روسيا وتركيا.. هل نفد صبر بوتين؟

 

تستمر الحملات والمضايقات الأميركية التي تستهدف روسيا عبر روسيا البيضاء وقرغيزيا والحرب في ناغورنو كاراباخ، ما ينعكس بشكل سلبي على الأمن الداخلي لموسكو وعلى اقتصادها الوطني. في هذا السياق وجد فلاديمير بوتين نفسه مضطراً إلى أن يكون أكثر حزماً وحسماً في حواره مع “صديقه وحليفه” رجب طيب إردوغان، وهو ما كان واضحاً في مضمون الاتصال الهاتفي بينهما مساء الثلاثاء الماضي، إذ عبّر بوتين “عن قلقه البالغ من استمرار الانخراط المتزايد للإرهابيين من الشرق الأوسط في الحرب في ناغورنو كاراباخ”، وفق بيان الكرملين.

والشّرق الأوسط هنا تسمية شاملة قد يكون بوتين قصدها من دون أن يتحدث بالتحديد عن سوريا، وذلك بعد المعلومات الَّتي بدأت تتحدَّث عن نقل المرتزقة السوريين وغير السوريين من ليبيا وأماكن أخرى إلى أذربيجان، وهو ما عبَّرت طهران أيضاً عن قلقها منه، مع أحاديث بعض الأوساط القومية التركية عن ضرورة تحريض الآذريين في إيران، بحجة أنهم من أصل تركي.

وتكتسب تحذيرات بوتين ذات العلاقة بتطورات سوريا أهمية إضافية، نظراً إلى توقيتها الزمني الذي جاء بعد سلسلة من المواقف التركية التي أزعجت موسكو مؤخراً، فقد تحدثت المعلومات عن ضغوط من الرئيس إردوغان على فايز السراج والفصائل المسلّحة التي تدعمه، لرفض المبادرات الأميركية – الألمانية في ما يتعلَّق بوقف الاقتتال والمصالحة النهائية التي ستعني إخراج القوات والخبراء الأتراك والمرتزقة السوريين الموالين لأنقرة من ليبيا.

كما تحدثت هذه المعلومات عن ضغوط تركية على الرئيس الأذربيجاني إلهام عالييف، حتى لا يقبل بأيّ هدنة بوساطة روسية أو أميركية أو إيرانية، إلا إذا وافقت أرمينيا وهذه الدول على مشاركة تركيا في المسار المستقبلي لأزمة كاراباخ، كما هو الحال في سوريا وليبيا.

أوساط إعلامية في موسكو تنظر إلى أسلوب بوتين باعتباره يدل على “مؤشرات مهمة تثبت نفاد صبره، بعد أن اقتنع أخيراً بأن إردوغان لن يلتزم بأيٍّ من وعوده وتعهداته له في سوتشي في 17 أيلول/سبتمبر 2018، وفي اتفاق موسكو في 5 آذار/مارس الماضي حول إدلب”، فقد تصدى الأخير طيلة الفترة الماضية لكلِّ الضغوط الروسية، وعزَّز وجوده العسكري في إدلب، ومنع الجيش السوري من الاقتراب منها، وزاد مساعداته العسكرية الضخمة لكل الفصائل المسلحة في المنطقة.

كما استغلّ تواجده العسكري المدعوم بعشرات الآلاف من المسلحين السوريين والأجانب في إدلب وغرب الفرات عموماً، فنجح بإقناع بوتين في السماح له بدخول شرق الفرات أيضاً. وأكَّد إردوغان في أكثر من خطاب “أنه لن ينسحب من إدلب، ومن الشمال السوري عموماً، إلا بعد الحل النهائي للأزمة السورية، وشرط أن يطلب الشعب السوري منه ذلك”.

إردوغان لم ينس في خطابه الموجّه لأعضاء الكتلة البرلمانية لحزبه (الأربعاء) أن يندد بالغارات الروسية التي استهدفت مركز تدريب فيلق الشام وقال “إن مهاجمة روسيا لمركز تدريب للجيش الوطني السوري في منطقة إدلب هي مؤشر واضح على أنها لا تريد سلاماً واستقراراً دائمين في سوريا”.

المعطيات الأولية ترشّح الأيام القليلة القادمة إلى تطورات مثيرة في العلاقات الروسية – التركية، التي يبدو أنها دخلت مساراً جديداً بعد العملية الجوية التي استهدفت مركزاً لتدريب مسلحي فيلق الشام الموالي لإردوغان قرب الحدود مع تركيا، التي تتبنى هذا الفصيل وكل الفصائل الموجودة في المنطقة. وقد حشدت فيها تركيا قوات إضافية بكل الأسلحة الثقيلة لمواجهة كل الاحتمالات، مع استمرار الضغوط الروسية لسحب ثلاث نقاط مراقبة تركية محاصرة من قبل الجيش السوري في جوار إدلب “بأسرع ما يمكن”.

ويبدو واضحاً أنَّ إردوغان يرفض مثل هذه الضغوط، بعد أن تعرَّض لانتقادات عنيفة من بعض الفصائل المسلحة التي اتهمته “بالخيانة والتخلّي عن قضيتها” بعد الانسحاب من مورك، وهو ما أدى إلى اقتتال الفصائل الموالية لتركيا في ما بينها.

كما أنه لن يقبل بمثل هذا الوضع الَّذي سيعتبره البعض بداية هزيمته في سوريا، مع استمرار الضغوط الروسية عليه لحسم قضية إدلب وضمان مستقبل العلاقات الروسية – التركية بكلّ عناصرها المهمة، والتي بدأت باعتذار إردوغان من بوتين في 27 حزيران/يونيو 2016 في ما يتعلق بإسقاط الطائرة الروسية في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، وذلك بعد شهرين من دخول القوات الروسية إلى سوريا.

ولا تخفي بعض الأوساط العسكرية احتمالات المواجهة الساخنة الجديدة بين الطرفين في سوريا، بعد أن بات واضحاً أن بوتين لن يرتاح بعد الآن لسياسات إردوغان في القوقاز، وهي أخطر بكثير بالنسبة إلى روسيا التي تجاور جمهوريات الحكم الذاتي الإسلامية، والتي تحدّ أذربيجان. وقد قال بوتين في اتصاله الهاتفي الأخير حول هذ المنطقة “إن تركيا تنقل إليها المسلحين من الشرق الأوسط”، وقد يكون بينهم الشيشانيون والإيغور، وهم كثر في سوريا.

وهنا يبدأ الرهان على موقف الرئيس بوتين المحتمل عملياً في حال استمرار إردوغان في موقفه الحالي الرافض لمطالبه في ليبيا وسوريا، والأهم في القوقاز، مع اقتراب موعد الانتخابات الأميركية بكل مفاجآتها التي ينتظرها الرئيس التركي، الذي سيفكّر بعدها في صيغة جديدة في تحركاته الإقليمية والدولية، لتساعده على مواجهة الضغوط الروسية، ومعها الأوروبية، بعد أزمته مع الرئيس ماكرون المدعوم من الدول الأوروبية، وخصوصاً ألمانيا، التي لا تخفي انزعاجها من مساعي إردوغان لعرقلة مبادرتها مع واشنطن والأمم المتحدة في ليبيا، وهو ما قد يتطلَّب من الأخير العودة إلى الحضن الأميركي، لمواجهة كل هذه المضايقات التي يبدو أنه غير مبالٍ بها، لأنه يعتقد أنه يملك المزيد من أوراق المساومة في تحدياته مع الجميع، وبشكل خاص روسيا، العدو التاريخي والتقليدي لتركيا العثمانية والجمهورية، إذ أكَّد بعد يوم من حديثه إلى بوتين “تصميم بلاده على المضي قدماً بخطى ثابتة وفق رؤيتها وأجندتها الخاصة، بغض النظر عما تقوله الأطراف الأخرى وتفعله”.

ويفسّر ذلك هجوم الإعلام الموالي لإردوغان على روسيا وإيران معاً، متهماً إياهما بدعم الأرمن ضد تركيا وأذربيجان، وهو ما يتحدث عنه إردوغان بين الحين والحين، في محاولة تقليدية منه لاستفزاز المشاعر القومية التركية والعثمانية والدينية لدى الشعب التركي.

كما أنه يسعى لحشد تضامن كلّ الإسلاميين في العالم معه، بعد أن اتّخذ موقفاً عنيفاً ضد الرئيس الفرنسي ماكرون في موضوع عدائه للإسلام ونبيه محمد (عليه الصلاة والسلام). وحقَّق إردوغان مثل هذا التضامن في السنوات الأولى لـ”الربيع العربي”، إذ أعلن نفسه المدافع عن المسلمين ضد إيران “الشيعية” وروسيا “الكافرة”، وكان معه آنذاك الغرب المسيحي، وهو الآن عدو لدود له.

ولا تخفي الأوساط الأوروبية الآن قلقها من أسلوب إردوغان، وهي ترى فيه تحريضاً لكل الإسلاميين، وخصوصاً المتطرفين منهم الذين يعيشون في أوروبا، وهو ما يتأثّر به كلّ الإسلاميين في العالم، بما في ذلك روسيا، التي يعيش فيها حوالى 25 مليون مسلم من أصول تركية، ويحظون باهتمام أنقرة، سراً كان أو علناً، كما هو الحال في دعم إردوغان للأقلية المسلمة في شبه جزيرة القرم الّتي استعادتها روسيا، ورفضه المتكرّر لذلك، ومساعيه لتطوير علاقات عسكرية استراتيجية مع أوكرانيا.

ولا شكَّ في أنَّ هذا الموقف يزعج موسكو التي بات واضحاً أنها تستعدّ لمرحلة جديدة في علاقاتها مع أنقرة، في حال استمرارها في تكتيكاتها التي باتت تحرج بوتين في علاقاته مع الرئيس السوري بشار الأسد، الَّذي نفد صبره أيضاً من الموقف التركي الذي “كان وما زال سبب كل مشاكل سوريا”.

وتتوقَّع أوساط مقرّبة من الكرملين أن يتحيّن بوتين الفرصة الملائمة للقيام “بشيء عملي مهمّ” ضدّ كلّ التحركات والمصالح والحسابات التركية في سوريا، باعتبارها ساحة التلاقي الروسي – التركي منذ العام 2016، وهو ما استغلَّه الرئيس إردوغان، لتكون هذه الساحة نقطة انطلاق لكلّ مشاريعه السياسية والتاريخية والاستراتيجية والعقائدية، التي لولا الرئيس بوتين والضوء الأخضر الممنوح منه، لما حالفه الحظّ في تحقيق أيّ من أهدافه هذه.

يبقى الرهان على الضوء الأحمر الّذي قد يضيئه بوتين في أي لحظة لإردوغان بعد ضوئه الأصفر الأخير (مقتل 80 عنصراً من فيلق الشام). وبات واضحاً أنه سيتكرر أكثر من مرة خلال الفترة القريبة القادمة، قبل أن ينفد صبر بوتين نهائياً، ويقتنع بأن إردوغان بات في وضع لا يساعده على المزيد من المناورات لعرقلة الحل النهائي للأزمة السورية، وهو الاحتمال الذي يراهن عليه الكثيرون مع استمرار عناد الرئيس التركي في تحديهم جميعاً، ما دام يعتقد أنه أقوى من الجميع، وإلا لما حكم تركيا 18 عاماً، رغم كل أعدائه في الخارج، إذ تخلَّص من جميع أعدائه في الداخل، بعد أن نجح في تغيير النظام السياسي (بعد محاولة الانقلاب الفاشل في تموز/يوليو 2006)، فسيطر على جميع مرافق الدولة وأجهزتها، وأصبح الحاكم المطلق للبلاد، ويقول إعلامه إن العالم يهابه!

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى