دي أنونزيو الإيطالي الفاشي… كان شاعراً كبيراً (هناء عليان)

 

هناء عليان

في يوم توسكاني حارّ، ترجلت إحدى أشهر محظيات فرنسا، ليان دي بوجي، من عربة مملوءة بالورود لتقدم التحية لمضيفها الشاعر الإيطالي الشهير غابرييل دي أنونزيو. الشابة الفائقة الجمال ذهلت لما رأته «قزماً مخيفاً بعينين محمرتي الأطراف، بلا رموش، وبلا شعر، له أسنان تميل إلى الخضرة، ونفس كريه، وسلوك مشعوذ دجال». ومتسائلة عن سرّ سمعته كزير نساء، صدّت الجميلة دي بوجي كل محاولاته للتقرب منها، وتوجهت إلى العربة على عجل، لتعود من حيث أتت رافضة كل الدعوات اللاحقة لزيارة فيلّته مرة أخرى.
كان ردّ فعل دي بوجي غير اعتيادي. صحيح أن غابرييل دي أنونزيو كان سيئ الصيت وقصير القامة ويتمتع بطباع غير لائقة، لكنه بطريقة ما كان يجذب النساء (هو شخصياً كان يعزو ذلك إلى فحولته). كان متشاوفاً ونرجسياً، إلا أنه دوّخ أشهر نساء أوروبا برومنطيقيته وميله إلى البذخ، ومن ثم تجاهله إياهن ومعاملتهن باحتقار: كان يزور عشيقته في كابري فيعلق الزهور المصنوعة من زجاج المورانو الفاخر على شجيرات حديقتها، يشتري السجاد الفارسي لتستلقي خيوله عليه كي تبدو جميلة أمام عشيقاته، يغير الزهور على منضدة سريره ثلاث مرات يومياً إكراماً لهن. لكن رومنطيقيته هذه لم تكن تدوم طويلاً، إذ سرعان ما تتحول إلى سوء معاملة وإذلال وطرد. كان يحب رؤية النساء المقهورات. لطالما تباهى بأنه يهوى تدمير العلاقات الزوجية حتى أنه كان يتفاخر بعدد النساء اللواتي تركن أزواجهن وأولادهن ليعشن معه مذعنات لخياناته إياهن، لأنهن ببساطة غير قادرات على العيش بعيداً من غرفة نومه. في يومياته، كتب الكثير عن اغتصابه خادماته في شكل يومي أحياناً، ولكن فقط بعد أن ينتهين من التنظيف، واستدراجه فتيات شابات لتحطيم مستقبلهن.
أشهر علاقاته كانت مع الممثلة إليانور دوس التي حين رأته للمرة الأولى قالت: «أفضل الموت في زاوية مهجورة على أن أقع في حب شخص جهنمي مثل دي أنونزيو»، لكنّ السنوات الثماني التالية جعلتها أسيرته، بينما كان هو يكتب أبرز قصائده، كانت هي تعاني بمرارة من عشقها له. وفقاً لصديقاتها المقربات «كانت مدمنة عليه، لم تستطع الاستغناء عنه قط. كانت في حالة يرثى لها، حالة من اضطهاد رهيب للجسد والروح».
اشتهر دي أنونزيو، إضافة إلى جموحه الذي تباهى به واعتبره سر جاذبيته الأول لدى النساء ومحركه للكتابة، بتعطشه للحرب والدماء وبتطرفه السياسي. كان لكتاباته دور فاعل في إقناع إيطاليا بدخول الحرب العالمية الأولى، بحيث شارك شخصياً في المعارك، وأمر بقتل الكثيرين «لأن أي شعب لا ينال الاحترام إلا بإراقة دماء شبابه. إنها معمودية الدم».
لا تخفي لوسي هيوز هاليت في سيرتها الذاتية الرائعة والمفصلة عن الشاعر الإيطالي الأشهر في عنوان «الصياد: غابرييل دي أنونزيو، شاعر، مُغوٍ، داعية حرب» (عن دار فورث استايت)، كرهها للشاعر، ومقتها ليس فقط لأسلوبه في التعامل مع النساء، بل ولطريقته في الترويج لنفسه وكتاباته وسياسته الفاشية. في عام 1897، كتب في رسالة إلى ناشره «إن العالم يجب أن يصدق أنني قادر على فعل كل شيء، أي شيء». لم يكن يسخر. كان باستطاعته فعل أي شيء من دون اكتراث للقيم والأخلاق. عندما أصدر ديوانه الأول، بعث للناشر يخبره أن صاحب الديوان قتل في حادث رهيب ليكسب المزيد من التعاطف والدعاية. وعندما سرقت لوحة الموناليزا ادعى أنهم جلبوها إلى منزله!
ولد دي أنونزيو عام 1863 في عائلة من النبلاء من أبروتسو. خلال نشأته تأثر إلى حد كبير بكل من نيتشه وفاغنر وتوماس كارلايل الذي كشف له «كيف يمكن الرجال الأبطال تغيير مسار التاريخ»، ولطالما ظن دي أنونزيو الدونكيشوتي أنه واحد منهم. كان له الكثير من الأعداء في عالم الأدب والسياسة، وقد اتهمه المسرحي رومان رولان بأنه «صياد مفترس لأفكار الآخرين».
عندما بلغ الحادية والثلاثين، كان دي أنونزيو كتب مجموعة دواوين ناجحة وأربع روايات. ونال إعجاب كتّاب جيله من أمثال جيمس جويس ومارسيل بروست، ولكن خفتت شهرته الأدبية لاحقاً بعدما أصبح عراب الفاشية.
في عام 1915 اختار غابرييل دي أنونزيو أن يتحول من أديب مرموق إلى داعية حرب مختل، ومن ثم إلى بطل وطيار حربي. عند اندلاع الحرب العالمية الأولى كان قد بلغ الحادية والخمسين من عمره. كان يعيش في فرنسا في ملل وتراخٍ، هرباً من دائنيه في إيطاليا بعدما أنفق أمواله على النساء، ربما شعر بأن الحرب هي العلاج الوحيد للملل الذي ينتابه، أو المصدر الوحيد لإشباع تعطشه للدم.
هكذا، عاد دي أنونزيو إلى بلاده وشرع في سلسلة خطابات تحرض إيطاليا المحايدة على الدخول في الحرب، وتندد بمعارضي الحرب «المتخاذلين الخونة الذين يتوجب قتلهم». وبعد ساعات قليلة من الصراخ وتأجيج الحشود، كان بطريقة ما يتمكن من إعادة إحياء الشاعر في داخله ليتأمل «الليالي الرومانية المعطرة بالياسمين» ويكتب قصائد رائعة في وصف الطبيعة والجمال.
مع كلّ سيئاته، لم يكن دي أنونزيو جباناً. لم يدفع الناس إلى الحرب ليلجأ هو إلى قلعة آمنة، بل شارك شخصياً في القتال على رغم سنه. عمل مع الجيش، والقوات البحرية والجوية، ولم ينسَ سرد مآثره خلال تنفيذه الغارات وإطلاقه القنابل والطوربيدات، فضلاً عن بطولاته التي أدت إلى فقدانه النظر في إحدى عينيه وإصابات أخرى. في تلك المرحلة أطلق شعاره الشهير أنه «يجرؤ على ما لا يجرؤ عليه أحد». وعند انتهاء الحرب، رفض معاهدات السلام معتبراً أن فيها انتقاصاً من مكاسب إيطاليا. في أيلول (سبتمبر) 1919 أراد السيطرة على مدينة فيوم وضمها لإيطاليا، فنصب نفسه رئيساً لعصابة من الغوغائيين القوميين عرفوا بعصابة القمصان السود الذين استبدلوا شعار غاريبالدي «روما أو الموت» بصرخات «فيوم أو الموت!»، وبدأوا زحفهم باتجاهها. أمرت الحكومة الإيطالية جيشها بمنعه من دخول المدينة، لكنّ الضباط رفضوا الانصياع بسبب شهرته الكبيرة في حينه كبطل قومي، وأدى دي أنونزيو دور نابليون على أكمل وجه، حتى أنه قام بتعرية صدره أمام عناصر الجيش طالباً منهم إطلاق النار عليه.
دخل الشاعر الفاشي المدينة، وأعلن من على شرفة القصر الذي سكنه لاحقاً ضمها إلى إيطاليا. هناك أمضى قرابة عام بصفته حاكم الأمر الواقع. كان يشاهد المدينة تتداعى أمام عينيه على أيدي الغوغائيين، لكنه لم يكن يكترث لأنه عاش برفاهية مطلقة إلى أن قرر تركها.
في ذلك الوقت، كان من بين الشخصيات الأكثر شعبية في إيطاليا حتى إن موسوليني افتتن به وبأفكاره إلى حد كبير، وساهم في تعزيز شهرته ومكانته في البلاد. وتردد في إيطاليا «أن دي أنونزيو لم يكن فاشياً، بل إن الفاشية كانت دي أنونزية»، أي أنها استمدت منه معظم أفكارها.
في سنواته الأخيرة، عاش في فيلّته الرائعة على ضفاف بحيرة غاردا حيث كان موسوليني يرسل له الهدايا القيمة ويغدق عليه الأموال، حتى إنه أهداه مقدمة سفينة حربية وضعها في حديقة منزله لإطلاق التحية لضيوفه. كان أولاده يزورونه من حين إلى آخر لكنه أجبرهم على مناداته بالمايسترو وتعني بالإيطالية «المعلم». حتى عندما تقدم به العمر لم يفقد اهتمامه بالنساء. عشيقته الأخيرة كانت عازفة بيانو محترفة تدعى لويزا. لم تكن تمانع أن تعتني به وبمنزله، وأن تشاركه مع بقية النساء اللواتي كن يترددن عليه ويقمن معها. في الليل كانت تترك وردة في ثقب مفتاح غرفتها عندما كانت ترغب بزيارته إياها. بعد رحيله سرت إشاعات عن كونها عميلة نازية، وأنها ربما تكون قتلته بجرعة مخدرات زائدة.
قد يمقته كثيرون لأسلوب عيشه وتعاطيه مع الآخرين، لكن أحداً لا يمكنه نكران حقيقة أنه كان كاتباً وشاعراً مذهلاً. صحيح أنه ليس الكاتب الإيطالي الأهم بعد دانتي كما كان يزعم، لكنه ترك أعمالاً بارزة مثل «شعلة الحياة»، «الضحية»، «انتصار الموت» و «أطفال المتعة»!

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى