ردّ على غسان عيّاش حول أرباح المصارف المقدّس يخفي المدنّس! (فواز طرابلسي)

 


فواز طرابلسي

نشرتُ منذ ايام وباسمي الصريح على موقع «الفايسبوك» تصريح حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لتلفزيون «العربية» (17/10/2013) الذي أعلن فيه ان خسائر لبنان جراء وجود اللاجئين السوريين على اراضيه تبلغ 7 مليارات دولار اميركي ويتوقع في الوقت ذاته ان تزيد أرباح المصارف اللبنانية بنسبة 3 او5 في المئة للعام 2013. علّقت على هذا التزامن بين الارباح والخسائر بما يأتي: «تأكدوا من ان لا علاقة بين الامرين: لبنان (يعني الناس مش غابة الارز ) يخسر ومصارفه تربح. ما في شيء غريب. وما في شيء جديد. هذه هي القاعدة. وما تخمّنوا ان حاكم مصرف لبنان ناوي يشغل بالكم. هو قاصد يقول لكم ويطمئنم بأن وضع لبنان المالي بخير ما دامت مصارفه تنمو أرباحها!».
يبدو ان التعليق لم يرق للدكتور غسان عياش. فخصص له افتتاحيته يوم الخمــيس الماضــي في جريدة «السفير» (24/10/2013). للعلم: أنا هو «مثقفون يساريون » المردود عليهم بمزيج من الاستغياب والتبعيض. ولكن، ما خصّ «مثقفون يساريون» عندما يكون المقصود فرداً يسارياً واحداً ليس يدّعي النطق باسمهم ولا باســم احــد أصلا؟ وحتى في حال السترة بالاستغياب، هل من ضرورة تحميل المردود عليه ما لـم يكتبه؟ فيا دكـتور غــسان، لم يرد في تعليقي، مثلا، عــبارة، «مــصّ دمه » (عن الشعب اللبناني ) الموضوعة عندك بين مزدوجين للإيحاء بأنك تستشهد بأقوالي نصاً. ام اذا كان خيارك التبعيض والاستغياب لاستسهال إطلاق التهم من دون ان تتحمّل مسؤولية كلامك فقد أصبت الغرض هنا في اتهامك «تفسيرات التقدميين » بأنها «مدفوعة بالاحكام الايديولوجية المسبقة، والطفولية وعدم النضوج».
لما كنت معنياً بثالوث الاتهامات، أتخلى للدكتور غسان عن النضوج سريعاً. وأستبقي الطفولية – وقد نقلها من الأدبيات السوفياتية بما هي ترجمة رديئة لمفردة infantile التي تفيد الولدنة والصبينة. فالطفولية من اجمل التهم لما فيها من براءة وحيوية الانفتاح على الحياة والامل بالمستقبل. اما «الاحكام الايديولوجية المسبقة» فيحزنني جرّها دائماً الى الحديث كلما دقّ الكوز بالجرّة. إنها تأتي هنا من يساري سابق يظن أن انتقاله من اليسار الى الحزب التقدمي الاشتراكي ومنه الى اعتناق ديانة السوق – و«الأيدي الخفية» التي تحركها (والاستشهاد هنا ليس من الدكتور عياش وإنما من طيّب الذكر آدم سميث) – إنما يعني إرتقاءه في معارج المعرفة الى مصاف العقلولوجيا والعِلمولوجيا. له التوفيق. ولكن لا حاجة لأن يتبرأ من ماضيه باللطم على صدور الغير. فلا يلومنَّ الا نفسه. فما احد أرغمه، على حد علمي، على التزام مذهب «الاحكام الايديولوجية المسبقة » إرغاماً.
كنت أعرف أن الحديث عن القطاع المصرفي فيه مساسٌ بالمقدّس ولكن لم يخطر في بالي ان المقدّس مقدّس الى هذه الحد، لتقام عليه الحدود، وينبري احد كهنة الهيكل لممارسة الوعظ والتأنيب والتحريم والتحليل بهذه القسوة.
يعترف الدكتور غسان أنه توجد بعض الاشكاليات في «الصناعة المصرفية» قد تثير «نقداً مشروعاً» عن «دور المصارف في تحقيق التنمية وتمويل الاقتصاد»، مع أن معظم هذه الاشكاليات لا تتحمّلها «الصناعة المصرفية»، وإنما تعود الى تردّي المالية العامة والحياة السياسية في لبنان (وللدكتور غسان مؤلَف في ازمة المالية العامة يمكن العودة اليه). بعد السماح، يأتي رسم الحدود «لذلك، فإن نقد السلوك المصرفي اللبناني يجب ان يقتصر على فحص فاعلية النظام المالي في تمويل الاقتصاد، وسلامة الادارة المصرفية وأخلاقياتها وكفاءتها، كذلك استقلالية سلطات الرقابة وفعاليتها. وفي هذه المواضيع وسواها، هناك مجال واسع للتعليق والنقاش». وبعد الحدود يأتي التحريم:
«أما ربحية القطاع فهي ليست موضوع مساءلة او اتهام».

إلا ربحية المصارف!

ولكن لماذا الحاجة الى رفع الربحية الى مستوى المقدّس وضرب التحريم عليها لو لم يكن فيها مدنّس؟ والمدنّس المكبوت هو ما لم يذكره الكاتب مرة في افتتاحيته. أعني حقيقة أن القطاع المصرفي هو المرابي الذي ترسمل من فوائد الربا الفاحشة التي فرضها على ديونه، وجنى الأرباح المضاعفة على حساب المكلفين اللبنانيين الذين يتحملون أعباء خدمة ديونه الميليارية سنوياً المدعومة إقليمياً ودولياً.
ولكن، رغم رسم الحدود وضرب التحريم على «ربحية القطاع»، يجد الدكتور غسان لزاماً عليه تقديم مطالعة لا تشــكو من الغرابة دفاعاً عنها. يحتسب ان القطاع المصرفي حقــق أرباحــاً صافــية بلغت سبعة مليارات دولار، خلال السنوات الخمس المنتهية سنة 2012. ويبدو ان هذه الارباح أفادت ضريبة الدخل بمبلغ 1,3مليار موزعة على خمس سنوات (بنــاءً عــلى نســب ضريبيــة هي بين الأخفــض في العالم ). ودفــعت المصــارف 4,5 مليــارات دولار «منافع للمستخدمين ». وإن أنت لم تنتبه جيداً الى التفارق بين الفعلين (الإفـادة والدفــع) قد يخــتلط عــليك الامر فتضيف الرقمين واحدهـما للآخر، فتصل الى 5,8 مليارات فتكتشف كم هي زهيدة تلك الارباح. إعلم ان «منافع المستخدمين» هي التسمية التي يطلقها أستاذ مادة الاقتصاد الجامــعي على أجور موظفي القطاع ورواتبهم. فساعات العمل الذي بذلها 23 ألف عامل وموظف وكادر ومدير في القطاع المصرفي، على مدى خمس سنوات، والتي أسهمت، أسهمت مع سواها، في جني الأرباح التي ضــرب الدكتور عيّاش الحرم على البحث فيها، هذه كلها لا يتلقى «المستخدمون» لقاء عملهم أجور حق وجهد وعرق، وإنما تردهم «منافع» أنفعهم بها اصحاب المصارف!
وفي باب منافع المصارف للاقتصاد عموماً، يذكر الدكتور عياش قيمة التسليفات للقطاع الخاص لكنه يحرمنا من معرفة نسبتها الى المجموع، وهي لا تتعدى الثلث (الثلثان الباقيان لمديونية الدولة والإيداع الخــارجــي). وهــو يوفّر علــينا الخــوض فــي تركــيب هذا الثلث وما اذا نمت نسبة التسليــفات فيــه للقطاعات الإنتاجية (وهل وصلت حصة القــطاع الزراعي مثــلا الى 1 في المئــة؟) إم إن نموّها قــد تــم باتجاه توسعة التسليفات العقارية وزيادة التسهيلات على القروض الفردية والعائلية الاستهلاكية – من تمويل استجلاب الخادمات الى الجراحات التجميلية – تنفيساً لأزمة فائض الودائع وفائض السيولة لدى القطاع؟
ولا بد لنص بمثل هذه الجبرية ان ينتهي بإنذارات كونية خلاصية فيذكّرنا بأن «مصلحة المجتمع، بكل طبقاته، وجود نظام مصرفي قوي وحديث ونظيف ومربح، مقبول من النظام العالمي وملتزم بمعاييره، حتى لو كان هذا الأخير يخضع لمصالح القوى المتحكمة بالعالم. فإن الخروج عليه هو خروج من العالم وانحدار نحو التخلف والعزلة، وقوة الرسملة هي من أهم شروط اعتراف النظام المصرفي العالمي بالنظام الوطني».
في السابق، كــان التــهديد: أنــت مــع الكيــان وإلا فأنــت تريــد تقــويضه. الصيغة في عصر العولمة: أنت في هذا العالم أو خارج منه. فأنـت لا تستطيع ان تبقى في العالم وتسائل العولمة. هذا خروج على العالم. وعليك ان ترتــضي حــكم القــوى المتحــكمة بالعــالم، وإلا انحدرت نحو التخــلف والعــزلة. ثم انك لا تستطيع ان تبحث في نمط الرســملة في بلدك، فتسيء الى سمعة البلـد التي هي سمعة نظــامه المصرفي.
بعد كل هذه الشطحات الكونية، لنبقَ في افتتاحية «السفير».
القطاع المصرفي مربح. أكيد. وهو قطاع حديث من دون شك. وقطاع قوي، خصوصاً على المديونين: الدولة والناس. ولما كان كل القطاع مربحاً وقوياً وحديثاً، ما الحاجة لتدريعه بكل هذه الدروع؟ أما انه قطاع «نظيف» فمسألة فيها نظر. هو قطاع يجري تنظيفه دورياً وبجهود وأكلاف جبارة. ثم ان الحريص على نظافة القطاع المصرفي وشفافيته ما عليه إلا المطالبة بإلغاء قانون سرّية المصارف، الموضوع خصيصاً للسماح بإيواء الاموال غير النظيفة، وغسلها. والغسل غير التنظيف.
لنعد الى البداية.
هذه دعوة علنية الى حاكم مصرف لبنان، الاستاذ رياض سلامة، ان يقدّم للشعبين اللبناني والسوري تفاصيل موازنة الأرباح والخسائر جرّاء اللجوء السوري الى لبنان خلال الســنوات الثــلاث الاخــيرة. أعني أن يتوافر للجميع معرفة قيمة الودائع السورية في المصارف اللبنانية وحجم المبالغ التي أنفقها اللاجئون السوريون على الاراضي اللبنانية، من الإيجارات الى السلع الاستهلاكية مروراً بالحاجيات المعاشية. إن مثل هذا البيان لن يكتفي بتقديم ارقام شفافة للدول والهيئات المانحة، لكنه سوف يحول دون تداول أرقام مصفّرة، في غياب بياناتها، تسهم في تسعير الحملة العنصرية الكريهة ضد الضيوف السوريين في لبنان، بدلا من كشـف الحقــيقة عن اكــلاف الضيــافة في بلد «يا هــلا بالضــيف ضــيف الـله». والمؤكد ان التفصيل رقم السبعة مليارات يعني الإقلاع ولو مرة عن إدمان الطبقة الحاكمة، بسياسييها ورجال اعمالها، ومعها قسم لا بأس به من اللبنانيين، على عادتها الذميمة في تحميل العجز والإفلاس والفساد لـ«الآخرين» بعد ان حمّلوهم الجرائم والحروب.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى