كتب

‘زهران الذي هوى’ التاريخ قنعًا

صدر مؤخرًا للأستاذ الدكتور أحمد صبرة عن دار العين روايته الثانية “زهران الذي هوى”، قارئ الرواية يدرك بسهولة أنها استكمال لأحداث روايته الأولى “المغامر. فكلتاهما اتخذتا من مصر العثمانية مسرحًا لأحداثهما، اهتمت الأولى بمحمد علي الألباني الذكي الذي استطاع الوصول إلى سدة الحكم في مصر، والثانية تقف على ما آلت إليه مصر في عهد أبنائه وأحفاده، خاصة في عهد الخديوي إسماعيل.

تسير الرواية في ثلاثة مسارات متداخلة: مسار زهران العاشق ثرى بلده، المصرّ على أن يكون له دور في عودتها لأبنائها، فيتجه برغبته إلى دراسة العلوم العسكرية، ليكون ضابطًا بالجيش المصري اسمًا، الغربي حقيقة، في وقت كان الناس يهربون من التجنيد الإجباري بقطع إصبع، أو فقأ عين، أو قطع أذن، والمسار الثاني مسار صفية زوجة زهران التي أصرّت على أن تتعلم، وأن تتساوي في الحقوق بالرجال. صفية التي أراها المعادل الموضوعي لمصر في هذه الحقبة التاريخية وما تلاها من حقب. فلا هي استطاعت أن تكون غربية كما أرادت، ولا استطاعت الجمع بين الثقافة الغربية ومصريتها، فعاشت مشتتة الهوية، ولم تهدأ نفسها إلى عندما عادت إلى أصلها.

والمسار الثالث مسار صالح والد صفية الذي فقد جزءًا كبيرًا من ماله بحسن نيته، أقرضه ليوناني، فماطله، ثم أنكر الدين، ولم تنصفه المحكمة كونه مصريًا على أجنبي، فلجأ إلى الحيلة، لكن ماله لم يعد إليه.

من نافذة المسارات الثلاثة تنظر الرواية لحقبة من أشد حقب التاريخ المصري توترًا. من وجهة نظر معاصرة لقارئ تاريخ لم يعشه، حافظ على الخطوط التاريخية العريضة لحياة المصري في تلك الحقبة. وتخيل ما لم يخض فيه المؤرخون، فرسم لوحة لليومي والهامشي، والأساسي والثانوي، والعادات والتقاليد، والديني والخرافي، والهم العام والخاص.

لوحة مصنوعة بحرفية عالية

لوحة مصنوعة بحرفية عالية، فهي ابنة الحقبة الزمنية من خلال الحقائق التاريخية، والأماكن. واللغة، والوصف، وابنة الواقع المعاصر في الوقت ذاته، فبسهولة يطل القارئ المعاصر من خلالها على واقعه، ومن خلال شخصياتها يرى ذاته، ويرى الآخر ومكانته.

يسعى زهران جاهدًا طوال الرواية خلف حق المصري في خيرات بلده، وحقه في الحكم والقيادة والتخطيط للمستقبل، وتسعى صفية خلف حقها في التعلم والتميز عن الآخرين والأخريات. ويسعى صالح خلف ماله، لكنهم في النهاية لم يجنوا ثمار سعيهم، فأعدم زهران ظلمًا، وخٌدع صالح مرتين، واستسلمت صفية للوضع السائد، بعد أن وجدت راحتها في العودة إلى حياة المصريين، ووافقت على أن تكون أمًا ترعى أولادها.

قد تبدو الرواية من الوهلة الأولى رواية تاريخية، لكنها في الحقيقة رواية واقعية بامتياز، التاريخ فيها قناع تقنع به السارد ليطل على واقعه بحرية وأمان، فبين طيات السرد المتداخل مسكوت عنه يشير إلى الواقع المصري المعاصر، وتلميحات إلى التاريخ الذي يعيد نفسه دون أخذ العبرة والعظة من الماضي، وبينها صرخة تنبيه للتخلص من سيطرة الآخر، ومجابهة الغزو الثقافي، ومحاولات التغريب، ودعوة إلى التمسك بالعادات والتقاليد والقيم المصرية الأصيلة.

كل ذلك في قالب روائي فني متميز، ظهرت فيه براعة الدكتور صبرة في اللعب الفني بالاستشراف المثير الذهن، وتوظيف التداخل الزمني بحرفية عالية جعلت أحداث الرواية في يد السارد وحده، لكنه مع ذلك يمنح الشخصيات حرية الحركة والتفكير داخل المتخيل الحكائي، فلم تأت الشخصيات أسيرة توجيهاته. ولم تتحرك وفق رغباته، واستثمار البراعة في التحليل النفسي لدواخل الشخصيات ومواقفها للسيطرة على ذهن القارئ الذي أصبح أسيره بعد المقطع الأول من مقاطع الرواية الثلاثين، والإمساك بحبال التشويق كاملة، ما جعل شغف القارئ بالنهاية دافئًا لم يفتر قط من الصفحة الأولى للرواية حتى الصفحة الأخيرة.

الاعتماد على طاقات الأنواع والأجناس الأدبية

كما برع في الاعتماد على طاقات الأنواع والأجناس الأدبية وغير الأدبية التي تداخلت مع السرد، ففي الرواية يتفاعل الديني مع التاريخي، والأدبي، والشعبي لتشكيل ملامح المتخيل الحكائي. إضافة إلى اعتماده على الحلم اليونجي وتوظيفه لكشف دواخل الذوات، خاصة زهران، كما يظهر أثر ألف ليلة وليلة واضحًا في بنية الرواية المكونة من حكاية إطار هي حكاية زهران، ومجموعة حكايات فرعية متناسلة منها، مثل: حكاية صفية، وحكاية صالح، وحكايات هامشية، مثل: حكاية عشري، ومنصور، وعبد الصبور، وسعاد، والأميرة فاطمة، ويبدو أثر المونتاج السنيمائي والسيناريو واضحًا في تقسيمها إلى مقاطع.

من نافلة القول أن أقف أمام سيطرة الدكتور صبرة على لغته، فروايته الأولى وكتاباته النقدية وترجماته تشهد له برقة الألفاظ، وسلاسة الأسلوب، وامتلاكه لزمام جودة الصياغة والنظم.

في “زهران الذي هوى” استخدم الفصحى سردًا وحوارًا، وبرع في جعل الجملة الفصيحة صالح للقراءة على الوجهين، الفصيح والعامي، والأهم أن لغته لا أثر فيها للغة الناقد الحيادية الجافة، فتفوح منها رائحة الحكي لا رائحة العلم.

الحديث عن اللغة يدفعنا إلى الوقوف أمام العنوان “زهران الذي هوى”، فالفعل (هوى) بالكامن فيه من معاني (الحب / السقوط) ينوع موالج الدخول إلى المتخيل الحكائي، وأمام عناوين الفصول الثلاثين، وهي عناوين استثنائية، بها من براعة التشكيل الكثير والكثير، ما يجعلها مكمن لجماليات تحتاج وحدها على دراسة مستقلة.

اعتماد الدكتور صبرة على كم من الألفاظ

ويدفعنا أيضًا للإشارة إلى اعتماد الدكتور صبرة على كم من الألفاظ كانت تستخدم كمعينات في القرن التاسع عشر، مثل أسماء بعض الأطعمة، والألفاظ العسكرية، والألفاظ التي كانت مشهورة في حياة العامة اليومية. وهو اعتماد يمنح المتخيل مصداقية لها دورها في جذب المتلقي إلى المحكي، والثقة في كاتبه.

ويأخذنا الحديث عن اللغة إلى لغة الأحلام التي اعتمد السارد عليها كثيرًا في بلورة فكرته، واستثمرها استثمارًا جيدًا في وصف دواخل الشخصيات، خاصة زهران، وفي الانتقال بين مقاطع الرواية، فقد صيغت بحرفية عالية، وبلغة ليست بعيدة عن لغة السرد والحوار، لكنها مفعمة بالحس الماورائي، والدقة التي جعلتها أحلامًا حقيقية لا أثر فيها لصنعة سردية، ولا تدخّل من السارد العليم الممسك بزمام الحكي، إنها لوحات سردية منسابة بين طبقات الحكي.

“زهران الذي هوى” رواية متميزة بفنياتها، ولغتها، وفكرتها عن الكثير مما تدفعه المطابع إلى الساحة الأدبية والنقدية يوميًا، رواية تستحق أن تقرأ، وتستحق أن تدرس من زوايا عديدة، وتستحق أن يضعها النقد في مكانها الصحيح، في زمن اختلط فيه القبيح بالجميل، والنافع بالضار، والرديء بالنفيس.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى