راويةُ الأفلام: العلاقة التكاملية بين الحركة والصورة

 

الحركة هي الأفعال أو التصرفات التي يقوم بها الإنسان، مثل تعابير الوجه، نبرات الصوت، حركات الأقدام، هز الكتف أو الرأس، طريقة المشي، والقدرة على ضبط النفس، والتحكم في الانفعالات والحركات. ويعتبر علماء النفس أن جسد الإنسان وجميع ما يصدر عنها من الحركات والإيماءات والإيحاءات والتعبيرات بالجسد أو الصوت أو النظر أو غيرها هي لغةٌ كباقي لغات العالم.

في المجال الفني كثيرا ما يتم التعويل على الحركة خاصة في العروض المسرحية، يقف الممثل على الخشبة أو الركح أو أحيانا في الشارع مثل ما كان يفعل شارلي شابلن فمن خلال الحركة فقط، ومستغنيا عن النص، استطاع أن يقدم آلاف العروض ويرسم البسمة على وجه المشاهد. ثم انتقلت الحركة من صيغة المباشر إلى العرض على شاشة كبيرة أو قطعة من القماش الأبيض. من هنا تطورت الحركة من لغة ركحية إلى لغة سينمائية.

إننا مصنوعون من مادة الأفلام نفسها” هكذا افتتحت الحورية ديلسين رواية “راوية الأفلام” – لايرنان ريبيرا تيلر – الصادرة في تشيلي عام 2009، والمنقولة إلى العربية عن دار بلومزبري – 2011 – ترجمة صالح علماني. رواية مسبوكةُ بلغة سلسة وأسلوب سردي عفوي ومتدفق تحكي حياة أسرة تضم خمسة أبناء وزوج وزوجة اعتادوا ارتياد السينما مرة كل أسبوع فأصبح طقسا مميزا لديهم. لكن الظروف شاءت أن تحرمهم من هذه المتعة بعد تدهور الوضع المادي للأسرة و مغادرة الأم للعائلة بشكل مفاجئ.

مازاد من مُعاناة الأسرة هو إصابة الأبِ بعاهة مزمنة بحيث منعه من ارتياد دور السينما وحتى لا تنقطع المتعة التي تعودها مع عائلته ارتأى أن يرسل كل مرة أحد أولاده لمشاهدة الفيلم وروايته لهم بعد ذلك.

لاحظ الأب أن لماريا مارغريتا قدرة عجيبة على إعادة تمثيل أحداث الفيلم الذي شاهدته، فكانت تتذكر الحوار الذي دار بين الممثلين وتعيد تمثيله مع تغيير في نبرات الصوت على حسب ظهور الشخصيات ثم طورت من موهبتها فأصبحت تستعين بأدوات موجودة في البيت وملابس كانت لوالدتها مما أكسبها  القدرة على الإقناع.

ذاع صيتُ الراوية الصغيرة، فبدأ الجيران بالتوافد لسماع الأفلام التي ترويها ماريا إلى أن تحولت غرفة الجلوس إلى قاعة سينما محكي. كانت الحورية ديلسن هي البطلة المتعددة إذ أبهرت بتقمصها لشخصيات متنوعة الحضور. تقول ماريا “لم أكن أروي الفيلم، بل كنت أمثله، بل أكثر من ذلك كنت أعيشه.”

تغيرت حياة الأسرة من الرتابة إلى الحركة، فأضفت ماريا إلى البيت روحا ودفئا جديدين كانوا قد فقدوه برحيل الأم وتركها البيت فجأة.

تم تقسيم الأدوار على الأخوة الذكور كل له مهمته، هناك حارس البوابة يهتم بإدخال المتفرجين وأبعاد المتطفلين عن الباب وعن الشبابيك وهناك من يهتم بتجهيز الديكور والمسرح لماريا، وأما البقية فمهمتهم هي تنظيم الوافدين وإرشادهم إلى أماكنهم كل حسب مركزه في المعسكر السكني. وبعد انتهاء العرض كان البعض من المتفرجين يتكرمون بدفع مبلغ صغير للعائلة كثمن رمزي على المشاهدة.

إن رواية فيلم هي مثل رواية حلم ورواية حياة هي مثل رواية حلم أو فيلم”، هكذا كانت ماريا مارغريتا تفعله فكانت تروي للحضور أفلاما قد شاهدتها في السينما بينما كانت في الآن نفسه راوية الحكاية. فكانت راويا عليما بأحداث النص، يسرد على لسانها ايرنان أحداث الرواية مقحما في بعض المقاطع تلميحات لأحداث سياسية على الصعيد العالمي والمحلي.

لكن زهرة مثل ماريا مارغريتا لا يمكن لها الصمود في أرض لا تنتج إلا الملح. بعد أن توفي والدها في أحد العروض التي كانت تقدمها تدهورت حالة العائلة وتشتت الإخوة وراح كل في سبيله تاركين ماريا تواجه مصيرها بمفردها. وبصروف الزمن يحل على المعسكر الشيء الذي سيقضي نهائيا على المستقبل المهني لماريا. نقصدُ ظهور التلفاز في معسكر الملح إذ تلاشت حظوظ الراوية في إيجاد منصتين لأفلامها، فالكل أصبح مهووسا بذلك الصندوق السارد للحكايات.

كانت الحورية ديلسن بمثابة النسيم العليل الذي يهب على المعسكر في أيام الحر القائظة، أخرجتهم من عالم البؤس والكآبة إلى عالم من سحر الحكاية، أيقظت فيهم أحاسيس كاد ملح النترات أن يقضي عليها فيتحولون إلى مجرد ربوتات بشرية مات فيها الشعور بالفرح والمتعة.

لم يكن اختيار اسم الحورية ديلسن اعتباطيا من طرف الكاتب فهذه الفتاة الشابة في الحقيقة ما هي إلا ذلك الوطن الجميل الذي عاش فترة ازدهاره وثرائه ثم انتكس ليعيش بعد ذلك مأساة تتواصل طوال سنوات عديدة، الحورية هي أيضا رمزاُ لذلك الكائن الأسطوري الذي يغني فيسحر البحارة بصوته الآسر الآتي من أعماق البحار هكذا هي راوية الأفلام فتاة صغيرة آتية من أسرة شبه معدمة أصبحت بفضل ما تتقنه من سرد وحركة حديث أهل القرية.

راوية الأفلام قصة قصيرة لا تتعدى المائة وتسع صفحات استطاع من خلالها الروائي أن ينقل لنا ببراعة ساردته الصغيرة درايته الواسعة بمجال السينما، فمتعة مشاهدة الصورة على قطعة قماش بيضاء لا تضاهيها متعة أخرى لكن الكاتب استطاع أن ينقل لنا هذه المتعة من على قطعة قماش إلى ورقة بيضاء خط عليها مجموعة كلمات انقلبت لدى القارئ إلى صور ومشاهد تتراقص أمامه.

 عمل الكاتب في هذه الرواية إلى نقل الصورة المرئية إلى كلمات مقروؤة لكن ماذا لو عكسنا الأمر وحولنا راوية الأفلام إلى سيناريو ثم إلى صورة، وأخيرا إلى فيلم يعرض على شاشة كبيرة داخل قاعة سينما. هل سيحافظ الفيلم على نفس الجودة التي أتت بها الكتابة؟ أم أن متطلبات الكتابة السينمائية ستحدث تغييرا في السيناريو وتأخذ النص إلى قراءة أخرى؟

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى