نوافذ

روعةُ البدايات

اليمامة كوسا

لطالما كانت البداياتُ تملك رونقاً خاصّاً يجعلنا نخزّنُ شعورنا الفريدَ تجاهها في مكانٍ عميقٍ من الذاكرة لا يمكن أن تطالهُ أيادي النّسيان أبداً.

نذكر أوّل يوم في رياض الأطفال، أوّل يوم في المدرسة، في الجامعة، أوّل مقابلة عمل، أوّل امتحان، أوّل مقابلة تلفزيونية، أوّل لقاء لنا مع شخص، وغيرها الكثير..

ولعلّ ما يمنح البدايات تلك الميزة؛ هي أنّنا نكون قد حشدنا في داخلنا جيوشاً من التصوّرات حولها، كيف ستكون يا تُرى؟ هل سنبلي بلاءً حسناً؟

ماذا لو حدث أمر ما؟ ماذا سنفعل؟

فتكون الليلة التي تسبقها مليئةً بشتّى أشكال المشاعر، ما بين نشاطٍ وحماسةٍ تُشعلُ أفئدتنا، وما بين خوفٍ وقلقٍ من المجهول يباغتنا بين الفينة والأخرى.

ولعلّ ذلك المزيج الغريب من المشاعر هو ما يضفي على البدايات خصوصيّتها، فنحن نتذكّر أدقّ التفاصيل حول شيء ما عندما يكون مُرفقاً بشعور معيّن يفعّل ذاكرتنا العاطفيّة، وذلك لأنّ كلّ ما لهُ علاقة بالعواطف لا يُمكن أن يُمحى من الذّاكرة بسهولة.

وقفتُ صباحاً على الشّرفة وإذ بي أجد الشارع يضجّ حيويّةً وقد طغى عليه اللونان الأزرق والزهري، نعم إنّه صباح العودة إلى المدرسة.

لا أعلمُ كيف طَفَتْ ذكرياتي عن هذا اليوم على السّطح وإذ بهذا المشهد البسيط للشارع المزدحم بطلاب المدارس يعود بي سبعة عشر عاماً إلى الوراء كنتُ فيها تلك الطّفلة ذات السنوات السّتّ أُمسكُ بيدِ والدي بزيّي المدرسيّ الأزرق وضفيرتيّ السوداوين مُسدلتين على جانبي رأسي وقد أحكمت أمّي شدّهما جيّداً بالشرائط الحمراء المزركشة.

كنتُ أنظر بذهول إلى ذلك الكمّ الهائل من البدلات الزرقاء والزهريّة المتحرّكة باتجاه واحد فأضغطُ على يدِ والدي كلّما شعرتُ بالقلق إزاءها، ثمّ أُذكّر نفسي بأنّني أرتدي واحدةً تشبهها فأجد يدي قد ارتخت وعادت لوضعها الطبيعي.

أذكرُ أنّنا حين وصلنا أخبرني والدي بأن انتظرهُ عند الباب الكبير ليصطحبني عند العودة، ودّعتهُ ملوّحةً وابتسامةٌ كبيرة تجتاح وجهي بأكمله.

كان يوماً مميّزاً بكل تفاصيله، تعرّفتُ فيه على صديقتي التي لا زلتُ ألتقيها إلى الآن، شرحتُ للمعلّمة معنى اسمي، مشيتُ في الباحةِ الواسعة وأنا أتناول شطائري وحلواي باستمتاع محاولةً عدّ الأشخاص من حولي.

أذكرُ أنّهُ كان يوماً جميلاً فاق تصوّراتي عنهُ، قمتُ فيه بالكثير من النشاطات الجديدة التي لم أكن قد جرّبتُها من قبل، إلّا أنني نسيتُ من فرطِ حماستي أمراً واحداً لا غير، لقد نسيتُ أن أنتظر أبي عند باب المدرسة، ولم أتذكّر بأنّه كان عليّ أن أنتظرهُ هناك إلى اللحظةِ التي وجدتهُ فيها يقفُ أمامي ويُحيّيني وابتسامةٌ عريضةٌ تملأ وجهه، ركضتُ إليه واحتضنتهُ ثمّ أكملنا طريقنا إلى المنزل وأنا أُحدّثه عن ذلك اليوم التاريخيّ الجميل.

 

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى