روسـيـا و«الـشـرق الأوسـط»: الـبـحـث عـن أصـدقـاء (اله كولائي)

اله كولائي

كان الشرق الأوسط واحدة من المناطق الهامة بالنسبة للاتحاد السوفياتي في حقبة الحرب الباردة، ولكن هذه المنطقة فقدت، بعد انهياره ولفترة قصيرة، موقعها الحاسم في اعتبارات صانع السياسة الروسية. وقتذاك كانت علاقات روسيا مع الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا هي الأولوية الأولى لصناع القرار في الكرملين، بعد أن تجاهل القادة الروس الجدد قدرة «الشرق الأوسط» على تفعيل مصالح روسيا الوطنية، ولا سيما في ما يتعلق بنسبة سكانها المسلمين الضخمة (تقدر بحوالي عشرين مليون نسمة). وتأسس ذلك على الاعتقاد بأن النهج الأورو-أطلسي، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وشركاؤهم، يمكنه أن يكون السبيل لتلبية احتياجات روسيا الرئيسية. وفقاً لذلك، كانت البلدان الآسيوية وبلدان «الشرق الأوسط» تحظى – في السنوات الأولى من هذا التطور -، بأهمية جزئية في السياسة الخارجية الروسية. في هذه الفترة، توسعت العلاقات بين روسيا واسرائيل باستمرار، على العكس من العلاقة بين الاتحاد السوفياتي مع إسرائيل والتي شُكلت في سياق الحرب الباردة، وبمقتضاها نظر الروس إلى إسرائيل باعتبارها نافذة على الغرب، للوصول إلى احتياجاتهم التكنولوجية. في فترة الاتحاد السوفياتي، كان حجم هجرة اليهود من المعايير الهامة لتحليل حالة حقوق الإنسان في روسيا، وهو الأمر الذي ظل مستمراً حتى تفكك الاتحاد السوفياتي، ممهداً الطريق لهجرة كبيرة من اليهود إلى إسرائيل من خمس عشرة جمهورية سوفياتية سابقة، خصوصاً من روسيا. وتبعاً لذلك فقد زادت نسبة السوفيات السابقين من اليهود في إسرائيل، بشكل سريع. وكان لهذا التغيير في تركيبة سكان إسرائيل اليهود آثار عميقة على العلاقة بين البلدين سياسياً واقتصادياً. ويشكل وجود اليهود الروس في إسرائيل عاملاً مساعداً على توسيع العلاقات بينهما في العديد من المجالات، بما في ذلك علاقات روسيا وإيران.
كان التصور الأولي في الكرملين يقوم على فرضية، أن روسيا، بعد انهيار النظام الشيوعي، لا تتواجه مع أي عدو، وانعكس ذلك على العقيدة العسكرية الأولية لروسيا. لكن بعد وقت قصير من هذا التطور رأت روسيا سلوكاً متناقضاً على الناحية الأخرى؛ فواشنطن وحلفاؤها، لم يحاولوا الحفاظ على منظمة حلف «الناتو» فقط، بل حاولوا توسيعها شرقاً. وأدى تفاقم الصراع في البلقان، والروابط التاريخية بين الروس والصرب في البوسنة والهرسك، إلى تفاقم الوضع. وأدركت روسيا أن الولايات المتحدة الأميركية لا تقبل بالمصالح الحقيقية لروسيا. كان «الجوار القريب» واحداً من المجالات البارزة في التناقض بين الدولتين، إذ تصادم الموقف الروسي من الجمهوريات السابقة للاتحاد السوفياتي واعتبارها منطقة مهمة لمصالحها الوطنية، بينما اتبع صناع السياسة الأميركية مذهباً جديداً من «الاحتواء». في هذا السياق ينبغي على روسيا – من المنظور الغربي – ألا تحاول استعادة قوتها ونفوذها في الجمهوريات السابقة للنظام السوفياتي؛ على الرغم من أن روسيا تعتبر مصلحتها الحيوية في هذه الجمهوريات، وخاصة في آسيا الوسطى والقوقاز.
توسعت علاقات روسيا منذ العام 1995 مع العديد من دول المنطقة، وكانت واحدة من أهم الدول في هذا الصدد جمهورية إيران الإسلامية. وتم توسيع العلاقات بين البلدين سياسياً لسنوات عديدة. وخلال فترة الرئيسين هاشمي رفسنجاني والرئيس خاتمي، اختبرت كل من موسكو وطهران فترة من استمرار العلاقات، ولكن التعاون اعتمد بشكل أساسي على الجوانب السياسية والعسكرية. ومثل العديد من البلدان الأخرى في الشرق الأوسط، باعت موسكو أنواعاً مختلفة من الأنظمة العسكرية إلى طهران، بعد أن واجهت الولايات المتحدة الأميركية بشكل دائم الثورة الإسلامية، بأنواع مختلفة من المؤامرات.
كانت فرصة جيدة لطهران لاستخدام هذا التعاون لتعميق الهوة بين روسيا وأميركا، وشعر الجانبان الروسي والإيراني أن سياسات الولايات المتحدة الأحادية، تستهدف مصالحهما بشكل واضح، لذلك سعى البلدان باستمرار إلى تطوير علاقاتهما. وبالنسبة لروسيا، كان من المهم الحفاظ على سريان «معاهدة حظر الانتشار النووي»، والاستمرار في الوقت نفسه في إجراءات بناء الثقة مع أميركا بخصوص مشروع إيران النووي. ويرى بعض صانعي السياسة الروسية في إيران شريكاً مزعجاً، ولكن روسيا بحاجة إلى هذا الشريك. هناك أدلة كثيرة بصدد هذه النظرة السلبية عن ايران في موسكو، ولكن فوائد العلاقة بينهما تؤدي إلى التوسع المستمر فيها. وتعد سياسات موسكو حول النظام القانوني لبحر قزوين، ورفضها بيع صواريخ إس-300 للدفاع الجوي جديرة بالملاحظة في هذا السياق. أظهرت إيران من قبل شكوكها إزاء السياسة الروسية في رفض خطة لافروف المسماة، «خطوة خطوة»، لإزالة العقوبات في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. على أساس أن هذه الخطة يجب أن يتزامن معها رفع جميع العقوبات الدولية مع التراجع في برامج تخصيب اليورانيوم في إيران «خطوة خطوة». ويعتقد كثير من المراقبين أن روسيا قد تتعاون مع الولايات المتحدة الأميركية بشأن إيران وبرنامجها النووي بطريقة أكثر فعالية. وبالنسبة للجانب الإيراني، فقد لبّت له موسكو العديد من احتياجاته الأساسية، وحاولت في الوقت نفسه مجابهة الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها للحد من نفوذ الأخيرة في المنطقة. ولكن بسبب تجارب تاريخية كثيرة ظل هناك تشاؤم عميق بين الإيرانيين حول نوايا الدول الغربية في بلدهم، كما أن روسيا تجد نفسها في وضع أفضل، بسبب طبيعة الثورة الاسلامية في ايران وطبيعتها المعادية للغرب، على الرغم من أن الإيرانيين لديهم تجارب سلبية كثيرة مع روسيا أيضاً. يعتبر التعاون في محطة بوشهر للطاقة النووية واحداً من أهم مجالات التعاون بين إيران وروسيا؛ إذ نشأت هذه الصفقة بعد رفض الدول الغربية مساعدة إيران على إتمام العمل بالمحطة بعد قيام الثورة الإسلامية.
بدأ مشروع بوشهر بمساعدة من هذه البلدان الغربية، ولكنهم لم يتموا واجبهم للانتهاء منه بعد انتصار الثورة، وبالتالي أصبحت الطريقة الإيجابية لروسيا في هذا الصدد ثمينة بالنسبة لإيران، وذلك في الوقت الذي فرضت فيه عزلة على إيران من الولايات المتحدة وحلفائها. واعتبر البلدان أن هناك مساحة من المصالح المتبادلة بينهما، ولكن من الواضح أيضاً وجود مصالح متناقضة في مختلف المجالات.
كانت قدرة الإرث التاريخي والثقافي لإيران في آسيا الوسطى، ونفوذ كل من إيران وروسيا في القوقاز شمالاً وجنوباً، من المشاكل الإقليمية الروسية. من ناحيتها تجعل الحركات الانفصالية في هذه المنطقة ذات الطابع الإسلامي، من دور وسياسة ايران شيئاً بالغ الأهمية للقادة الروس. اتبعت إيران سياسة معتدلة وعملية أيضاً في هذا الصدد، وهو ما لقي ترحيباً من السياسة الروسية وأهدافها. ومن الجدير بالملاحظة أن ذلك لم يقتصر فقط على هذه المنطقة، وإنما امتد إلى جميع مناطق العالم الإسلامي، فكان هذا التعاون مثمراً لكلا الجانبين. وساعد تدهور العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية على جعل العلاقات بين روسيا وإيران أكثر فائدة وقيمة، وهو ما جعل إيران تخضع للمساومة بشكل مستمر بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا. وعندما وقعت الدولتان معاهدة الانتهاء من محطة بوشهر للطاقة في العام 1995، كان لهذا أبعاد اقتصادية في الأساس. كان للمشروع فوائد مختلفة لروسيا، ولكن بعد الكثير من الوقت، وكسر الوعود منذ بداية عمل هذه المحطة، أدرك العديد من المراقبين في جميع أنحاء العالم أن روسيا لا تريد أن تقف ضد الولايات المتحدة الأميركية وتصطف مع إيران. وسادت حالة من الدهشة لدى بعض صانعي السياسة الإيرانية، عندما صوت الروس مرات عدة لمصلحة فرض عقوبات على إيران في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وهو ما ترك انطباعاً لديهم بأن روسيا تتركهم وحدهم في المواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها. ولكن صانعي السياسة الواقعيين في إيران توقعوا أن في هذا المشروع، ستختار روسيا مصالحها فقط، مثلها مثل البلدان الأخرى. لكن في الفترة الثانية من رئاسة فلاديمير بوتين، وخصوصاً خلال مؤتمر الأمن في ميونيخ في العام 2007، كشف الرئيس الروسي أن روسيا غير راضية عن سياسة الولايات المتحدة الأميركية إزاء أهداف روسيا على الصعيد العالمي. ولكن بعد تولي ديمتري ميدفيديف السلطة في روسيا، بدا وكأن قادة روسيا والولايات المتحدة يرغبان في توسيع التعاون بينهما في مختلف المجالات، خصوصاً في مجال مكافحة الإرهاب.
حاول بوتين نسج علاقات مع حركة «حماس»؛ المدرجة على قوائم الجماعات الإرهابية في الولايات المتحدة الأميركية. وأظهرت هذه السياسة أنه يريد استعادة دور روسيا في الصراع العربي – الإسرائيلي، وهو ما جعل سياسته تشبه في بعض جوانبها سياسة الاتحاد السوفياتي. ولكن هناك تصورات مختلفة ومتناقضة أحياناً حول العالم بين سياسة روسيا بوتين وسياسة الاتحاد السوفياتي السابق، خصوصاً فيما يخص السكان المسلمين في الاتحاد الروسي. من الواضح أن روسيا مهتمة بالسلام والاستقرار في المناطق الإسلامية، وهو ما يمكن أن يكون له تأثير مباشر على شعبها المسلم. كان بوتين، منذ فترة رئاسته السابقة، من المهتمين بإحياء الدولة الروسية القوية. واستندت سياسته الخارجية بالأساس على هذا المفهوم. وحسب رأيه يمكن لروسيا، أن تلعب دوراً مهماً في السياسة الإقليمية والدولية. ويعد الموقف الروسي تجاه بما يُسمى «الربيع العربي» وموجات الديموقراطية في هذه المنطقة، أحد أهم جوانب السياسة الروسية في الشرق الأوسط. حيث أنه من الملاحظ في هذا السياق أنه بعد الهجمات الإرهابية في سبتمبر/أيلول 2001، كان الردّ على السؤال حول أسباب رد الفعل السلبي ضد الولايات المتحدة الأميركية من المسلمين عائداً إلى الخطط المتعلقة بمشروع «الشرق الأوسط الكبير»، الذي شدد على ضرورة دمقرطة هذه المنطقة. ولذلك تم إنجاز العديد من المشاريع للعثور على مصادر كراهية الولايات المتحدة في البلدان الإسلامية، بما في ذلك البلدان العربية. وكشفت «الثورات الملونة» في بعض الجمهوريات السابقة للاتحاد السوفياتي، في نظر البعض عن جوانب تشابه واستمرار تظهر في الانتفاضات العربية. لذلك بعد الانتشار السريع للحركات الاجتماعية والسياسية في منطقة الشرق الأوسط، فقدت روسيا حليفتها التقليدية في المنطقة، وهي ليبيا. وكشف انهيار نظام مبارك في مصر أن خطط الولايات المتحدة لتغيير العوامل الجيو – سياسية «للشرق الأوسط» يتم العمل عليها باستمرار. وقوبلت العمليات العسكرية القوية من قبل منظمة حلف شمال الأطلسي في ليبيا بشيء من الارتياح من الجانب الروسي. لكن هذا الموقف تغير بسرعة، عندما شعروا أن النصر الحقيقي في هذه المسرحية هو للولايات المتحدة الأميركية. يظن البعض أن مقاومة روسيا للحفاظ على نظام الأسد في سوريا هي آخر فرصة لهم في هذه المنطقة. بعض التحليل يعتمد على أهمية الموانئ السورية على البحر الأبيض المتوسط لروسيا، حيث كان الاتحاد السوفياتي – لعقود من الزمن -، أكبر مورد لسوريا من المعدات العسكرية. وتملك روسيا حالياً حوالي أربعة مليارات دولار من العقود لتسليم الأسلحة في المستقبل لسوريا. وفي ظل هذه الظروف، لا يتوقع أن تكون موسكو على استعداد للتخلي عن الزبون السوري، وبخاصة الآن حيث إنها فقدت مبيعات الأسلحة لإيران بعد إقرار عقوبات الأمم المتحدة.
تعد تجربة الشعب المسلم السوري حالة حرجة للحكومة الروسية، التي لم تنجح في حل المشاكل في الشيشان. بوضوح، لا تريد روسيا خلق نموذج لتحرير هؤلاء المسلمين. والآن سياسة فلاديمير بوتين في الشرق الأوسط هي ضد أولويات الولايات المتحدة الأميركية، خصوصاً في سوريا وايران. لكن بوتين يحاول خلق روابط بين مناطق التعاون والصراع، لعلمه أن روسيا وأميركا لديهما العديد من المصالح المشتركة في هذه المنطقة الاستراتيجية أيضاً. ولكن الأهداف المتناقضة في سياستها الخارجية جعلت الأمر معقداً للغاية. ومثل حالهما في حقبة الحرب الباردة، تبدو كلٌ من روسيا وأميركا في محاولة دائمة لتعزيز معسكريهما. وفي حالة سوريا، استخدمت موسكو حق النقض ضد أي نوع من العمليات العسكرية، كما يحاول بوتين الحفاظ على التوازن بين نظام الأسد والمعارضة. تشعر روسيا بالقلق نتيجة لصعود الجماعات الجهادية في لبنان وسوريا، نتيجة الفراغ الأمني المتزايد في سوريا، لأن هذه التطورات يمكنها أن تؤثر تأثيراً مباشراً على السكان المسلمين في روسيا. وفي حالة إيران، تحاول موسكو منع نشوب حرب جديدة في الخليج، لأن تصاعد هذه الأزمة يعتبر ضد مصالح روسيا، ولذلك فقد بذلت روسيا قصارى جهدها للحيلولة دون استخدام القوة، ويشي سيناريو خطواتها القادمة بأنها ستستمر في بذل هذه الجهود.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى