روسيا ـ بوتين: الإمساك بأوراسيا من المشرق

كيف يمكن تعريف دور روسيا في الشرق الاوسط في حقبة ما بعد التدخل السوري؟ بمعنى آخر ما هي حدود طموحات القيادة الروسية في المنطقة، ولماذا؟ لا شك بأن السؤال سجالي وحيوي في دوائر صنع القرار والأكاديميا والتحليل، وتسمح الإجابة عنه بتقدير حدود الدور الروسي المتوقع داخل المنطقة والمشرق العربي خصوصاً. تحاجج هذه المقالة أن روسيا تطمح إلى حيازة موقع «ناظم وضامن الاستقرار الإقليمي في غرب آسيا»، أي أن روسيا لا تسعى للاصطفاف الصلب ضمن أي من المحاور المتنافسة، ولا تحدي الولايات المتحدة بشكل مفتوح، ولا محاولة الحسم العسكري. بإيجاز تسعى موسكو لنيل كرسي الشراكة في النظام الدولي مع الغرب من خلال البوابة الأوراسية التي تمثل «الجائزة الجيوبولتيكية الرئيسية» لأميركا وفقاً لبريجينسكي.

يبدو بوتين، بعكس ما يحاول الإيحاء به، قائداً شديد الواقعية ومتواضعاً في تقدير قوته كما يظهر بوضوح من خطواته السورية. السياسة الخارجية الروسية من أوكرانيا الى سوريا، قائمة على الحد من الخسائر وتثبيت خطوط تماس والتفاوض في نهاية المطاف. استعراضات القوة العسكرية المبهرة لا تخدع صانعيها، صورة القوة الحديثة المتوثبة والطامحة تبقى صورة بالنسبة لصانعها، لكن يراد لها أن تربك وترهب منافسي موسكو وأعداءها. تدرك موسكو فجوة القوة الهائلة مع واشنطن، ومواضع الوهن البنيوي الجوهرية في الداخل الروسي، وكذلك خطورة وتعقيدات البيئة الإقليمية في الشرق الاوسط. كما أن المعركة السورية ساهمت في ضخ مزيد من النضج والحذر في العقل الروسي، كما عقول جميع المنخرطين في هذه الحرب. العقل الروسي بالأصل مؤهل بفعل التجربة والخبرة والممارسة والمؤسساتية ليعلب أدواراً باردة.

بناءً على ما تقدم، تتجسد المصلحة القومية المركزية لروسيا في المنطقة والعالم في الانتقال لمقعد الشراكة في إدارة النظام الدولي وأن يُعترف لها بهذا الدور، أي التخفيف من أحاديته قدر المستطاع وليس تحطيمه كما يتصور البعض أو كما يروّج بعض اليمين الأميركي لتبرير سياسات عدائية ضد موسكو. تتيح هذه الشراكة لروسيا ممارسة قيود على الدور الأميركي ونفوذ داخل مؤسسات هذا النظام المالية والسياسية وتثبيت ذاتها كقوة دولية لا إقليمية فقط كما تطمح واشنطن، وخلق نطاقات إضافية لمصالح مشتركة مع القوى الصاعدة في النظام الدولي. إلا أن المدخل المفترض للحصول على مقعد الشراكة هو محط انقسام في موسكو، بين من يبغونها من بوابة الاندماج بالغرب واللبرلة وبين التيار الأوراسي الذي يميل اليه بوتين ويعبّر عنه تنظيرياً ألكسندر دوغين.

في ظل تفوق التيار الأوراسي، تكون موسكو بحاجة لتحقيق توازن داخل أوراسيا بوجه ثلاث كتل أساسية، الاتحاد الأوروبي، حلفاء واشنطن في شرق وجنوب آسيا، والصين، وهو توازن يمكن أن يتحقق بتحالف استراتيجي مع أي من هذه الكتل الثلاث، وهذا ما يبدو متعذراً مع الركيزتين الأميركيتين (الاتحاد الأوروبي ـ جنوب شرق آسيا)، فيما التحالف مع الصين ليس مضموناً ولا ندياً. إن تطوير روسيا لموقعها الأوراسي يفرض عليها تطوير وضعيتها أمام هذه الكتل الثلاث إما لاحتوائها أو لبناء علاقات أكثر ندية وإما لردعها. من هذا المنطلق تحتاج روسيا الى التموضع في الشرق الأوسط أي غرب آسيا، لكن تموضع وفق أي هدف؟

في ظل عجز روسيا عن الهيمنة على هذه المنطقة أو التورط في حروب طويلة الأمد، يبدو أن بوتين يسعى في السنوات الأخيرة إلى: أولاً٬ تقاسم إدارة الفوضى والفراغ في المنطقة أثناء المرحلة الانتقالية في الإقليم، وثانياً، ضمان الاستقرار والتوازن في مرحلة ما بعد ولادة النظام الإقليمي الجديد. هذه الأدوار الروسية تتطور على حساب الولايات المتحدة فيما التنافس بين الدولتين في الإقليم يتناول حجم الحصص حالياً. مثلاً يظهر أن الأميركي حاز حصة إدارة التوازنات في شمال شرق سوريا، بينما الروسي يدير توازنات «سوريا المفيدة». كما أن الروسي أصبح شريكاً أساسياً، الى جانب واشنطن، في بناء مسار لإدارة التوازن بين الرياض وطهران.

أي أن موسكو تسعى لتكريس وجودها في المنطقة باعتبارها «ناظمة للاستقرار والتوازن الإقليمي»، ولذا فإن أي خطوة روسية عسكرية انما لا تهدف لتكريس انتصارات حاسمة، بل كإجراء تأديبي أو زجري لإجبار الآخر على التسليم لموسكو «بحقها وقدرتها» على أداء هذا الدور الإقليمي. ما تقدم لا ينفي حقيقة أن موسكو أقرب الى «محور المقاومة» ولكن من دون أن تكون جزءاً منه، إنما هو تموضع الى جانب القوة التي أثبتت نديتها بوجه واشنطن والتي أنقذت موسكو من تنازلات «جنيف واحد». تطمح موسكو لموقع «ما فوق المحاور» عبر التشبيك، بنسب مختلفة، مع القوى الإقليمية جميعها من دون استثناء، أي مع تركيا وإيران ومصر والسعودية والكيان الصهيوني، مع ما يستلزمه ذلك من عمليات تفاوض ومساومة دائمة.

إن نجاح موسكو في تكريس هذا الدور في غرب آسيا يمنحها ميزة تفاوضية كبرى مع الكتل الأوراسية جميعها، اذ يمكنها من خلال الإمساك بورقة الاستقرار والتوازن الاقليمي ردع الأوروبيين في شرق ووسط أوروبا وجذب الصينيين لعلاقات متوازنة وفرض الشراكة الكاملة على واشنطن في «دورها التحكيمي»، وهو الدور الذي اعتبر بريجينكسي، منذ التسعينيات، أنه ينبغي على واشنطن أن تتأكد دوماً من عدم قدرة أي قوة على التقليل منه داخل أوراسيا. التنازل الأميركي لروسيا عن حصة في مجال «الدور التحكيمي» فرضته تحولات ما بعد العام 2000 في المنطقة بفضل محور المقاومة. في المقابل، يأمل الأميركي (الاتجاه الأوبامي) من الدور الروسي أن يشاركه بعض الأعباء ويكبح صعود «محور المقاومة» ويضبط توازناً إقليمياً بحد أدنى من التنازلات، وهو ما يتيح للأميركي المزيد من التركيز على التحدي الصيني، وهذا بدوره قد يجعل موسكو في وضعية أفضل للاستثمار مستقبلاً في التنافس الأميركي ـ الصيني المتصاعد، فتقف على فالقه لجني الأرباح بالاتجاهين.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى