ديموقراطية إردوغان.. نهاية عسكر أتاتورك والسلطة للسُلطان

 

عام 1997، عندما كان رئيساً لبلدية اسطنبول، اعتبر الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أن “الديمقراطية وسيلة وليس هدفاً” بالنسبة إليه، مُشبّهاً النظام الديمقراطي في البلاد “بالقطار الذي سيسافر به ولكن سينزل منه في المحطة التي يشاء“.

اليوم وبعد أكثر من عشرين عاماً على ذلك، وبعدما أودع السجن لمدة أربعة أشهر  بسبب قصيدة اعتبرتها المحكمة آنذاك دعوة إلى التمرّد الديني ضد الدولة، نجح إردوغان بأساليبه الذكيّة في السيطرة على هذه الدولة بكل ما فيها.

فبعد أن حقَّق حزب “العدالة والتنمية” انتصاراته الديمقراطية المُتتالية إثر انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 2002 جاء الربيع العربي عام 2011 ليساعد إردوغان على التفكير استراتيجياً، بعد أن نجح بتكتيكاته الإقليمية والدولية، والأهم داخلياً، في كسب المزيد من التأييد لمقولاته السياسية والاجتماعية الإيجابية وأدائه الاقتصادي الناجح. وعندما رحَّب الغرب بنموذج إردوغان الديموقراطي الإسلامي في بلدٍ عِلماني مهم كتركيا، تسارعت الأحداث في المنطقة، حيث وصل الإسلاميون في عدد من دولها إلى السلطة، ومنها مصر وتونس واليمن والمغرب وليبيا، وكادوا أن يفعلوا ذلك في سوريا لكن الأخيرة أسقطت أحلام إردوغان.

كان هذا السقوط بداية لسلسلة من الأحداث المُثيرة التي أتاحت الفرصة أمام الرئيس التركي ليصبح الحاكِم المُطلَق للبلاد، وليكون صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في مُجمَل سياسات تركيا الخارجية مهما كانت خطيرة، كما هي الحال في سوريا وليبيا.

بدأت القصة في 27 حزيران/يونيو 2016 عندما اعتذر إردوغان فجأة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن إسقاط الطائرة الروسية في الأجواء السورية بتاريخ 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 . وفي 15 تموز/يونيو 2016  فوجئ الجميع بمحاولة   الانقلاب الفاشلة داخل تركيا حيث قيل إن أتباع وأنصار فتح الله غولان قاموا بها، فيما وصفتها أحزاب المعارضة بالتمثيلية الذكية.

وكتب الإعلام الموالي لإردوغان آنذاك عن دور بوتين في إفشال هذا الانقلاب، وقيل غنه كان مدعوماً من “إسرائيل” والإمارات وأميركا، حيث يقيم غولان منذ آذار/مارس 1999، أي بعد شهر على اختطاف المخابرات التركية لزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان من نيروبي وتسليمه لأنقرة في 14 شباط/فبراير 1999.

أساساً، كانت هذه المخابرات وراء غولان منذ أن كان خطيباً متواضِعاً في جامع مدينة أرضروم شرق البلاد، عندما كان لواشنطن باع طويل في مجمل سياسات تركيا الداخلية والخارجية باعتبارها خط الدفاع الأول ضد الشيوعية والاتحاد السوفياتي. وحظي غولان بفضل هذا الباع وتوصياته وأحياناً إملاءاته وتعليماته بدعم معظم حكّام  تركيا بعد أن تحوّل الشخص إلى رجل ديني وداعية “محترم من قِبَل الجميع” بمَن فيهم إردوغان وعبد الله غول وأحمد داود آوغلو، إضافة إلى جميع قيادات حزب “العدالة والتنمية” الحاكِم.

لبّى إردوغان، بحسب قوله، جميع مطالب غولان عندما كان رئيساً للبلدية وبعدها رئيساً للوزراء ثم رئيساً للجمهورية بدءاً من حزيران/يونيو 2014. واستطاع غولان بفضل هذا الدعم أن يصبح قوّة لا يُستهان بها بكل ما تعنيه هذه الكلمة، في الوقت الذي كان إعلامه يصفه بأنه “خميني تركيا”.

فقد وظَّف غولان مئات الآلاف من أنصاره وأتباعه في جميع مؤسّسات ومرافق الدولة على رأسها الجيش، حيث كان يسيطر على نحو 70% من جنرالاته وضباطه، كما كان يسيطر على نسبة مُماثِلة من الكوادر الأمنية والقضائية التي ساعدت إردوغان على التخلّص من مئات الجنرالات وضباط الجيش العلمانيين للفترة 2007-2012 بعد أن اتهمهم بالتخطيط لانقلاب عسكري، فوضع الكثير منهم بمَن فيهم رئيس الأركان إيلكار باشبوغ في السجون، وأحيل المئات منهم إلى التقاعد، ليسيطر أتباع غولان  برضا إردوغان وتعييناته على المؤسَّسة العسكرية وعلى كل من الجهاز الأمني والقضائي.

عندما جاءت محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016 كانت الحجَّة كافية بالنسبة إلى إردوغان، فتخلّص من جميع هؤلاء خلال فترة قصيرة، كما تخلّص من مئات الآلاف من أتباع غولان في جميع مؤسّسات الدولة، بمن فيهم اثنان من الضباط المُرافقين له، بالإضافة إلى مجموعة من حرسه الخاص.

دفع ذلك، إضافة إلى تفاصيل مثيرة أخرى، المعارضة لطرح العديد من التساؤلات وأهمّها: “إذا كان ما يُقال صحيحاً فلماذا لم يغتال أحد هؤلاء الرئيس إردوغان طالما أنه كان قريباً منه دائماً؟”.

وجاءت الخطوة الأهم بالنسبة لإردوغان عندما أعلن حال الطوارئ في البلاد بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، فأجرى في 16 نيسان/أبريل 2017 استفتاء على التعديلات الدستورية التي ألغت النظام البرلماني وأقامت نظاماً رئاسياً سيطر من خلاله على جميع أجهزة ومؤسّسات ومرافق الدولة التي تحوّلت “إلى أدوات حزبية تابعة له”، والتعبير يعود إلى زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو، الذي اتهم إردوغان بتزوير نتائج الاستفتاء عبر التآمر مع الهيئة العليا للانتخابات، وقال عنها كليجدار أوغلو إنها عصابة مافيا.

استغلّ إردوغان نتائج الاستفتاء وقال إن الشعب أيَّده بنسبة 52،4%، فاستعجل من خلال المراسيم الرئاسية “إقامة وترسيخ نظام استبدادي ديكتاتوري لا يتقبّل أي اعتراض، ليس فقط في السياسة الخارجية، بل الداخلية أيضاً”، بحسب تعبير كليجدار أوغلو. فقد أصبح “الفساد من أهم سِمات نظام إردوغان” حسب رأي قيادات المعارضة التي تعتبره السبب الوحيد لمجمل مشاكل تركيا الداخلية والخارجية.

فقد سيطر إردوغان على 95%من الإعلام الحكومي والخاص، وجعل من المحاكم مقصلته التي لا ترحم أيّاً من معارضيه ولاحقاً منافسيه من أمثال رئيس الوزراء السابق وزعيم حزب المستقبل أحمد داود أوغلو الذي لم يعد يخفي انتقاداته العنيفة لإردوغان متّهماً إياه “بالفساد والديكتاتورية والقضاء على الديمقراطية”.

وهذا ما سيفعله وزير الاقتصاد السابق علي باباجان الذي سيعلن عن حزبه الجديد قريباً في ظل معلومات تتوقّع لإردوغان أن يضع تعريفاً جديداً للديمقراطية التي يبدو أنه قد نزل من قطارها بعد انقلاب تموز/يونيو بعدما ساعده بوتين في ذلك، كما ساعده في أمور أخرى جعلت منه “نجم” كل المعادلات والحسابات الاقليمية والدولية بكل نتائجها وانعكاساتها على الوضع الداخلي. فقد نجح في السيطرة على كل شيء ولكن الأهم المؤسّسة العسكرية التي كان الجميع يهابها منذ قيام الجمهورية العلمانية التي تستعد لإحياء ذكراها المئوية بعد ثلاث سنوات قد تكفي لإردوغان للتخلّص من إرثها الأتاتوركي ولم يبق منه إلا القليل.

فالمعلومات تتحدّث باستمرار عن خطوات عملية وسريعة على طريق أسلَمة المؤسّسة العسكرية التي يشرف على اختيار عناصرها أستاذ جامعي مُختصّ بالتاريخ العثماني ومُقرَّب من إردوغان. كما لا يمكن لأيّ ضابط أن يستلم منصباً عسكرياً مهماً إلا بعد التأكّد من ولائه الشخصي لإردوغان أولاً، وثانياً لعقيدة إردوغان الدينية.

وهنا تطرح المعارضة العديد من التساؤلات أهمها: كيف وإلى جانب مَن كانت واشنطن يوم انقلاب 15 تموز/يونيو؟

هل كانت مع غولان الذي كان ومازال يعيش في أميركا؟ أم مع مَن تبقّى من حلفائها داخل المؤسّسة العسكرية؟

ثم، إذا كان صحيحاً أن واشنطن دعمت الانقلاب، فلماذا فعلت ذلك؟ ولماذا تستمر في علاقاتها مع إردوغان وتصفه بالحليف الاستراتيجي؟

الأوساط السياسية والإعلامية ستستمر في الحديث عن سيناريوهات مُثيرة، لكنها ستبقى ناقِصة طالما أن إردوغان رفض أكثر من اقتراح تقدّمت به أحزاب المعارضة لتشكيل لجنة برلمانية للكشف عن جميع خفايا وأسرار محاولة الانقلاب الفاشل.

ويعرف الجميع أنه لولا محاولة الانقلاب لما كان إردوغان الآن في الوضع الذي هو عليه اليوم، فهو يحلم بذكريات الخلافة العثمانية وسلطات السُلطان فيها بلا حدود، طالما أن الجيش الإنكشاري معه والانتخابات قد لا تعني أي شيء بعد الآن!

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى