رسائل كافكا إلى ميلينا: الكتابة عقاراً ضد الهشاشة

بغرائبية كافكا (1883 ــــ 1924) وطريقته المعتادة، تبدو رسائله إلى ميلينا دخولاً في سردابٍ طويل معتم، لشدّة ما يغلب على الرسائل من سوداوية مفرطة لا تغيب معها الخيوط الأولى لرغبةٍ ما خفيَّة في الانتحار وإنهاء المهزلة. هذا ما يبدو جليَّاً للقارئ. مهزلة الحياة وهشاشة كافكا ذاته الذي يغرق في الكتابة كعِقارٍ مضادٍ لتلك الهشاشة. وعلى الطرف الآخر، يلاحظ القارئ تلك الرتابة في حياة كافكا لولا هذه الرسائل.

في «رسائل إلى ميلينا» (1952) الصادر بترجمته العربية عن «دار الأهليَّة» (2017 ــ ترجمة هبة حمدان ومراجعة وتدقيق محمد حنّون) يبدو كافكا مرحاً في بعض الأحيان، كما يظهر البؤس على الوتيرة عينها بطريقةٍ يمكن وصفها بالـ «عجيبة». ذاك التواتر في المزاج، التواترُ الكفيل بخلق نوعٍ من الاستفزاز لدى القارئ. عموماً، فجميع أعمال كافكا تخلق ذاك الاستفزاز اللذيذ الذي يجعلك متأهّباً لأمور غريبة قادمة ستحصل في الصفحات المقبلة. عالم مركّب، معقّد، مكّون من أمزجة متعددة داخل المزاج الواحد، وتأتي الرسائل إلى المحبوبة لتكمل الصورةَ القاتمة لأكثر الكتّاب إثارةً للنقاش والتفسير.

ميلينا، هي الحلم ليس فقط بالنسبة لكافكا، كاتب اليوميات، بل هي كذلك لكل الكتّاب «الكبار» إن جاز التعبير. تلك الصراعات التي يمرّ فيها كافكا ويدوّنها على شكل رسائل، تغدو نصوصاً مقدّسة مكتوبة بتعب لحظات الانتظار التي تحيل التأمّل إلى فعلٍ إدمانيّ يدأبُ عليه كاتبُ الرسائل كي يحافظ على مزاجه السيئ مهما كان الثمن! نصادف كافكا تماماً كما عرفناه في أعماله الخالدة. نشاهد الانقلاب المزاجي بين رسالة وأخرى، مما يترك القارئ نفسه حائراً أمامها.

تبدأ الرسائل بالتحديد في نيسان (أبريل) 1920. الرسالة الأولى من ميلينا المتعبة من زواجها في فيينا، حيث لا ارتباط بينها وبين كافكا إلا روحيَّاً. التواصل الروحي الذي يعطي البعد الأوسع لمعنى كتابة تلك الرسائل، حيث يخيَّل للقارئ أن الكتابة ستكون نوعاً من الخلاص المرتجى. يمكن اعتبار الرسائل نوعاً من التدوين الذاتي، بحيث أنّ السيرة الذاتيَّة يمكن أن تأخذ القارئ في رحلةٍ عميقة نحو حياة كافكا الداخليَّة، مخاوفه، وهذا ما يتجلّى في الرسائل بمجملها، التي تأخذ منحىً عاطفيَّاً، فكرياً، ووجدانيَّاً.

«كان أوّل من نشر كتاب رسائل إلى ميلينا هو ويلي هاس صديق مشترك بين ميلينا وكافكا، ائتمنته ميلينا على الرسائل قبل الحرب الألمانيَّة، فقام هاس بنشرها عام 1952». حياة ميلينا لا تقل صعوبة ومعاناة عن حياة كافكا: الإدمان، العلاقات، التهرّب والكسل. لكن إلى جانب كل ذلك، ثمة كتابة كانت ميلينا تحرص على المضي قدماً فيها، بالإضافة إلى العمل على كتب كافكا، إلى أن أصيبت على إثر حملها من زواجها الثاني بمضاعفات تسببّت في شلل جزئي في رجلها اليسرى. ولم تتعافَ منه إطلاقاً، ما أدّى إلى إدمانها على المورفين الذي أوقفها عن الكتابة، ناهيك بتسبب الإدمان بإنهاء علاقتها الزوجية الثانية.

يبقى الطرف الآخر الخفي، رسائل ميلينا التي أُتلفت. ربما كان ليتسنّى لنا التعرّف أكثر على الحب وفلسفته العميقة، العلاقة الروحيَّة، ولن نخوض هنا في التصنيف، فما كتبه كافكا عبر هذه الرسائل هو شحنات قد نسمع صوت تنفّس المدوّن أثناء تدوينها. بتلك الطريقة الساحرة، يمضي كافكا في شرح يومياته لميلينا والاسترسال في الأسئلة والاطمئنان. كما أن القارئ سيلاحظ أن الرسائل كُتبت ليس بغرض النشر، وإنّما بغرض البوح، لما فيها من خصوصيات تدخّل فيها ويلي هاس لاحقاً حذفاً لبعض الفقرات التي توقّع أنّها قد تؤذي بعض الناس الذين كانوا على قيد الحياة آنذاك.

«في هذه اللحظة أنا مشتّت وحزين، أضعت برقيتك، كيف حدث ذلك لا يمكنها أن تضيع! إن ذلك سيئ، إنني أبحث عنها، إنه خطؤك أنت، لو لم تكوني بمثل ذلك الجمال، لما اضطررت أن أحملها طوال الوقت معي»، هذا مجتزأ من رسالة بعثها كافكا في 31 تموز (يوليو) 1920 إلى ميلينا فور سماعه بنبأ مرضها، وفيها يتحدّث كافكا عن المرض، مسهباً بعد المقدمة المجتزأة آنفة الذكر: «والآن ماذا قال عن الالتهاب على رئتيك، لا أتوقّع أنه نصحك بالصيام أو حمل الأمتعة، وهل نصحك بأن عليك أن تتحسّني لأجلي، أم إنه لم يذكرني إطلاقاً؟». كمّ الأسئلة في الرسائل المدوّنة عظيم. لا تكاد تخلو رسالة من سؤال. صحيح أنّه أمر بديهي في أي رسالة، لكن مع كافكا تغدو المسألة أعمق. فأسئلة كافكا تدور حول أشياء يعتقد القارئ لأعماله الأخرى أنه مُقدمٌ على كتابة الأجوبة على تلك الرسائل في شكل نصٍّ سردي. هذا ما يجعل التأمّل في لحظات كتابة كافكا لتلك الرسائل وحالته النفسانيَّة أمراً ملغزاً ودونما فائدة من دون استعمال التخيّل واستحضار جمال ميلينا! الأخيرة التي التقاها للمرة الأولى في فيينا، لتصبح فيما بعد المتنفس والحلم الأكبر لكافكا أو ربما مخزناً يحافظ على أسراره وحبّه اللا منتهي.

المزاج المتقلّب لكافكا بين الرسالة والأخرى هو السمة الأكبر المضافة إلى الرسائل، هذا ليس غريباً على رائد السوداوية والكابوسيَّة في الكتابة. الكوابيس واضحة في الرسائل وضوحاً شديداً. الهذيانات الواردة تفصح عن الحالة «الكافكاويَّة» المعتادة: «دائماً تريدين معرفة إن كنت أحبّك ميلينا، ولكنّه سؤال صعب الجواب. لا يمكن الإجابة عنه في رسالة، ليس حتّى في رسالة الأحد الماضي. أضمن أنني سأقول لك الجواب حين نتقابل المرة القادمة، إن لم تخُني عباراتي، لكن لا يجب أن تراسليني عن قدومي إلى فيينا، فلن أتمكّن من ذلك، فكلما ذكرت ذلك، أشعر كأنك تشعلين ناراً في جلدي، والتي هي أصلاً محرقة، ودائماً تحرق وتحرق لكنها لا تُحرق، بالحقيقة أشعر كأن الشعلات تزداد، وأنا واثق من أنك لا تريدين ذلك».

أن تكون الكتابة، الكتابة وحدها، مركز التفكير لدى الإنسان، هذا ما حاوله كافكا أثناء كتابة تلك الرسائل. المركزية الشعوريَّة هي الكتابة، أو ربمّا نسيان كلّ أمر حياتي والخوض في غمار التدوين لأجل خلاصٍ ما.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى