دراسة| الإصلاح الإسلامي الحديث: صحوة مختلفة

شهد القرن الثالث عشر الهجري التاسع عشر الميلادي تطوراً في الفكر الإسلامي الحديث، وجد أنصاره ضرورة العمل على تطهير الإسلام من البدع والخرافات، التي لحقت به، بسبب الركود والانحطاط الذي أصاب الحياة الفكرية، بعد غلق باب الاجتهاد، والسعي لإصلاح الإسلام وتجديده، ثم نشره، كونه خاتم الديانات، وله القدرة على تنظيم أمور الحياة الروحية والمادية للإنسانية جمعاء.

وقد شاع مصطلح “الصحوة الإسلامية”، للدلالة على هذه الظاهرة الدينية، والتي يؤكد الباحثون أن جذورها تعود للغزو الأجنبي للعالم الإسلامي، حيث أن أول ردة الفعل المباشر للغزو الأجنبي كانت إسلامية الطابع. وهذا ما أكده أيضاً الكاتب الأمريكي برنارد لويس بقوله: “منذ بدء التغلغل الغربي في العالم الإسلامي، حتى يومنا هذا، كانت أهم الحركات الفكرية المتميزة المهمة الأصيلة، التي قامت في وجههم، حركات إسلامية”، مضيفاً: إن “أقوى الحركات الثورية التي قامت، والتي كسبت أقوى التأييد، وأثارت حماس أغلب الجماهير، كانت دينية”.

لذلك يمكن تعريف “الصحوة الإسلامية” بأنها: “حالة تجد الأمة فيها نفسها وقد وعت ذاتها، وعرفت من حولها، وأدركت أبعاد عصرها، فاستشعرت قدرتها على الاستجابة للتحديات التي تواجهها، وعلى التحرر من التبعية للآخرين“. ولكون هذه الصحوة تهدف إلى التمسك بمبادئ الإسلام، والعودة إلى أصوله النقية، كما جاء في القرآن والسنة النبوية، بعد تخليصها من الصدأ الذي علق بها في الفكر والممارسة، فقد أطلق عليها أيضاً مصطلح “الأصولية الإسلامية”.

وتوضيحاً لما سبق، وإلى حد ما، يمكن القول إن الصحوة الإسلامية، وحركة إصلاح وتجديد الفكر الإسلامي الحديث، التي عمت معظم مناطق العالم الإسلامي، هي رد فعل للغزو الاستعماري الغربي لبلاد المسلمين، الذي بدأ مع نهايات القرن الثامن عشر، واستمر على مدى القرن التاسع عشر الميلادي، والذي كان من أبرز ملامحه، حملة نابليون بونابرت على مصر 1798م، وسيطرة فرنسا على الجزائر 1830، وغزو روسيا لبلاد المسلمين في آسيا الوسطى. ثم استيلاء بريطانيا على عدن 1839، وإكمال فرنسا سيطرتها على تونس 1881، واحتلال بريطانيا لـمصر والسودان 1882-1899 على التوالي، وصولاً إلى الحرب العالمية الأولى 1914-1918، واقتسام بلاد الشام والعراق بين كل من فرنسا وبريطانيا. في الوقت نفسه، كانت هذه الحركة الإصلاحية، رداً على الضعف والتخلف والانحطاط، الذي لحق بالدولة العثمانية ومؤسساتها السياسية والعسكرية والثقافية.

لمواجهة هذه الوقائع التاريخية، برزت أمام رواد النهضة والإصلاح أسئلة تبلورت حولها عملية الإصلاح واتجاهاته، وهي: كيف نستطيع مواجهة واقع التأخر والانحطاط؟ وكيف نواجه الآخر الغرب، وقيمه التي جاء بها؟ ثم كيف نحقق التقدم والتطور؟ وأخيراً السؤال الأهم هو: كيف للمسلمين أن يصبحوا جزءاً من العالم الحديث، دون أن يتخلوا عن دينهم وهويتهم الحضارية؟

موروث فعال

وبما أن الإسلام يمتلك موروثاً دينياً كبيراً وغنياً من الإصلاح والتجديد الإسلاميين، سبق أن برز خلال عهود الضعف والانحطاط التي لحقت بالعالم الإسلامي عبر عصوره المختلفة، فقد تصدى عدد من دعاة الإصلاح الإسلامي لهذا الواقع، وعلى امتداد العالم الإسلامي، وحاولوا التعبير عن رغبتهم في إصلاح الفكر الإسلامي، ليتمكن من مواجهة الأخطار والتحديات الخارجية والداخلية التي تهدد العالم الإسلامي، منهم: رفاعة الطهطاوي 1801-1873، خير الدين التونسي 1810-1879، عبد القادر الجزائري حركته 1832-1847، جمال الدين الأفغاني 1839-1897، محمد عبده 1849-1905، عبد الرحمن الكواكبي 1854-1902، محمود شكري الآلوسي 1856-1924، محمد حسين النائيني 1857-1936، عبد الحميد بن باديس 1889-1940، محمد رشيد رضا 1865-1935، شكيب أرسلان 1869-1956، وآخرون.

وقد أيقن هؤلاء المصلحين أن أية نهضة حقيقية للدين لن تتم إلا بتجريد الفكر الإسلامي من الخرافات والتشويهات التي علقت به، فضلاً عن محاربة الاستعمار الأجنبي، والعمل على تحرير العالم الإسلامي من سيطرته، والإفادة من العلم والتقنية الحديثة في الإصلاح، مع رفض محاكاة الغرب، فكان هذا هو الهدف الرئيس الذي سعى المصلحون الإسلاميون إلى تحقيقه، وقدموا خلاصة جهدهم الفكري للوصول إليه.

وسنحاول التركيز على اثنين من هؤلاء، بوصفهم أكثر تأثيراً في فكر الحركات الإسلامية المعاصرة وسلوك رموزها، ولتشابه الأسس والمنطلقات التي اعتمد عليها كل هؤلاء في نشاطهم الدعوي والإصلاحي، وهم كل من: جمال الدين الأفغاني، ومحمد رشيد رضا.

جمال الدين الأفغاني

وصف الأفغاني بأنه من أبرز رواد اليقظة الإسلامية الحديثة، وأشهر رموز الصحوة الإسلامية، ومن أهم مجددي الفكر الإسلامي الحديث، كان يتقن لغات عديدة، كما تميز بشمولية شخصيته الإسلامية، وفهمه وإدراكه العميق لتعاليم الإسلام ومبادئه، قال عنه تلميذه وأقرب الناس إليه، محمد عبده يوماً: “إني لو قلت إن ما أتاه الله من قوة الذهن، وسعة العقل، ونفوذ البصيرة، هو أقصى ما قدر لغير الأنبياء، لكنت غير مبالغ”. استقر في السنوات الخمس الأخيرة من حياته في إستانبول، بعد أن دعاه السلطان عبد الحميد الثاني 1876-1909م لزيارة عاصمة الدولة العثمانية، للإفادة من أفكاره الإصلاحية، حتى وفاته فيها عام 1897.

تعد أفكار جمال الدين الأفغاني امتداداً للحركات الإصلاحية التي سبقتها: المهدية، السنوسية، التي تهدف إلى المحافظة على العقيدة الإسلامية، وصونها من التشويهات والانحرافات، وبناء مجتمع إسلامي موحد ومتماسك، له القدرة على التعامل مع معطيات الحضارة الحديثة، من دون الإخلال بهويته الإسلامية. ويمكن القول إن أفكار الأفغاني، ومنهجه الفكري، كان ثورة عبرت عن حاجة المجتمع الإسلامي للأخذ بأسباب الحضارة والمدنية، مع العودة الأصولية إلى الكتاب والسنة والشورى والمبادئ الدستورية، ضمن شخصيته الإسلامية المستقلة.

كانت حركة الأفغاني ذات طابع فكري واجتماعي معاً، فنراه يسعى إلى ايجاد نهضة وصحوة في أفكار المسلمين، وفي نظم حياتهم، ومن أجل ذلك لم يتوقف في مدينة أو دولة إلا بعد أن يطلع عن كثب على واقع تلك البلاد، ويحاول إصلاح ما يمكن إصلاحه من شؤونها، حتى أنه انضم إلى صفوف الجيش ليحتك بالجند وينشر أفكاره في صفوفهم54. وكان لأفكاره الإصلاحية قبول لدى الفئات ذات الخلفيات الثقافية والاجتماعية المختلفة. وقد وصفت تلك الأفكار بأنها ثورية، ولا سيما بعد دعوته إلى استخدام العنف في إحداث تغيير جذري للنظام السياسي المصري.

صرح الأفغاني بأن هناك خطرين يهددان العالم الإسلامي: الخطر الخارجي، ممثلاً بالاستعمار، ونزعته للسيطرة على العالم الإسلامي، والخطر الداخلي، ممثلاً بالجمود والتخلف واستبداد الحكام56، لذلك حاول في كتاباته وخطبه أن يقنع المسلمين بأن الإسلام كعقيدة وأيديولوجية يستطيع أن ينقذ المسلمين ويحررهم، وأن ينهي الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي، وركز على أن الإسلام يعطي للعقل والبرهان والاستدلال أهمية خاصة، لأن الإسلام دين العلم ودين العمل ودين الإصلاح والكفاح ضد الفساد. ولكي يثبت الأفغاني ذلك، بدأ بالدفاع عن الإسلام ضد الشبهات التي طرحها المستشرقون آنذاك، والتي تتهم الإسلام بأنه دين يؤمن بالجبر، وأنه دين القضاء والقدر، دين يقيد فكر الإنسان وحركته، مما أدى إلى انحطاط المسلمين وتأخرهم. فنشر في مجلة العروة الوثقى مقالاً دافع فيه عن نظرية القضاء والقدر في الإسلام، وأثبت بأنهما، بمحتواهما الإسلامي، لا يعدان من عوامل الانحطاط بقدر ما يعدان من عوامل التقدم والتطور والرقي. في المقابل دعى الأفغاني إلى تحرير الفكر الديني من قيود التقليد، وفتح باب الاجتهاد، ليتخلص المجتمع الإسلامي من الجمود والتقليد الأعمى، دون مراعاة لطبيعة العصر وملابساته، فنراه يتساءل مستنكراً: “… ما معنى باب الاجتهاد مسدود؟ وبأي نص سد باب الاجتهاد؟ أو أي إمام قال لا يصح لمن بعدي أن يجتهد ليتفقه بالدين، ويهتدي بهدي القرآن؟”.

سعى الأفغاني من خلال مجلة العروة الوثقى، التي أسسها في باريس عام 1884، والتي كان لها تأثير وانتشار واسع في العالم الإسلامي آنذاك، إلى حث المسلمين ودعوتهم لتحقيق الوحدة الإسلامية، واستعادة أمجاد الإسلام الضائعة، وتحرير البلاد الإسلامية من الاحتلال الاجنبي، الذي استغل عدم التزام المسلمين بدينهم، وتواطئ حكام المسلمين وخيانتهم لشعوبهم لصالح الأجنبي.

محمد رشيد رضا

أما الشيخ محمد رشيد رضا فيعد امتداداً للأفغاني ومحمد عبده، ومن المتأثرين بأفكارهما الإصلاحية، وهذا ما جعله يرحل إلى مصر سنة 1898م، ويتصل هناك بالشيخ محمد عبده، ويصبح من أبرز تلامذته، وقد صرح بإعجابه الشديد بأفكار الأفغاني ومحمد عبده، التي كانت تصله عن طريق مجلة العروة الوثقى، مؤكداً أن المجلة كان لها “تأثير السحر عليه”، وأنها “غيرت مجرى حياته”.

بتأييد ومساندة أستاذه محمد عبده، أصدر رشيد، في نفس العام الذي وصل فيه مصر، العدد الأول من مجلة المنار، ذكر فيه أنه أنشأها لكي تخلف العروة الوثقى، وتكمل رسالتها، ولتكون حرباً -كما كانت العروة الوثقى- على التقليد الأعمى، وتدعو لفتح باب الاجتهاد. وقد عرف رشيد رضا المجلة في العدد الأول منها، بأنها ” مجلة إسلامية تبحث في جميع شؤون الإصلاح الديني والمدني والسياسي، وتقوم بفريضتي: الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه، وجمع كلمة المسلمين.

واجه رشيد رضا، خلال فترة تكوينه الفكري، ظروفاً كان لها الأثر الكبير في تحديد سلوكه وتوجهاته الفكرية، فالخلافة الإسلامية بدأت تنهار تدريجياً أمام تكالب الاستعمار الغربي، نتيجة ضعف الدولة العثمانية وانحطاطها، في الوقت نفسه بدأت الصهيونية بتنفيذ مخططاتها للسيطرة على فلسطين واغتصابها، في مقابل تخاذل حكام المسلمين تجاه تلك التطورات، وعدم اكتراثهم بها، كل تلك العوامل جعلته يشعر بمسؤوليته الشرعية والإنسانية للقيام بواجب الإصلاح. وقد صرح عن رغبته في إنهاض المسلمين حضارياً بقوله: “لقد كان همي محصوراً في تصحيح عقائد المسلمين ونهيهم عن المحرمات، وحثهم على الطاعات، وتزهيدهم في الدنيا. فتعلقت نفسي بعد ذلك بوجوب إرشاد المسلمين عامة إلى المدنية والمحافظة على ملكهم، ومجاراة الأمم العزيزة في العلوم والفنون والصناعات وجميع مقومات الحياة”.

مرة أخرى عدَّ رشيد رضا، شأنه في ذلك شأن الأفغاني ومحمد عبده، الجمود والتقليد من أشد الأخطار التي يتعرض لها المجتمع الإسلامي، الذي هو بأشد الحاجة لقوانين شرعية جديدة، يتمكن بها من مواجهة الحضارة الجديدة التي أساسها العقل، والتي بدأت تجتاح العالم الإسلامي آنذاك. لذلك دعا إلى إجراء تعديل في الشريعة الإسلامية، من خلال تأسيس مذهب إسلامي جديد، يستنبط بالاعتماد على المذاهب الأربعة القائمة… يفهمه جميع المسلمين، ويكون أكثر ملاءمة مع تطورات العصر، وهو بهذا التوجه يدعو لفتح باب الاجتهاد، لإصلاح الفكر الإسلامي وتجديده.

بعد اصطدامه بجمعية الاتحاد والترقي، التي أحيت العصبية التركية، أيَّد رضا ثورة الشريف حسين في الحجاز، معتبراً أن الجزيرة العربية هي المؤهلة لخلافة العالم الإسلامي، ثم ما لبث أن تخلى عن الأسرة الهاشمية، لينحاز إلى عبد العزيز بن سعود والحركة الوهابية، ذلك لأن “عقيدتهم سنية صرفة، ودينهم دين المسلمين الأولين” على حد قوله.

يعد رشيد رضا المنظر الأول للحكومة الإسلامية، بمعناها الحديث، وأبرز المصلحين الإسلاميين الذين أرسوا مبادئ ما سمي بـ الإسلام السياسي، لذلك دعا إلى إقامة الدولة الإسلامية التي لا تفصل بين الدين والدولة، وأن إقامتها هو السبيل الوحيد لإصلاح الشريعة الإسلامية، لأن الإسلام بطبيعته دين السيادة والسياسة والحكم.

يلاحظ، من خلال الأفكار التي طرحها الشيخ رشيد رضا، أن دعوته دعوة إصلاحية سلفية، تستعيد مقولات ابن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب. وقد تأثر بهذا الفكر عدد من مؤسسي الحركات الإصلاحية الإسلامية، كان من أبرزهم الشيخ حسن البنا، مؤسس تنظيم الإخوان المسلمين في مصر.

يمكن القول إن المفكرين والمصلحين الإسلاميين جاهدوا في سعيهم لإصلاح وتجديد الفكر الإسلامي، لمواجهة التحديات الخارجية والداخلية، التي استهدفت الأمة الإسلامية في عقيدتها وهويتها وثقافتها الإسلامية، لكي يبرهنوا أن الدين الإسلامي هو الأصلح لكل زمان ومكان، وأن له القدرة على تنظيم أمور الحياة للإنسانية جمعاء، إذا ما تمسك المسلمون بمبادئ الإسلام وأصوله، كما جاء في القرآن والسنة النبوية، وعملوا على إصلاح وتجديد الفكر الإسلامي، وتخلصوا من الجمود والصدأ الذي علق به على مر العصور، ليكون هذا الفكر قادراً على مواجهة تحديات العصر، والتصدي للغزو الفكري، الذي يشنه المستعمرون ودوائرهم الثقافية على الإسلام ديناً وحضارةً.

كلية الآداب/ جامعة الموصل

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى