ديمقراطية إردوغان.. من سوريا ومصر إلى تركيا!..صادقت محكمة التمييز العليا على قرار سابق لإحدى محاكم إسطنبول، والتي قضت بالسجن المؤبد (لا توجد عقوبة الإعدام في تركيا) بحق رجل الأعمال المعارض عثمان كافالا، والسجن مدة 18 عاماً بحق أربعة من رفاقه الذين اتهمتهم المحكمة بتمويل (توزيع الطعام والماء والخيم) أحداث حديقة جازي وسط إسطنبول، نهاية أيار/مايو 2013، والتي قُتل فيها ثمانية مواطنين، واثنان من عناصر الأمن.
وعدّ الرئيس إردوغان هذه الأحداث بدايةً لتمرد شعبي يهدف إلى إسقاط الحكومة بدعم من قوى خارجية وداخلية معادية له. ودفع ذلك إردوغان، بصورة خاصة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تموز/يوليو 2016، إلى اتخاذ إجراءات صارمة ضد كل من فكر في اتخاذ موقف معارض له، عادّاً ذلك امتداداً لمحاولة الانقلاب التي حمّل مسؤوليتها لأنصار الداعية فتح الله غولان، الذي كان حليفاً عقائدياً وسياسياً له، حتى محاولة الانقلاب المذكور.
ووصفت أحزاب المعارضة وقواها هذا الانقلاب بأنه مسرحية مدبَّرة، استغلّها إردوغان من أجل تعديل الدستور، ثم تغيير النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي، فحكم البلاد بعد ذلك بمفرده، بعد أن سيطر على جميع مؤسسات الدولة ومرافقها وأجهزتها، وأهمها الجيش والاستخبارات والأمن وجهاز القضاء والإعلام الحكومي، ونحو 90٪ من الإعلام الخاص.
كما استغلّ إردوغان كل هذه السلطات، فقام بطرد نحو 200 ألف من أتباع غولان من جميع مؤسسات الدولة ومرافقها، وخصوصاً الجيش والأمن والقضاء، ووضع الكثيرين منهم في السجون. وتحجّج إردوغان بهذا الانقلاب، فسعى للتخلص من كل معارضيه من مختلف الأطياف والتيارات والميول السياسية، وفي مقدمتهم قيادات حزب الشعوب الديمقراطي وكوادره.
وما زال الرئيسان المشتركان للحزب، صلاح الدين دميرطاش وفيكان يوكساكداغ، في السجن منذ أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 2016، ومعهم عدد من أعضاء البرلمان السابقين، وانضم إليهم نحو 40 من رؤساء البلديات عن الحزب المذكور، والذين تم انتخابهم في آذار/مارس 2019.
وكان الصحافيون وأساتذة الجامعات ورجال الفن والمثقفون اليساريون الهدف الآخر للرئيس إردوغان، بحيث وضع عدداً كبيراً منهم في السجون، ومنهم أنا أيضاً، فقط لأننا اعترضنا على سياساته الداخلية والخارجية، عبر القول فقط، وليس عبر أي عمل فعلي، أي التظاهر أو المَسيرات أو الاعتصامات، كما كان الوضع في أحداث جازي وسط إسطنبول، إذ تجمّع عشرات الآلاف من المواطنين من مختلف الاتجاهات السياسية في الحديقة المذكورة، تعبيراً عن استنكارهم سياسات إردوغان المناهضة للديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان.
وتدخلت قوات الأمن عبر أشد الأساليب وأعنفها لفض الاعتصامات، وخصوصاً بعد تضامن مئات الآلاف من المواطنين في مختلف المدن التركية مع المعتصمين، وشبّههم البعض بالمعتصمين في ساحة التحرير في القاهرة خلال أحداث كانون الثاني/يناير 2011. وكان هذا التشبيه كافياً بالنسبة إلى إردوغان، الذي قيل آنذاك إنه كان متخوفاً من هذا الاعتصام والتظاهرات في مختلف أنحاء البلاد، ومن أن تتحول إلى “ربيع تركي” يُسقط حكمه، كما أسقطت اعتصامات وتظاهرات مشابهة في تونس ومصر وليبيا حكام هذه الدول آنذاك، مع الإشارة إلى الفارق بين أحداث الدول العربية، ذات الطابع الإخواني، والأحداث التركية، التي شارك فيها كل من كان منزعجاً من سياسات إردوغان، الذي يستهدف النظام العلماني بعد أن تورط هو وأولاده ووزراؤه في قضايا فساد خطيرة جداً.
وربما، لهذا السبب، لم يرحم إردوغان من قال عنهم إنهم يدعمون هذه الأحداث، وفي مقدمتهم عثمان كافالا، الذي حمّله إردوغان شخصياً مسؤولية هذه الأحداث، وقال عنه إنه “أداة القوى المعادية لتركيا في الخارج”.
ومن دون أن يحدد هوياتهم لأنه، في نهاية المطاف، كان وما زال هو شخصياً صديق هؤلاء “الأعداء”، وفي مقدمتهم رجل الأعمال الأميركي ذو الأصل اليهودي، سوروس، صانع الثورات الملونة.
يضاف إليه حكّام الكيان الصهيوني، وحتى محمد بن زايد، الذي قال عنه وزير الداخلية السابق، سليمان صويلو، العام الماضي، إنه ‘قام بتمويل محاولة الانقلاب الفاشل، ومعه أميركا وإسرائيل والغرب”.
ومن دون أن يؤثّر كل ذلك في موقف المحكمة، التي حكمت بالسَّجن المؤبد على عثمان كافالا، وفي محكمة التمييز العليا، التي صادقت على هذا القرار، ما دام إردوغان هو شخصياً كان اتهم كافالا بالعمالة والخيانة والتجسس والتآمر. ويعرف الجميع أن المحاكم لا يمكن لها أن تتجاهل أقوال إردوغان، اللهمّ إلا إذا تراجع عنها هو شخصياً.
كما حدث ذلك عندما اتهم إردوغان القس الأميركي برونسون بالتهم نفسها، ومعه الصحافي الألماني/التركي، دنيز يوجال، وقال إنهما “لن يخرجا من السجن ما دام هو في السلطة”، إلا أن المحكمة أخلت سبيليهما في تشرين الأول/أكتوبر وشباط/فبراير 2018، بعد تهديدات الرئيس ترامب والمستشارة الألمانية ميركل، بينما لم يبالِ إردوغان بدعوات العواصم الأوروبية والبرلمان الأوروبي، وحتى الكونغرس الأميركي، إلى إخلاء سبيل كافالا، ما دامت هذه الدعوات تفتقر إلى أي موقف عملي ضد إردوغان أو تركيا.
ودفع ذلك الرئيس إردوغان إلى مهاجمة محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، التي أوصت بتعليق مباحثات العضوية مع أنقرة بسبب عدم التزام الحكومة استقلالية القضاء، كما هي الحال في عدد من القضايا، التي استهدفت كافالا ومن معه، بالإضافة إلى كثير من الإعلاميين والمثقفين والأكاديميين، وحتى البعض من أتباع فتح الله غولان. وهو قال إن “أنقرة ليست ملزمة بهذه القرارات”، وهو ليس صحيحاً بالنسبة إلى تركيا، التي وقعت الوثيقة الاساسية للمحكمة المذكورة وقراراتها ملزمة دستورياً لكل الدول الأعضاء في المجلس الأوروبي.
أحزاب المعارضة وقواها انتقدت واستنكرت باستمرار موقف الرئيس إردوغان هذا وتدخله المباشر في قرارات المحاكم، وخصوصاً فيما يتعلق بمعارضيه، أياً تكن مهنهم، كرجال الأعمال والصحافيين والأكاديميين والساسة، الذين وُضعوا في السجون على الرغم من حصاناتهم البرلمانية التي يتمتعون بها، وأسقطها البرلمان بأغلبية أصوات حزب العدالة والتنمية وحليفه حزب الحركة القومية، الذين يسيطران معاً على البرلمان.
وذكّرت المعارضة الرئيس إردوغان بـ”تدخله المباشر والفعّال” لدعم المعارضتين السورية والمصرية، منذ اليوم الأول، وذهابه إلى ساحة التحرير، ومخاطبته المعتصمين هناك بحجة دفاعه عن مطالب الشعب المصري. وفعل ذلك عبر خطاباته التي ناشد خلالها السوريين، مطالباً إياهم بـ”الاستمرار في التظاهر والنضال ضد النظام حتى إسقاطه”.
ويعرف الجميع كيف تحول أسلوب إردوغان السلمي هذا من أجل ‘الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان”، إلى تدخل مباشر ودعم كل الفصائل المسلحة، التي أدّت دوراً أساسياً في تدمير سوريا ومقتل مئات الآلاف من مواطنيها. وهذا ما تحدث عنه زعماء المعارضة التركية، وفي مقدمتهم زعبم حزب الشعب الجمهوري، كليجدار أوغلو، أكثر من مرة، محملاً إردوغان “مسؤولية الوضع الحالي في سوريا، وانعكاسات ذلك على تركيا (أزمة اللاجئين)، بعد أن أصبح طرفاً رئيساً في تطوراتها، جنباً إلى جنب مع أنظمة الخليج، التي لا علاقة لها بالديمقراطية من قريب أو بعيد”.
كما لم يتردد إردوغان في مصالحة حكام هذه الدول ومصر، وقال عنهم ما لا يقال في السياسة والعلاقات الدولية متهماً إياهم، وخصوصاً الرئيس السيسي بـ”الديكتاتورية والاستبداد والفساد والقتل والإجرام”، لأنه أطاح الإخواني محمد مرسي.
كما تذكًر المعارضة بما قاله الرئيس بايدن عن إردوغان في تشرين الأول/أكتوبر 2014، عندما اتهمه بـ”دعم الإرهابيين في سوريا”، وفي نهاية عام 2019، عندما وصفه بـ”الاستبدادي”، وأكد ضرورة التخلص منه من خلال “دعم المعارضة في الانتخابات”. وهذا ما استغله إردوغان في حملته الانتخابية، ليقول لناخبيه “إن المعارضة تتلقى تعليماتها من الخارج، وهو يتلقى الأوامر من الله تعالى”.
لم يُبالِ إردوغان بكل ذلك، كما أنه لم يبالِ بقرارات المؤسسات الأوروبية، التي أغلقت أبواب الاتحاد في وجه أنقرة بسبب عدم التزامها معايير كوبنهاغن الخاصة بالديمقراطية والحريات السياسية والفردية وحقوق الإنسان، التي يبدو أن الغرب يلفظها بين الحين والحين بعيداً عن الجدية في الدفاع عنها، ما دامت في حاجة إلى إردوغان وتركيا.
كما هي في حاجة إلى الكيان الصهيوني، الذي يقتل الفلسطينيين يومياً ويهدم منازلهم ويشرّدهم بعيداً عن اهتمام العواصم الغربية، بل حتى وسائل إعلامها، التي فقدت صدقيتها في أعوام “الربيع العربي”، عندما كان للجميع دوره المَنوط به ضمن مسرحية الديمقراطية المزيفة، التي أراد الغرب وحلفاؤه في المنطقة أن تخدم اجنداتهم، عبر حركات الإسلام السياسي، المدني منه والمسلح.
وأثبتت هذه الحركات أنها تعادي كل أنواع الديمقراطية، بحجة أنها من صنع الغرب العلماني، يسارياً كان أو يمينياً، بدليل أنها لم تعد تلفظ حتى اسم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي التي دمرته.
ويفسر كل ذلك مساعي الرئيس إردوغان، منذ بدايات “الربيع العربي”، لأسلمة الدولة والأمة التركيتين، ليساعده ذلك على كسب مزيد من الدعم والتأييد والبيعة له من الأحزاب والقوى والمجموعات الإسلامية العربية.
ويفسّر مساعيه للتخلص من الفكر والنهج العلمانيين للجمهورية الأتاتوركية، التي ستحتفل بذكراها المئوية في 29 تشرين الأول/أكتوبر، وهو ما يتطلب مزيداً من العمل للتخلص من أي صوت معارض له مهما كلف ذلك تركيا على صعيد علاقاتها بالغرب، وخصوصاً العواصم الأوروبية، عبر كل مؤسساتها. وبات واضحاً أنها لا تبالي بما يقوم به إردوغان ضد الديمقراطية ما دامت مستفيدة منه بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
ويبقى القرار للشعب التركي، الذي أثقل إردوغان كاهله بالمشاكل المعيشية اليومية حتى لا يفكر في قضاياه المهمة، كالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان. وجاء قرار المحكمة الأخير ليقول لهم إن من يفكر في ذلك فسيكون مصيره كمصير عثمان كافالا ورفاقه والآخرين ممن هم في السجون، لأنهم اعترضوا على إردوغان بالقول فقط، وليس بالأفعال!