دراسة| ثورات وأوهام: هكذا ابتلعت أميركا الديموقراطية (سيف دعنا)

 

سيف دعنا

«الخبز أولاً، ثم الأخلاق»
برتولد بريخت، «أوبرا البنسات الثلاث»
الكلمات «شهود تتحدث أحياناً بصوت أعلى وقعاً من الوثائق»، يقول المؤرخ إريك هوبزباوم في «عصر الثورة: 1789 – 1884». ولهذا فإن الكلمات الإنكليزية التي اخْتُرِعَتْ أو اكتَسَبَتْ معنى حديثاً في عصر الثورة الأوروبية (1789 – 1884) مَثَّلَتْ «ليس انتصار «الصناعة» بحد ذاتها ولكن الصناعة الرأسمالية؛ ولا للحرية والمساواة عموماً، بل للطبقة الوسطى وللمجتمع «البرجوازي» الليبرالي؛ ولا «للاقتصاد الحديث» أو «الدولة الحديثة»، بل للاقتصادات والدول في منطقة جغرافية معينة من العالم».
الكلمات بهذا المعنى، ليست محايدة ولا يمكن أن تكون، بل هي، كمجالات للصراع السياسي، الاقتصادي، والأيديولوجي، أيضاً أدوات هيمنة اجتماعية وسياسية بامتياز. وفي عصر الثورات العربية (2010 – )، أصبحت الكلمات، بالذات، أكثر أسلحة الثورة المضادة الفتاكة فعالية وتأثيراً. وليس هناك، طبعاً، كلمة سائدة هذه الأيام يمكنها أن تعكس وتؤكد حكمة المؤرخ الفذ هوبزباوم، وتتمتع بفعالية وتأثير كسلاح فتاك جداً للثورة المضادة أكثر من مصطلح «الديموقراطية الليبرالية» كما يُبَشِّرْ بها الليبراليون الجدد من المثقفين العرب، فيما شعوبهم صارعت أصلاً لاستئصال نموذج الاستعمار الجديد والتبعية والاضطهاد الذي يؤسس له تحالف النخب العربية الاقتصادية والسياسية الحاكمة مع نخب ومؤسسات رأس المال العالمي المتوحشة.
هذه المحاولة تناقش مفهوم «الديموقراطية الليبرالية» كما يرددها ببغاوات النيوليبرالية وبائعو الأوهام العرب (الكَلَمَنْجِيَّة، كما كان يصفهم الراحل أحمد فؤاد نجم) أملاً بالإضاءة قليلاً على إحدى آليات الصراع التاريخي في الوطن العربي، وأيضاً لتأكيد فشل هذا المفهوم الغربي النشأة والتاريخ للتعامل مع، أو حتى طرح، الأسئلة المهمة المتعلقة بالجذور الاجتماعية والاقتصادية للانتفاضات العربية من جهة وطرح سؤالي التجزئة ودمقرطة جهاز الدولة وعلاقته بالاقتصاد. فلم تكن مشكلة العرب – عشرات الملايين من الفقراء منهم على الأقل – يوماً غياب الانتقال السلمي للسلطة بين شرائح النخبة، بل الترتيبات الاقتصادية والاجتماعية التي يعمل جهاز الدولة على حمايتها وإعادة إنتاجها بالقوة والعنف إن تطلب الأمر. في الحقيقة، وكما سأحاول أن أبيّن هنا، إن كل الجدل الدائر الآن في صالونات النخب وارتفاع وتيرة الرطانة الليبرالية عند شريحة من المثقفين العرب، تؤكد أنّ هذا النوع من الديموقراطية التي يبشرون بها ليست أكثر من أداة ثورة مضادة لإعادة إنتاج الاستبداد الاقتصادي والاجتماعي وإعادة إنتاج التبعية للغرب الرأسمالي عبر صيغة حكم جديدة لا تمس أسس النظام السياسي الاقتصادي مطلقاً ولا تطرح سؤال التقسيم الاستعماري لبلادنا الذي هو في أساس أغلب مشاكل مجتمعاتنا منذ 1811 والهجوم الاستعماري على مشروع محمد علي التوحيدي.

تشاؤم العقل

هكذا وصف والتر بنجامين لوحة بول كِلي «انجلوس نوفيس» (الملاك الجديد) في «أطروحات حول مفهوم التاريخ»:
«عيناه مفتوحتان على وسعهما، فمه مفتوح إلى آخره أيضاً، وجناحاه ممدودان إلى نهايتهما. هكذا بالضبط يجب أن يبدو ملاك التاريخ: وجهه يتجه نحو الماضي. وحيث نرى نحن سلسلة من الأحداث، يرى هو كارثة واحدة فقط، حيث تتراكم بلا توقف أكوام من الأنقاض بعضها فوق بعض وتقذفها العاصفة باستمرار أمام قدميه. يود لو يتوقف للحظة، يتريث، ليوقظ الموتى وليجمع ما قد تحطم. لكن عاصفة تهبّ من السماء بقوة هائلة يعجز بسببها عن إغلاق جناحيه (أو عينيه ويرى كل شي). العاصفة تدفعه بقوة هائلة لا يمكنه مقاومتها نحو المستقبل (فيما وجهه متجه إلى الماضي وظهره الى المستقبل)، بينما كومة الأنقاض أمامه تتراكم وترتفع بعلو السماء. ما نسميه تقدماً، هو بالضبط هذه العاصفة» (الأطروحة التاسعة).
بعد ثلاث سنوات على انطلاقة الثورات العربية، لا يستطيع المرء إلا أن يحسد ملاك التاريخ، رغم كل المشاهد المرعبة التي تنتجها حركة التاريخ وتضعها أمام عينيه، ورغم رؤيته للماضي والدمار فقط، حيث وجهه للخلف وظهره للمستقبل ولا يرى إلى أين تقوده العاصفة. فبعكس ملاك التاريخ، وحتى بعكس العبقري والتر بنجامين، رغم كل تشاؤمه، ينظر العديد من المثقفين العرب الحقيقيين، غير المُزَوَّرين وغير النيوليبراليين، برعب كبير، لكن إلى الأمام هذه المرة، إلى المستقبل، وليس إلى الخلف كملاك التاريخ، فيما العاصفة تقذف المنطقة العربية كلها بعنف نحو المستقبل. ينظرون برعب إلى المستقبل متوجسين بشدة من كارثة أمكانية انتصار قوى الثورة المضادة النامية باطراد وبأشكال مختلفة وبدعم غير محدود من الغرب.
وفيما هم ينظرون إلى الأمام، إلى المستقبل، لا يرون فقط تراكم ركام الدمار الهائل الذي قد تخلفه عملية التاريخ (كملاك والتر بنجامين) بين أقدامهم، بل، ولا يشكل كل هذا الدمار حتى مصدر الفزع والقلق الوحيد، أو حتى الأهم لهم، رغم كارثيته ورغم الألم الكبير الذين يدمي قلوبهم كل يوم على الضحايا من الأطفال والنساء والفقراء، وقود المعركة الأساسي. فما يرعبهم أكثر هو احتمال انتصار قوى الاستعمار الجديد (النيوليبرالية) التي لم تكتف بهجمات مضادة فتاكة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، بل واستخدمت السلاح الأكثر فتكاً على الإطلاق، أوهام الأيديولوجيا التي يرددها بائعو الأوهام ليل نهار على شاشات الفضائيات – هؤلاء يشبهون بائعي ومزيني البضائع المستخدمة والفاقدة الصلاحية وليسوا مثقفين. دورهم هو الغش والخداع والتسويق لأكثر الأفكار الهدامة على الإطلاق. ما يقلق، وحتى يخيف حد الرعب، هو انتصار هذه القوة الشريرة التي سترهن مستقبل أبنائنا وأحفادنا كما رهنت حياتنا وحياة أجدادنا وآبائنا لأكثر ظواهر التاريخ المعاصر وحشية.
العاصفة الراهنة بدأت في أواخر عام 2010 كثورات اجتماعية – سياسية واعدة، وبجذور وأسباب اقتصادية – اجتماعية، ميزها انتشار الفقر وازدياد اللامساواة بفعل تبني النموذج النيوليبرالي المتوحش، وأيضاً بجذور جغرافية – سياسية، أسّس لها تقسيم استعماري لوطننا العربي منتجاً ليس فقط «الكيان الصهيوني الاستيطاني» الذي مزّق جغرافيا الوطن العربي، بل أسّس هذا التقسيم للتبعية للخارج الاستعماري وأسّس أصلاً لبنية اقتصاد نيوليبرالي متوحش ما كان ممكناً من دون هذا التقسيم. هذه الجذور للثورات، التي لا يمكن أن تغفلها العين أو تشكك فيها، أطلقت العنان في ذات الوقت لأكثر قوى التاريخ المعاصر وحشية على الإطلاق، للاستعمارالجديد بالطبعة النيوليبرالية. وكما يبدو، حتى الآن على الأقل، لم يكن التاريخ العربي المعاصر ولا الطبقات الشعبية الثائرة في الوطن العربي جاهزَين أو قادرَين على مواجهتها. طبعاً، ليس هناك شيء عربي خاص يفسّر عدم الجاهزية هذا، وبالتأكيد عدم الجاهزية هذا ليس ثقافياً أو تقنياً على الإطلاق. بل لم يكن بإمكان أي من شعوب دول الجنوب منفردة مواجهة هذه القوة الشريرة المتوحشة. السبب بسيط: تغيير المنطقة العربية، بسبب الزمان والمكان، يحوي في طياته تغيير العالم.
السبب الآخر والمهم جداً أيضاً أنّ التقسيم الاستعماري سبّب تشوهاً جدياً في عملية تشكيل الجماعة العربية، أو الوعي القومي العربي (كتبت عنه بتفصيل في «الأخبار الإنكليزية» في ذكرى وعد بلفور). فالتقسيم أسس لكل الوطنيات المحلية بشكل يبدو نقيضاً لفكرة الجماعة العربية، وليس كنقيض للاستعمار أو الكيان الصهيوني، ويؤسس اليوم لأقبح أنواع الوعي المتخلف من الطائفية والمذهبية. ربما كانت المأساة الأكبر هنا، وبين كل شعارات القطر أولاً السخيفة، هي فكرة القرار الوطني الفلسطيني المستقل والشخصية الفلسطينية المستقلة التي لا تعبّر عن أكثر من أزمة المشروع الوطني الفلسطيني. فبرغم أهمية تصدّر الفلسطينيين الصفوف لمقاومة الكيان الصهيوني الاستعماري، كان تشكيل فكرة الشخصية الفلسطينية بعد هزيمة 1967 كنقيض للعروبة أساساً أو في مواجهة العروبة «المهزومة» برأيهم، وليس كنقيض للصهيونية. لكن ليست العروبة مجرد شعار، ولا وهماً ايديولوجياً. هي البديل الحقيقي والعملي، جغرافياً، تاريخياً، سياسياً واقتصادياً، لمواجهة المشاريع التي أنتجها التقسيم الاستعماري من قطريات سخيفة ومذهبية وطائفية قاتلة. كل صيغة أخرى مهما جَمَّلها أصحابها من مشرقيين ومغربيين ليست أكثر من تعاطٍ مع واقع أنتجه الاستعمار، فيما المطلوب العمل على تغييره.
يبقى أنه لو كان الأمر مجرد صراع بين الشعوب العربية الثائرة وبين نخبها الحاكمة المستبدة فقط لحسم الأمر، ربما، منذ العام الأول. لكن الصراع الذي فُرِضَ على الشعوب العربية (بسبب المكان والزمان مرة أخرى) هو صراع عالمي يحمل في طياته مستقبل المنظومة العالمية والعلاقات الدولية كلها – التسوية في سوريا هي موضوع مفاوضات وشد حبال بين القوتين الأعظم، روسيا وأميركا، كما يدلّ على ذلك تفاهم «جنيف 1» وتفاصيل احتمال انعقاد مؤتمر «جنيف 2»، والقوى العالمية والإقليمية ذاتها، تتصارع أيضاً في مصر وليبيا واليمن وفلسطين ولبنان وتونس والبحرين وغيرها. لم يكن بمقدور أي شعب يبحث عن حريته أن يكون جاهزاً لمثل هذه الظروف والتحديات على الإطلاق.
لكن، قد يكون من الصحيح القول، رغم كل ذلك، إنّ المعركة لم تنته بعد، وإنها ليست حتى قريبة من خط النهاية. وقد يكون صحيحاً أيضاً القول إنّ الثورة، بالمعنى الكلاسيكي، فقط (وفقط وفقط وفقط، حتى ينقطع النفس) هي الوحيدة القادرة على اجتثاث جذور أنظمة التبعية والتقسيم والاستبداد واللامساواة وإسقاط النظام (كما كان يردد الناس منذ البداية). لكن كما يبدو على أعتاب السنة الرابعة للانتفاضات، فإن قوى الثورة المضادة المتوحشة نجحت، حتى الآن على الأقل، في إعادة توجيه الثورات بعيداً عن أهدافها الاقتصادية – الاجتماعية الأساسية والطموحات الإقليمية للشعوب العربية.

هكذا هيمن رأس المال

لنعد إلى الثورة الفرنسية 1789 وثورات 1848 للحظة، لفهم الصورة بشكلها الكبير، ولفهم ديناميكيتها أكثر، لتفسير كيف انتهى عصر الثورة إلى الفشل، إلى عصر سيطرة وانتصار رأس المال أولاً، ثم إلى عصر الإمبراطوراية لاحقاً، والأهم فهم دور الديموقراطية الليبرالية كأداة سحرية في كل ذلك. السياق الكبير لعصر الثورة هنا هو ثنائية الثورة السياسية – الاجتماعية (فرنسا 1789) والثورة الصناعية (إنكلترا). هذه الثنائية هي بالضبط ما أعطى هذه المرحلة التاريخية نوعاً من الوحدة والتناسق. هكذا بدأ عصرالثورة، حسب المؤرخ أريك هوبزباوم: استولدته هذه الثنائية المتناسقة (السياسة/ الاجتماع والصناعة/ الاقتصاد). لكن هذه الثنائية تفككت لاحقاً في ثورات 1848، وانتقلت أوروبا ومعها العالم من عصر الثورة إلى عصر رأس المال. «تراجعت الثورة السياسية وتقدمت الثورة الصناعية»، يقول هوبزباوم في «عصر رأس المال 1848 – 1875» (ص:15). النتيجة باختصار: «ابتلعت الثورة الصناعية (البريطانية) الثورة الاجتماعية (الفرنسية)» (عصر رأس المال، ص:15).
انتصر عصر رأس المال وأفَلَ عصر الثورة، وطبعاً كانت الديموقراطية الليبرالية هي الأداة السحرية لذلك. في الفصل الرابع من الكتاب الأول من ثلاثية هوبزباوم «عصر الثورة: 1789 – 1848»، يقول: «خلال العشرين عاماً الغريبة (1792 – 1815) تواجه نوعان مختلفان من المتحاربين: القوى والأنظمة. فرنسا الدولة بمصالحها وتطلعاتها واجهت (أو تحالفت في أحيان أخرى مع) دول أخرى من نفس النوع. وهناك، من ناحية أخرى، فرنسا الثورة التي ناشدت شعوب العالم إطاحة الاستبداد وتبني الحرية، فتصدت لمقاومتها القوى المحافظة والرجعية» (ص: 77). في ما يخص الدولة، وتحديداً في نهاية حكم نابليون، «انتصر عامل التوسع الإمبريالي والاستغلال على عامل التحرر في كل مرة احتلت القوات الفرنسية بلداً ما أو ضمته إليها». في المقلب الآخر، أي الثورة، يؤكد هوبزباوم أنّ «القوى المعادية للثورة قد وصلت إلى قناعة بأنه لا مجال للتراجع عن أكثر إنجازات الثورة في فرنسا، ولهذا أصبحت مستعدة للتفاوض (مع بعض التحفظ) على شروط السلام بين دولة وأخرى مثلها» (ص: 78).
استكمالاً، يذكر هوبزباوم في الكتاب الثاني من الثلاثية «عصر رأس المال: 1848 – 1875» تَعَرُّض ثنائية الثورتين السياسية والصناعية الأولى للتفكك. تراجعت الثورة السياسية وتقدمت الثورة الصناعية. إنه عصر رأس المال، موضوع وعنوان الكتاب الثاني في السلسلة العبقرية لهوبزباوم – سينشر كارل ماركس كتابه الفذ «رأس المال» بعد الثورة/ أو بعد فشلها بعشرين عاماً في 1867، مع أن المخطوطة، «الغروندريسة»، التي أظنها بأهمية الكتاب نفسه، رغم هيغليتها التي اختفت في «رأس المال» البنيوي، نُشِرَتْ في 1859، أي بعد عشر سنوات فقط.
في هذا السياق الجديد، ما بعد 1848، «ابتلعت الثورة الصناعية (البريطانية) الثورة الاجتماعية (الفرنسية)». ابتلع رأس المال الثورة. نعم ابتلعها، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد. هنا بدأت القوى الاجتماعية المنتصرة الصاعدة التي كانت ترعبها جداً فكرة الديموقراطية في البداية، ترى أنّ هذه الديموقراطية بشكلها البرلماني الدستوري قد لا تكون ضارة لمصالحها في نهاية الأمر – قد تكون مزعجة أحياناً، نعم، لكنها غير ضارة (قبل ذلك، كانت الطبقة الوسطى تخشى الناس وربما كانت تقرف منهم أيضاً كعادتها، أما رأس المال فكان يرى الديموقراطية سبيلاً ممكناً للاشتراكية التي كانت ولا تزال ترعبه – هذا جدل خاضه الاشتراكيون الألمان في بداية القرن العشرين ويفيد جداً ربما العودة إليه اليوم). لم ينتبه الأوروبيون حينها إلى أنّ أقرانهم الأميركيين كانوا قد اكتشفوا تلك الحيلة قبلهم بسنين طويلة ومارسوها ولا يزالون حتى يومنا هذا. النتيجة: هل يمكن القول إنّ ثورة المستوطينين البيض في أميركا الرأسمالية ابتلعت عبر نموذجها الديموقراطي الدستوري كل أمل بديموقراطية اجتماعية بشرت به الثورة الفرنسية؟ مؤقتاً، نعم. لكن هذا كان ممكناً لأن أميركا قوية، ولأن النظام الرأسمالي العالمي يجعل من إمكانية كبح الصراع الاجتماعي، أو حتى نزع فتيله، في الغرب وفي أميركا ممكناً، أيضاً، مؤقتاً.
ثلاث قضايا تجمعت هنا وأعطت الديموقراطية الدستورية الأميركية القدرة على ابتلاع كل شيء. في أميركا قامت هذه الديموقراطية أساساً على تشريع العبودية والتطهير العرقي والاستيطان الأبيض. نعم، كان نظاماً ديموقراطياً ذلك الذي استعبد عشرات الملايين من الأفارقة وطهّر عرقياً، ولاحقاً ثقافياً، مثلهم من السكان الأصليين. نعم، هو نظام ديموقراطي عمره ثلاثمئة عام ذلك الذي لا يزال يميّز ضد الأقليات والمرأة والفقراء ويضطهدهم. نعم، هو ذات النظام الديموقراطي الذي ساند نظام الفصل العنصري القذر في جنوب أفريقيا حتى اللحظة الأخيرة، كما يساند الكيان الصهيوني اليوم، وهو الذي دمّر العراق مرتين وحرق أطفال فييتنام بالنابالم، وحاصر وجوّع كوبا خمسين عاماً وعادى كل حركة تحرّر في العالم.
في أوروبا، سُحقت كومونة باريس، «المثال الثوري الوحيد في دولة متقدمة. وسحقها أنتج حماماً من الدم أكبر بكثير من أي شيء في 1848» (عصر رأس المال، ص: 15). أرعبتهم الكومونة، ولهذا كان سحقها ضرورة للهيمنة عبر النموذج الديموقراطي هذه المرة والقضاء على التمرد الحقيقي الثوري الأخير للعمال والفقراء في القارة العجوز. لكن تقدم الثورة الصناعية والتوسع الكبير للنظام الرأسمالي العالمي قد يكون السبب الأهم في تسهيل توفير خيارات سياسية بديلة في «الدول المتقدمة» للديموقراطية – هذا معنى ابتلاع الثورة الصناعية للثورة السياسية وابتلاع ديموقراطية المستوطنين البيض الدستورية في أميركا لكل ديموقراطية أخرى. ربما كانت نظرية «النظام العالمي» على حق. فالرأسمالية الإمبريالية تمكنت من رشو الطبقات الشعبية ببعض فتات غنائم استعمار ونهب موارد العالم وثبتت أركان النظام. أصبح بإمكان الغربيين بعد نهب العالم وسرقة موارده العيش فوق إمكاناتهم بكثير، وأيضاً الاستثمار بأكثر مما يملكون. أصبح بإمكان رأس المال كبح جماح أي حراك اجتماعي ومطالبة بديموقراطية حقيقية.
لكن رأس المال لم يكتف بذلك. وهم، مثلنا وأكثر، لديهم كلمنجية وخبراء في بيع البضائع المستخدمة والفاقدة الصلاحية. شن رأس المال حرباً أيديولوجية شرسة على الثورة منذ البداية. افتتحها إدموند بيرك، أحد أهم أصوات رِدَّة ما بعد التنوير وأكثرها رجعية ومحافظة على الإطلاق، في «تأملات عن الثورة في فرنسا». ليس اللافت هنا فقط أن من هاجم الثورة الفرنسية كـ«بيرك» وأقرانه كان قد دافع بشراسة أيضاً عن الثورة الأميركية والنموذج الأميركي فقط، بل إنّ ذات الخط الأيديولوجي هو نفسه الذي يُسلح الأفكار التي عملت منذ البداية على إحباط الثورات العربية. فالنص الذي كتبه بيرك ضد الثورة الفرنسية حينها لم يؤسس للأفكار الليبرالية المحافظة في الغرب فقط (التي شملت رموزها لاحقاً بعض الأصوات القبيحة والمعادية حتى للإنسانية مثل تاتشر وريغان)، ولم تضع البذور التي أنتجت الأفكار النيوليبرالية هذه الأيام، بل هو المعين ذاته الذي يستقي منه بائعي البضائع المستهلكة من «مثقفين» عرب يروجون لنموذج ديموقراطية المستوطنين في أميركا الشمالية (انظر قاسم عز الدين: في خرافة التحول الديموقراطي).

استبداد الديموقراطية وديموقراطية الاستبداد

حسناً. ما هي الديموقراطية التي ينظّر لها مروجو بضائع المستوطنين البيض الفاسدة من النيوليبراليين العرب؟ قبل أكثر من ثلاث عشرة سنة، كتبت في «الأهرام ويكلي» المصرية نقداً لمفهوم اليسار الفلسطيني للديموقراطية جاء فيه ما يأتي: «حتى الأحزاب الماركسية الفلسطينية تتبنى نموذجاً متقادماً وفاقد الصلاحية من الديموقراطية يعود للقرن الثامن عشر ويستند أساساً إلى المبدأ النخبوي جداً القائم على فصل السلطات. ورغم أن مبدأ الفصل بين السلطات منحاز اجتماعياً للنخبة ويهدف أساساً لخنق الإرادة الديموقراطية للشعوب، لكن يمكن اعتباره في هذه اللحظة إجهاضاً نظرياً لا أكثر». كان هذا في عام 2000.
اليوم، مع دخول الانتفاضات عامها الرابع، حيث المفاهيم أصبحت من لحم ودم، فإن الوعد الديموقراطي الزائف للنيوليبراليين العرب ليس خللاً نظرياً فقط. إنه السلاح الانقلابي الأكثر فتكاً للثورة المضادة. ليست الديموقراطية الليبرالية إلا الوجه الآخر لاستبداد ذات الطبقة وذات النخبة بوسائل أخرى – هي نظام حكم وآلية أخرى تتمكن عبرها من تجديد شباب هيمنتها.
فالاستبداد لم يكن يوماً استبداد فرد، كما يصور خطاب النيوليبراليين المستبد الفرد ويخترعه. إنه دائماً وأبداً استبداد طبقة، اقتصادي، اجتماعي وسياسي، إلا إذا نسبنا إلى هؤلاء الطغاة «قوة مبادرة فردية لا مثيل لها في التاريخ»، كما قال ماركس في «الثامن عشر من برومير لويس بونابرت» في نقده رؤية فيكتور هوغو في «نابليون الصغير».
وما دام نموذج ديموقراطية المستوطنين البيض يُحَرِّم المسّ ببقرات العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المقدسة ويبقي على ذات البنى التي يستند إليها الاستبداد، وما دامت هذه الديموقراطية لا تمس بأسس الدولة القطرية ولا تعيد تركيبها بطريقة تؤهلها لتجاوز مرحلة التقسيم الاستعماري وتضعها على سكة الوحدة وتفرض تدخلها بالاقتصاد لمصلحة المسحوقين، وما دامت هذه الديموقراطية تسهل فقط تداولاً سلمياً للحكم بين شرائح الطبقة الحاكمة التي لم يكن الطاغية المستبد أكثر من ممثل لها، فهي ليست أكثر من آلية أخرى للاستبداد الاجتماعي والاقتصادي.
ليست ديموقراطية تلك التي تُؤسس على الامتيازات الطبقية القائمة بدل أن تهدمها. ما يجب تصويبه في النقاش هو ضرورة أن ننزل بالمصطلح من السماء، من رطانة القانون والدساتير، ومن عالم التجريد والمفاهيم إلى أرض الواقع حيث الخبز والماء والسكن والطبابة، وليس صناديق الاقتراع فقط. المطلوب ديموقراطية تُؤسس على العدالة، لا الامتيازات، على المساواة، لا التمايز، على الوحدة، لا التقسيم الاستعماري، ضد التبعية وليس من أجل تعميقها. كل ذلك غير ممكن من دون نسف كل البنى القديمة، بدءاً بالتقسيم والتبعية، ومروراً ببنى الاقتصاد والسياسة والاجتماع. ما عدا ذلك هو إعادة إنتاج للاستبداد بآليات أخرى. سيكون معيباً أن يخدعنا بائعو الأوهام بحيلة عمرها مئتي عام.

خاتمة: تفاؤل الإرادة

إنها «لحظة جيدة ليكون المرء مؤرخاً اجتماعياً»، كتب إريك هوبزباوم قبل أكثر من أربعة عقود في «من التاريخ الاجتماعي إلى تاريخ المجتمع» (ص: 43). قد تكون عبارة المؤرخ الفذ تحوي تلميحاً إلى التطور في حقل التأريخ، إلى تحولات في الخطاب وإشارة لشكوك معرفية متجددة تربك كتابة التاريخ باستمرار، أو إلى ابتكارات منهجية شككت في الكثير من الافتراضات التقليدية السائدة في حقل التأريخ.
رغم أنّ الحساسية التاريخية هي أقل ما يهمني في هذه المحاولة المتواضعة، ربما كان علينا فعلاً كتابة تاريخ المرحلة بحذر شديد. إنها قصة أهم وأضخم حدث في التاريخ المعاصر للوطن العربي، القصة المذهلة لشعب بطل لم يتحدّ نخب الوطن العربي فقط، بل منظومة عالمية مهولة من الاستبداد والاضطهاد والاستغلال. بعد ثلاث سنوات من الثورات المدهشة التي فجرت سلسلة من الأحداث الكبرى ولا تزال، أصبح من المهم جداً الانتباه ليس فقط إلى كيف تتكشف الأحداث، بل وأيضاً كيف تم ويتم تسجيلها. فالهجوم النيوليبرالي المضاد على الثورة لم يقتصر على نشر سلسلة من الأوهام حول المواطنة وتمكين الفرد وحقوق الإنسان وغيرها من خرافات مثقفي «الفاست فود» مع عدم المس بالبنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها من بقرات رأس المال المقدسة. بل إن الاعتداء على الثورة كان على مستوى الرواية أيضاً، وهو ما سهّل إعادة توجيهها وحتى التنفير من فكرة الثورة. فنحن اليوم أمام رواية مشوهة تصوّر الثورة على أنها فعل يسعى إلى تحقيق أهداف فردية كبديل للمطالب الاجتماعية – الاقتصادية التي فجرتها أصلاً، أمام رواية عن ثورات هدفها تحقيق التداول السلمي للسلطة بين أطراف النخبة دون المسّ بالنظام السياسي والاقتصادي ولا حتى التفكير في الأسس التي تقوم عليها الدولة. نحن أمام رواية تتجاهل جذور الاستبداد والاستغلال والتبعية المتجذرة في تقسيم استعماري فرض بالقوة على وطننا العربي منذ أكثر من قرنين.
لكن أهم ما في الرواية الحقيقية للشعب العربي أنها تدحض الأوهام عن قوى عالمية وإقليمية ومحلية تم تصويرها على أنها قدر غير قابل للتشكيك ولا مناص منه. لقد بدا الحلم الرائع في متناول اليد حقاً قبل عامين فقط. لهذا، ورغم كل شيء فإن القصة تحمل في طياتها أمل كبير بمستقبل عادل. في عام 2000 استطاعت مجموعة صغيرة، عدة آلاف، من المقاومين العرب في لبنان من هزيمة ما يسمى أعتى قوة في الشرق الأوسط. وفي عام 2006، وفي تكرار بطولي مدهش أكد التفاؤل الذي أنتجه الانتصار الأول، هزمت المقاومة الكيان الصهيوني مرة أخرى. وبشكل مشابه، في تشرين الأول من 2010، وبالرغم من تحالف عالمي مهول، انتفضت الشعوب العربية.
لمن لا يؤمن بقوة الشعوب وبأن التاريخ لا يقف عند محطة، ربما بدت ثورات العرب حينها فعلاً كصاعقة في سماء صافية. لكنها قصة بدأت حقاً عام 1811 مع أول محاولة لتوحيد الوطن العربي. حينها، ارتعبت فرائص قوى الاستعمار الأوروبية وهي تسمع إبراهيم، ابن محمد علي حاكم مصر وقائد جيشه، يعلن من سوريا أنّ هذه الحملة لن تتوقف «إلى أن يتوقف اللسان العربي». مزقت بريطانيا الوطن العربي حينها لتمنع التجربة، وأعادت الكرّة مع فرنسا في سايكس بيكو في 1916، وحسمت أمرها لمواجهة خطر وحدة وحرية العرب على مستقبل الاستعمار بتأسيس كيان استيطاني شطر الوطن العربي ومزّق نسيجه وجعل حتى من فكرة صياغة فكرة الجماعة العربية وتبلور الوعي القومي العربي في غياب الوحدة الجغرافية مسألة تحدٍّ لم تواجه شعباً آخر على وجه الأرض. هذه قصة شعب بطل استكملها في منتصف القرن العشرين الرئيس العربي الفذ جمال عبد الناصر الذي أسّس أكبر كتلة تاريخية إنسانية في مواجهة الاستعمار الغربي، وكاد أن يصنع التاريخ. هذه قصة شعب مقاوم رائع استكمل فصلها في 2006 القائد العبقري للمقاومة العربية السيد حسن نصر الله الذي قاد معركة إفشال أخطر مشروع معاصر لتأبيد الاستعمار الجديد على الإطلاق تحت مسمى الشرق الأوسط الجديد، برعاية وإسناد أعتى امبراطورية عرفها التاريخ.
نعم، قد تنتهي هذه الجولة بهزيمة، لكن لا يمكن التشكيك أبداً في أنّ الشعب العربي قد دخل هذه المرة فعلاً وحقاً عصر الثورة. لهذا، سيكون من السذاجة التشكيك في أن الشعب العربي سيضرب حتماً مجدداً. لم يعد السؤال بعد اليوم إن كان الشعب العربي سيضرب مجدداً، بل، ومثلما يؤمن كل من يؤمن بالتغيير الثوري، السؤال الآن حقاً هو: متى سيضرب العرب في المرة القادمة؟ خليكوا شاهدين.

صحيفة الاخبار اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى