رحل صديق آخر

البطولة أن تعلو قيمة حياتك في لحظة الموت… حين لا تناقش الجلاد وتزدريه.
__________________________________________

علمت أن السفير ستغلق أبوابها. ولم أسأل عن الأسباب، فهي موجودة بغزارة، فطلب مني الصديق سامر اسماعيل كتابة بهذه المناسبة. كتبت ولكن السفير لم تغلق، وفرحاً بها أنشر ما كتبت.

عندما أحرقوا ألف ليلة في القاهرة، أتذكر كاتباً اسبانياً قال:

إذا رأيت في أسوأ الكوابيس أن كتاب سرفانتس “دون كيشوت” قد احترق، فإنني سأستيقظ من هذا الكابوس مذعوراً، لأرى كتاب ألف ليلة محترقاً.

ثمة في حياتنا كتب، وأفلام، وصحف ومجلات، وموسيقى، ومراكز نور… لا نستطيع تخيلها من دون أن نحس بالنقصان، وبالأسف الممزوج بأنواع عديدة من عدم الاستيعاب.

من بين هذه الموجودات “جريدة السفير” التي منذ أإعدادها الأولى أنبأتنا أن الصحافة ليست الخبرة وحسب، ولا التعليق السياسي والصورة والمقال، والمانشيت المبهر والسبق الصحفي…وإنما أيضاً هي المنبر المعرفي والثقافي، ومكان استضافة كتاب الوطن العربي، ومكان سجالهم.

جريدة السفير، ليس غريباً أنها اليوم تغلق أبوابها، بل الغريب أنها بقيت حتى الآن. فلقد كان ميلادها في عاصفة (السبعينات) وحضانتها في الحروب المحلية، وفتوتها في الحروب الكونية، وها هي تتجه إلى النهاية في أحدث أنواع الحروب وأكثرها بذاءة وتهديداً لسلام الأوطان والأوثان. والبشر.

جريدة السفير درّبت نفسها، لا أدري كيف، على السير في حقول الألغام. فليس بإمكان الصحافة أن تعثر على استقلالها، وتكتفي عادة بالعثور على وجهة نظر في مسألة الاستقلال. وأهم الرايات المزعومة للاستقلال هي الراية المالية. وهكذا تتعثر الصحف، تحيا وتموت، وأحياناً لا نعثر تماماً وبأمانة، على الأسباب الحقيقية للموت.

لكننا نعرف أن الامبراطوريات الإعلامية هي التي تبقى مئات السنين. وسيكون سهلاً، في الوقت نفسه، أن تُقطع الذرع الإعلامية التي تحاول أن تصنع البطولة من الأحلام والقضايا الخاسرة. أما الممالك الإعلامية فهي التي نفطها أكثر غزارة، ومشروعها أكثر حاجة إلى الجريدة والتلفزيون، والفضاء والإذاعة و…المعجزات. وقد يكون قرار بقائها هو مسودة قرار إلغاء ما عداها. فكما هناك المال السياسي هناك المال الإعلامي، وكلاهما أدوات حرب دائمة.

مؤلم أننا لن نقلب أوراق هذه الجريدة التي تعودنا عليها، أو نفتش في النت عنها بعد أن غادرتنا سورية.

مؤلم أننا لن ننتظر، بعد اليوم، ملحقها الثقافي الذي نشرنا فيه قمصاننا وزفراتنا، وكان رحيباً، مر عليه كتاب وشعراء ومثقفو هذه البلاد العربية، حيث كانت السفير منبرهم، في محاولتها أن تكون “صوت الذين لا صوت لهم”.

مؤسف حد الألم إعلان موت من هذا النوع. ولكننا، يبدو، تعودنا على الوداعات الرنانة. على رؤية قلم مكسور، وكتاب ممزق، وبشر محنتهم هي الصفحة الدائمة الأولى في جريدة الكون.

أحاول أن أستعيد بصرياً، صور الأشخاص الذين صنعوا السفير الأولى، في سنواتها الأولى. ولكنني أكفّ فوراً عن المحاولة، لأن معظمهم موتى، ومن تبقى يتقدمون في السن، والأسف على هذا الجبل العالي… جبل أعمارنا المؤلف من الأنقاض.

وداعاً للسفير…التي صمدت طوال هذه الدهور العربية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى