضت الضغوط الأمنية والسياسية المفروضة علي التنظيمات الإرهابية إلي إحداث تغيرات في هيكلية هذه التنظيمات، لتتحول من الشكل الهرمي ذي المركزية الشديدة إلي الشكل العنقودي اللامركزي. ففكرة التنظيم الشبكي -التي باتت تسيطر علي مخيلة الكثير من التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود- تعطي هيكلا أقل هيراركية، وأكثر أفقية، مقارنة بالهياكل التقليدية، لتمنح التنظيم مرونة كبري، وقدرة علي التكيف مع بيئات مضطربة بطبيعتها، فضلا عما يؤكده المنظور الشبكي من حساسية الترابط Sensitivity Interdependence، والتي تعني أن أعضاء الشبكة يصبح لديهم حساسية تجاه الأفعال والإجراءات التي تطال أحد أعضاء الشبكة الإرهابية(15).

ترتهن أنماط الشبكات الإرهابية العابرة للحدود في الشرق الأوسط بالتطورات الحادثة في المنطقة، والاضطرابات الأمنية، والصراعات القائمة في عدة دول كسوريا، والعراق، واليمن، وليبيا. وبجانب الدلالات السابقة، فمن المؤكد أن الأيديولوجيا تلعب دورا محوريا في تأطير النمط الذي تتخذه الشبكات الإرهابية، وتحديد مدي استمراريتها.

أ- النمط الاندماجي:

هو يمثل أقصي درجات التعاون بين التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود، لأنه ينطوي علي توحيد هيكل القيادة والتحكم، والدمج التام للقوات المقاتلة، وعادة ما يفرض الطرف الأقوي في الاندماج أفكاره لتصبح هي الحاكمة للهيكل المستحدث(16). وقد ظهر هذا النموذج في الحالة السورية، إذ إن تدفق مجموعات من المقاتلين الأجانب (خاصة من جنسية واحدة) جعلهم يبحثون عن تنظيمات موجودة علي الأرض للاندماج فيها.

من الأمثلة المطروحة، في هذا الصدد، نموذج تنظيم جيش المهاجرين والأنصار الشيشاني الذي نشأ من مجموعة كتيبة المهاجرين التي ظهرت في سبتمبر 2012، خلال عمليات القتال في حلب السورية، وكان يقودها أبو عمر الشيشاني. وقد أدي اندماج المجموعة مع مجموعات شيشانية أخري إلي تأسيس “جيش المهاجرين والأنصار” في مارس 2013، وأصبح أبو عمر الشيشاني قائدا للتنظيم. وبين أواخر عام 2013، وبدايات عام 2014، خرج الشيشاني بمجموعة من التنظيم ليندمج في تنظيم الدولة الإسلامية، كما خرجت مجموعة أخري بزعامة سيف الله الشيشاني (الذي قتل في فبراير 2014) لتعلن عن انضمامها إلي جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة(17).

ب- المظلة الأيديولوجية:

يعبر هذا النمط عن تحالف استراتيجي مستقر يتم عبره تقاسم الإطار الأيديولوجي، وإمكانية تقديم مساعدات مادية، وبشرية، ومعلوماتية، مع الاحتفاظ بمساحة كبري من الاستقلالية في الموارد والقرارات التنظيمية. ويتوقف استمرار هذه الشبكات علي الالتزام الأيديولوجي المشترك(18).

يبدو هذا النمط من الأنماط السائدة في الشرق الأوسط، حيث كانت بداياته مع بزوغ تنظيم القاعدة، وإعلان بن لادن عن “الجهاد والقتال العالمي” في عقد التسعينيات. وهكذا، كان الالتحاق بتنظيم القاعدة يعني الكثير بالنسبة للعناصر الإرهابية في الشرق الأوسط. فبالإضافة إلي عدّ التنظيم الحاضنة الأيديولوجية للتنظيمات المتفرقة بالإقليم، فهو يوفر مجموعة واسعة من المساعدات في صورة أموال وسلاح، ودعم لوجيستي، وتدريبات كان يتم تقديمها في معسكرات القاعدة في أفغانستان وباكستان(19).

بمرور الوقت، كانت التطورات تدفع نحو تعزيز فكرة “الحاضنة الأيديولوجية” للقاعدة. فمن جهة، تكفلت كتابات المنظرين للحركات الجهادية بدور مهم في التكريس لهذه الفكرة، والتي كان من أهمها كتابات “أبي مصعب السوري” المتضمنة الدعوة إلي “إنشاء خلايا متنوعة لا ترتبط تنظيميا، وتجمع بين المركزية علي صعيد الانتماء، والشعارات، والرموز، والأفكار، وبين عدم الارتباط المركزي”. فالرابطة الرئيسية بين الخلايا تتلخص في الاسم المشترك، والبيعة، والعقيدة، والهدف الموحد(20).

من جهة آخري، أسهمت وسائل الإعلام الحديثة وشبكة الإنترنت في التأسيس لنوع من الشراكة الافتراضية Virtual Partnership، حيث تظهر العناصر الراديكالية داخل الدول التي تستقي أفكارها وتوجهاتها من تنظيم القاعدة، وذلك من خلال الاعتماد علي المواد الفكرية، والتسجيلات الصوتية، والفيديوهات الخاصة بالتنظيم، والمنتشرة علي شبكة الإنترنت. وعبر هذا المسار، ينشأ نمط من التحالف الأيديولوجي الافتراضي، دون أن تكون هناك أي صلات رسمية في الواقع(21). وعطفا علي ما سبق، وسع تنظيم القاعدة شبكة تحالفاته لتضم عددا من الفاعلين، أبرزهم تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، وتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، وجبهة النصرة.

يقدم تنظيم الدولة الإسلامية نموذجا آخر أكثر تعقيدا. فالتنظيم يتأسس علي فكرة البيعة للخلافة الإسلامية، التي لا تقتصر علي فكرة القتال، لكنها تتضمن حتمية التوسع والسيطرة علي الأرض. ومن ثم -وعلي خلاف تنظيم القاعدة- يقدم التنظيم حالة الدولة المنشودة للتيارات الجهادية التي انتقلت من عالم الأفكار إلي التطبيق الواقعي. وقدمت هذه الحالة لتنظيم الدولة الإسلامية ظهيرا فكريا وواقعيا متماسكا يستعين به في تمديد شبكة تحالفاته، التي سرعان ما توسعت لتشمل عددا من الفاعلين، البعض منهم منتم لمناطق النفوذ التقليدية لتنظيم القاعدة في أفغاستان، وباكستان، واليمن، وشمال إفريقيا(22).

ففي مصر أعلنت جماعة أنصار بيت المقدس في 10 نوفمبر 2014 عن مبايعتها للدولة الإسلامية. وبعد ذلك بأيام (13 نوفمبر)، وافق البغدادي علي البيعة ليصبح اسم جماعة أنصار بيت المقدس “ولاية سيناء” التابعة للدولة الإسلامية(23). وقد مثلت هذه البيعة تعزيزا لوضعية “داعش” في الإقليم، لاسيما مع نشاط جماعة أنصار بيت المقدس في تنفيذ العمليات الإرهابية ضد مؤسسات الدولة المصرية منذ 30 يونيو .2013

تكرر هذا النمط في ليبيا مع إعلان “مجلس شوري شباب الإسلام” في مدينة درنة مبايعته لتنظيم الدولة الإسلامية في أكتوبر 2014. وبعد ذلك، أعلن التنظيم عن انضمام أقاليم برقة، وطرابلس، وفزان إلي الخلافة الإسلامية. ومنذ ذلك الحين، ينشط التنظيم في مناطق رئيسية كمدينتي درنة، وسرت. كما شهد تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي بالجزائر انشقاق كتيبة في تيزي أوزو لتعلن ولاءها لتنظيم الدولة الإسلامية في سبتمبر 2014(24).

ج- الترانزيت الجهادي:

يعد هذا النمط من الشبكات أقل تماسكا من النمطين السابقين، فهو وإن كان ينطوي علي جانب أيديولوجي مشترك، فإنه يعتمد في المقام الأول علي حسابات اللحظة، والتي قد تدفع العناصر الراديكالية إلي البحث عن ملاذات آمنة استعدادا لعمليات في مناطق أخري. وفي الوقت الراهن، تقدم ليبيا النموذج الأهم لنمط الترانزيت الجهادي. فالدولة تشهد حالة أشبه ما تكون بالتفكك والتنازع بين قوي مختلفة، وهو ما أفسح مجالا أمام التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود لإقامة تحالفات مع مجموعات محلية داخل ليبيا تقدم لها دعما لوجيستيا لتنفيذ عمليات بدول الجوار.

وفي هذا السياق، باتت ليبيا بمنزلة ملاذ تدريبي وتسليحي لبعض التنظيمات الإرهابية في المنطقة، وهو نمط “تلجأ إليه التنظيمات كنوع من التراجع المؤقت، والاستعداد لطور جديد من عملياتها، حال تصاعد الضغوطات عليها في بلادها”. ومن الأمثلة علي هذا الأمر التحركات المستمرة بين التنظيمات الجهادية من شمال مالي إلي مدينة سبها جنوب ليبيا، وكذلك التنظيمات بين تونس وليبيا كتنظيم أنصار الشريعة، فضلا عن مشاركة بعض العناصر الليبية في عمليات عنيفة داخل شمال مالي، وجبال الشعانبي في تونس، وعملية عين أميناس في الجزائر في يناير 2013(25). وقد تم استحضار هذا النمط مجددا مع الهجوم الإرهابي علي متحف باردو في تونس خلال شهر مارس 2015، إذ توصلت بعض المصادر إلي أن منفذي العملية كانا قد تلقيا تدريبات في أحد المعسكرات في ليبيا في أواخر عام 2014، قبل العودة إلي تونس(26).

تداعيات ممتدة عابرة للحدود:

ثمة فرضية قائلة إن التنظيم الإرهابي ليس سوي فاعل رشيد عقلاني يبني قراراته وفقا لحسابات المكاسب والخسائر. وبناء علي هذه الفرضية، تبدو شبكات الإرهاب العابر للحدود في الشرق الأوسط في وضعية متميزة تحقق لها الكثير من المكاسب. وفي المقابل، تنطوي علي تداعيات كارثية بالنسبة لدول المنطقة.

أول هذه التداعيات يتصل “بمعضلة السيادة”، فالنشاط الممتد لهذه الشبكات يفرض ضغوطا علي المنطقة لإعادة النظر في المنظومة السيادية للدول، ومن ثم تحديد الخطوط الفاصلة بين حق الدفاع عن أمن الدولة، وعدم التدخل في شئون الدول الأخري، أو بمعني آخر تحديد التوصيف الدقيق لأي عملية عسكرية تقوم بها دولة ضد أراضي دولة أخري علي خلفية تنفيذ عملية إرهابية، وذلك علي غرار الضربات الجوية التي قامت بها الدولة المصرية داخل ليبيا في منتصف فبراير 2015، عقب عملية ذبح 20 مصريا في ليبيا.

من ناحية ثانية، فإن تنامي مقومات القوة والنفوذ للشبكات الإرهابية سيؤدي حتما إلي الخصم من نفوذ الدولة، وبالتبعية تراجع قدرتها علي التحكم في حدودها، خاصة مع تراجع كفاءة الكثير من دول المنطقة خلال السنوات الماضية. وهنا، يطرح نشاط الشبكات الإرهابية إشكاليتين مركزيتين، إحداهما تتعلق بـ “تأثير المحاكاة”، حيث تتزايد العلاقات الضمنية بين التنظيمات، عبر استنساخ التكتيكات الإرهابية وتكرارها(27). بينما تنصرف الإشكالية الآخري إلي تزايد توجه الشبكات الإرهابية نحو استنزاف الموارد الاقتصادية للدول، من خلال استهداف المنشآت النفطية، والمنشآت السياحية، فضلا عن لجوء عدة تنظيمات إرهابية إلي عمليات تهريب النفط للحصول علي المزيد من الموارد.

أما آخر التداعيات، فهي مرتبطة “بالتحالفات اللا متماثلة” التي تجمع بين التنظيمات الإرهابية، وجماعات الجريمة المنظمة، وبعض المجموعات القبلية. وهي علاقة تنبني علي منظور براجماتي بحت. فالشبكات الإرهابية تستعين بهذه التنظيمات المتباينة عنها فكريا لتوفير إمدادات من الأسلحة، استغلالا لفوضي التسلح التي خلفتها الثورات العربية، حيث انتقل الجزء الأكبر من هذه الأسلحة إلي حوزة شبكات تهريب الأسلحة.

ولم يتوقف هدف التحالفات علي جانب التسليح، ولكنه امتد إلي أنشطة التهريب المرتهنة ببزوغ تنظيم الدولة الإسلامية. إذ إن التنظيم استند في تمويله إلي حقول النفط التي سيطر عليها داخل سوريا والعراق. ومن هذا المنطلق، انخرط التنظيم في تحالفات مع شبكات التهريب التي تشتري منه النفط، وتتولي فيما بعد عمليات نقل النفط إلي مستهلكين خارجيين(28). وهكذا، شكلت هذه المعطيات مجتمعة ضغوطا متزايدة علي قدرات دول المنطقة.

خلاصة القول: إن دلالات الحاضر، وسيناريوهات المستقبل ترجح استمرار التهديدات الإرهابية العابرة للحدود بالمنطقة. فقد أخفق مشروع الثورات العربية في التأسيس لنموذج مغاير يحدث قطيعة مع إرث الماضي، وهو ما أدي إلي المزيد من الإحباطات المجتمعية. كما أن الإجراءات الأمنية (القاصرة) الجماعية التي اتخذتها دول المنطقة لمواجهة التهديدات الأمنية سرعان ما تحولت إلي آلية لتزايد التعقيدات الإقليمية. ويكفي هنا استدعاء حالة التحالف الدولي لمواجهة “داعش” للتدليل عما آلت إليه الأوضاع بالمنطقة، والتي تصب بدرجة أو بأخري في مصلحة الشبكات الإرهابية العابرة للحدود.

الهوامش:

1- أوليفييه روا، “الجهل المقدس: زمن دين بلا ثقافة”، صالح الأشمر (مترجم)، (بيروت: دار الساقي، 2012)، ص.27

2- Shashi Shukla, “emerging New Trends Of Terrorism: Challenges Before The United Nations”, The Indian Journal Of Political Science, Vol67., No1., (Jan March 2006), P.165.

3- Todd Sandler, “transnational Terrorism”, Copenhagen Consensus Center, February 2008,
Http://create.usc.edu/research/.58253pdf

4- James A. Piazza, “incubators Of Terror: Do Failed And Failing States Promote Transnational Terrorism”, International Studies Quarterly, Vol. 52, No. 3 (Sep., 2008), Pp. 471-472.

5- مالك عوني، “الدولة المأزومة: ديناميات التفكك والوحدة في العالم العربي بعد ثورات الربيع”، ملحق تحولات استراتيجية، (مجلة السياسة الدولية، يناير 2014)، ص.5

6- خالد حنفي علي، “معضلات الهوية الوطنية بعد الثورات .. ليبيا نموذجا”، مجلة الديمقرطية، (عدد 56، أكتوبر 2014)، ص.69

7- Aaron Y. Zelin, “the Saudi Foreign Fighter Presence In Syria”, Combating Terrorism Center, April 28, 2014,
Https://www.ctc.usma.edu/posts/the-saudi-foreign-fighter-presence-in-syria

8- فواز جرجس، “القاعدة: الصعود والأفول”، ترجمة: محمد شيا، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، أغسطس 2012)، ص.86

9- Angel Rabasa And Others, “beyond Al-qaeda: The Global Jihadist Movement”, Rand Corporation, 2006,
Http://www.rand.org/content/dam/rand/pubs/monographs/2006/rand_mg.429pdf

10- Nelly Lahoud, ” The Province Of Sinai: Why Bother With Palestine If You Can Be Part Of The ‘islamic State'”, Combating Terrorism Center, March 19, 015,Https://www.ctc.usma.edu/posts/the-province-of-sinai-why-bother-with-palestine-if-you-can-be-part-of-the-islamic-state

11- Joseph K. Young And Laura Dugan, “survival Of The Fittest: Why Terrorist Groups Endure”, Perspectives On Terrorism, Vol 8, No 2 (2014), Http://terrorismanalysts.com/pt/index.php/pot/article/view/334/html.

12- J.m. Berger, ” The Islamic State Vs. Al Qaeda”, Foreign Policy, September2014,2, Http://foreignpolicy.com/02/09/2014/the-islamic-state-vs-al-qaeda/

13- BBC “un Says 25000 Foreign Fighters’ Joined Islamist Militants”, 2 April 2015, Http://www.bbc.com/news/world-middle-east-32156541

14- Daniel Byman &jeremy Shapiro, “be Afraid. Be A Little Afraid: The Threat Of Terrorism From Western Foreign Fighters In Syria And Iraq”, Brookings, November 2014, Http://www.brookings.edu/~/media/research/files/papers/11/2014/western-foreign-fighters-in-syria-and-iraq-byman-shapiro/be-afraid–web.pdf

15- Richard Matthew And George Shambaugh, “the Limits Of Terrorism: A Network Perspective”,International Studies Review, Vol. 7, No. 4 (Dec., 2005), P.623.

16- Assaf Moghadam, ” Terrorist Affiliations In Context: A Typology Of Terrorist Inter-group Cooperation”, Combating Terrorism Center, March 19, 2015, Https://www.ctc.usma.edu/posts/terrorist-affiliations-in-context-a-typology-of-terrorist-inter-group-cooperation

17- Guido Steinberg, “a Chechen Al-qaeda”, Swp Comments 31, June 2014,Http://www.swp-berlin.org/fileadmin/contents/products/comments/2014c31_sbg.pdf

18- Assaf Moghadam, Op.cit.

19- Daniel Byman & Jennifer Williams, ” Isis Vs. Al Qaeda: Jihadism’s Global Civil War”, National Interest, February 24, 2015,Http://nationalinterest.org/feature/isis-vs-al-qaeda-jihadism%e2%80%99s-global-civil-war-12304page=5

20- أبو الفضل الإسناوي، “شبكات العنف الجهادية في المغرب العربي”، السياسة الدولية، (العدد 198، أكتوبر 2014)، ص.108

21- Evan F. Kohlmann, “homegrown” Terrorists: Theory And Cases In The War On Terror’s Newest Front”, Annals Of The American Academy Of Political And Social Science,vol. 618, P.95.

22- Aaron Y. Zelin, “the Islamic State’s Model”, Washington Post, January 28, 2015,
Http://www.washingtonpost.com/blogs/monkey-cage/wp/28/01/2015/the-islamic-states-model/

23- Nelly Lahoud, ” The Province Of Sinai: Why Bother With Palestine If You Can Be Part Of The ‘islamic State'”, Combating Terrorism Center, March 19, 2015, Https://www.ctc.usma.edu/posts/the-province-of-sinai-why-bother-with-palestine-if-you-can-be-part-of-the-islamic-state

24- Geoff D. Porter, ” What To Make Of The Bay`a In North Africa”, Combating Terrorism Center, March 19, 2015,
Https://www.ctc.usma.edu/posts/what-to-make-of-the-baya-in-north-africa

25- خالد حنفي علي، “جماعات العنف الليبية والترانزيت الجهادي”، السياسة الدولية، (العدد 198، أكتوبر 2014)، ص ص105-.106

26- حمزة المؤدب، “الإرهاب في تونس بين هشاشة الوضع الداخلي وتعقيدات الوضع الإقليمي”، مركز كارنيجي، 23 مارس 2015،

http://carnegie-mec.org/23/03/2015/ar-59464/i4rb

27- Walter Enders And Todd Sandler, “patterns Of Transnational Terrorism, 1970-1999: Alternative Time-series Estimates”, International Studies Quarterly, Vol. 46, No. 2 (Jun., 2002), Pp149. .150

28- Matthew Levitt, “terrorist Financing And The Islamic State”, November 13, 2014,
Http://www.washingtoninstitute.org/uploads/documents/testimony/levitttestimony.20141113pdf

مجلة السياسة الدولية (تصدر عن مؤسسة الأهرام المصرية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى