نوافذ

ذكريات

ذكريات … يرتبط اسم عبد الرحمن منيف بروايتيه: “شرق التوسط” و “شرق المتوسط مرة أخرى” وهما نموذجيتان لأدب المرارة الإنسانية ناتج التجربة الرهيبة للسجن العربي… شرق المتوسط .

كاد يبكي صديقي محمد صالح وهو يصف لي “السيلول” ذلك المكان الرهيب تحت الأرض بطابقين، المؤلف من مترين طولاً ومتر ونصف عرضاً، مع حفرة تواليت، وضوء لمبة باهر ليلاً نهاراً… السيلول بكلمات هو “سجن السجن” حيث يضيع الليل والنهار والأيام والشهور والسنون… حيث يضيع الزمن.

يقول محمد: “بعد حفلة تعذيب رهيبة، الجلد، والتعليق، والصلب، والكهرباء، رموني في هذا المكان “السيلول” بعد الإغماء، وبعد قرار طبيب السجن، المسؤول عن تقرير “كمية” تحمل الضحية لاستكمال التعذيب بغية انتزاع الاعترافات. وهي ـ مهنة هذا الطبيب ــ واحدة من أبشع المهن الإجبارية في العالم… حيث القسم المشهور على الحفاظ على شرف المهنة، لا يعني شيئاً (قسم أبقراط) فالطبيب، تحت ضغط الارتياب، بالتعاطف مع الضحية لأسباب إنسانية، يقرر، في نهاية المطاف، أن يتحمل ضميره جرعة من الألم للضحية…

تابع محمد، وقد مضى نصف قرن، على هذه المحنة:

عندما استيقظت من الإغماء، لم أعرف أين أنا، ولكن العجيب أنني لم أستطع معرفة مَن أنا؟ ولا سبب وجودي في هذا المكان…. وبعد قليل بدأت قشور الرطوبة على الجدران تتحرك كأشكال أسطورية باتجاهي، فانكمشت إلى الزاوية وأنا أرتجف… أنا اللاسم، اللاجسد، اللازمن.

حكى محمد هذا المقطع البسيط بسبب الحديث عن الرواية، رواية السجون العربية ، وخاصة روايات عبد الرحمن منيف.

ذات يوم استعار صديقي هذا رواية شرق المتوسط وكان قد مضى زمن على تجربة السجن، وعلى الصفحة الأخيرة كتب تعليقاً على الرواية، أثار انتباه صاحب الكتاب وكان صديقاً لعبد الرحمن منيف، فقال له: اقرأ هذا التعليق، قرأه منيف بدهشة، لدقة الملاحظة، والانتباه على تفاصيل “سجونية” ـ إن صح التعبيرـ تفتقر إليها الرواية. قرر دعوة محمد، من بين آخرين إلى عشاء، وأجلس منيف صديقي هذا، إلى جواره في حفاوة واضحة وحنوّ، وقرر أن يتولى تقديمه للجلساء بهذه الكلمات:

“جمعت كل ما طالته يداي من المقالات والتعليقات والدراسات على رواياتي… وسوف أعترف أن الصفحة التي كتبها محمد صالح في آخر ورقة من الكتاب، وحدها، هي الكلمات التي، بسبب تجربة محمد في السجن، والتي لم أكتبها… هي التي أبكتني”.

وأخرج الكاتب الكبير منديله ومسح دموعه، بينما محمد صالح يغالب البكاء الذي اختلطت أسبابه: اختلاط الذاكرة، بالواقع، والواقع بالكتابة عنه.

عبد الرحمن منيف كان يقول: “الكاتب الذي لا يكافئه القارىء كأنه لم يكتب”.

 

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى