كتب

زينة حموي… لعنة الحرب التي لا تنتهي

ورد في الصفحة 80 من المجموعة القصصية «قبل النجاة بقليل»، (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ـــ 2025): «القصص غير المكتملة تجلب النحس والحظ السيّئ وتتحوّل إلى لعنة».

 

ربّما، لهذا كُتب النحس والسوء على السوريين، إذ تبدو قصصهم ناقصة! ينقصها المال، والكهرباء، والوقود، والأمان، والصّحة النفسية. وهذا النقص، هو تماماً ما سعت القاصّة السورية زينة حموي لتجسيده على امتداد سبع عشرة قصّةً، جميع أبطالها مهمّشون ومسحوقون بفعل المحرقة السورية التي بدأت عام 2011، وما تزال مستمرّة حتّى هذه اللحظة. محرقة تورّث السوريين بمختلف انتماءاتهم ومواقفهم السياسية، حتّى الحيادية منها، الخذلان والاكتئاب، مُبدّدة أحلامهم، ومُشتتة ألبابهم بين فكرتَي البقاء أو السفر.

تستهل حموي المجموعة بقصّة «قصّاب البيع»، التي تعدّ بمنزلة تجسيد للمثل الشعبي: «يلي بيشوف مصيبة غيره، بتهون عليه مصيبته»، من دون أن تتطرّق لذكر هذا المثل. فالرجل الذي كان يجول لشراء الخردة، توقّفت تجارته بعد الحرب، التي لم تُبْقِ للناس ما يفيض عن حاجتهم للبيع.

لذا استبدل بتجارة شراء الخردة، مقايضة الناس بهمومهم. ومع استبدال كلّ شخص همّاً آخر بهمّه، يتغيّر حاله، ويصغر همُّه المُستبدَل في عينيه، لتكون الخاتمة مع امرأة تحمل أثقل أنواع الهموم: هموم الحرب. يُقايضها قصّاب البيع هذه الهموم، مُقابل منحها جميع الهموم التي قايضه بها الناس من دون استثناء: «أعطيتُهُ هموم الحرب، فأعطاني القصص».

ويبدو الاستهلال بهذه القصّة مناسباً جدّاً، إذ يُمهّد القارئ لسلسلة من الأوجاع والخيبات، ولاغتراب نفسيّ يلازم سواء من هاجر سوريا، أم من بقي فيها. وما إن يطّلع القارئ على باقي القصص، حتّى يقول لنفسه: من قرأ القصّة اللاحقة، هان عليه وجع القصّة السابقة.

يظهر فيروس كوفيد 19 كضيف شرف في معظم القصص، لكن تبقى الحرب السورية هي البطل الأساسي لمجمل القصص، وتظهر الأمراض النفسية الناجمة عنها، كفكرة ملازمة للطرح، وعلى رأسها الاكتئاب الذي يُصيب معظم أبطال المجموعة، ويتفاقم أحياناً ليصل إلى ما يُعرف بـ «Somatization Disorder»: اضطراب نفسي يُعاني خلاله المصابون من آلام جسدية لا تفسير لها، ينكرون منشأها النفسي وينشغلون بأعراضها حدّ الهوس؛ كما في قصّة «تمّت».

وفي قصة «فلوكسيتين»، مجموعة شخصيات تقصد صيدلية، للحصول على أدوية مختلفة (للأعصاب، للأرق، مهدئات…)، القاسم المشترك بينها جميعاً هو: الفلوكسيتين، الذي يُستخدم في علاج حالات الاكتئاب المتوسطة إلى الخفيفة، الوسواس القهري، نوبات الهلع، اضطراب القلق، اضطراب ما بعد الصدمة، اضطراب ثنائي القطب، النهام العصابي، اضطراب الأكل وغيرها. يتضح في الخاتمة، أنّه حتّى الصيدلاني، الذي يصرف الوصفات للمرضى، مُستمعاً لقصصهم، ومتعاطفاً معهم، يعتمد عليه.

في «ملوك وكتابة»، تطوّرت حالة مرهف، ودخل مرحلة جديدة من الاكتئاب استوجبت تغيير العقاقير وزيادة الحذر. ونصل إلى مشهد درامي قاسٍ جدّاً. أبٌ عاجزٌ عن إعالة عائلته، وطفلٌ لا ذنب له، وأمٌّ شاعرة تخلّت عن الشعر، ورضخت لكتابة الإعلانات لتُعين عائلتها؛ الثلاثة يبكون من دون أن يسمعهم أحد.

تسيطر هموم الكتابة على بال حموي وتشغله، وتُترجم هذه الفكرة في قصص عدّة، منها: «تمّت»، «المنفي»، و«تقاطع قصص» وفيها تُبدي الزوجة القاصّة قلقها الشديد من عدم إكمال زوجها لقصّة يحيكها وزملاؤه في العمل، كأحد أنشطة الشركة، الهادفة إلى خلق انسجام وألفة بين الموظفين، إذ طُلبَ منهم كتابة قصّة، بحيث يكتب أحدهم مقطعاً، يُكمله زميل آخر، فزميل ثالث، وهكذا… إلى أن تنتهي، وبذلك يفتتحوا بقراءتها اجتماع يوم الإثنين، فيضيفوا نوعاً من التسلية إلى جو العمل.

تأخذ الزوجة الأمر على محمل الجد، لتُحدّثنا حموي عبر هذه الجدية، عن مسؤولية الكاتب تجاه نصّه، إذ تؤنسنه وتمنحه شعوراً مؤلماً إن لم يكتمل! وتجعلها حموي تُكمل القصّة بطريقة ذكية، تُقارن عبرها بين هموم العالم الثالث المتمثّل في سوريا، واهتمامات البلدان المتقدّمة بالإنسان وبنائه: «القصة كائنٌ حيٌّ، مخلوقٌ له لحظة ولادة ورحلة حياة. ومتى تورّطنا بإنجابه لا يحق لنا تركه غير مكتمل النمو. سنعيقُ مسيرته ونصعب عليه العيش».

تتطرّق حموي إلى عالم المخيمات ومآسيه، كما في «جميلة وهناء»، و«تشافي»، التي استعرضت فيها قضية التحرّش، الذي تتعرّض له القاصرات ضمن المخيمات، وما ينجم عنها من صدمات نفسية تؤثر في عوالم المراهقات النفسية والسلوكية والاجتماعية.

تنجح إحدى القاصرات بالهرب من المخيم، وتروي قصّتها عبر بث مباشر على فايسبوك بعد أربع سنوات من هروبها، كصرخة منها للَفت انتباه العالم، والتحرّك لمعالجة هذه القضية الحسّاسة والأخلاقية، وكمحاولة منها أيضاً للتشافي من جلدها لذاتها: «يقولون لي في مركز الرعاية والدعم النفسي إنني تعرّضت لسلسلة من الصدمات المعقّدة، وإنني لن أتجاوزها ما لم أفهمها وأرتضي بها. لست متأكدة من قدرتي على ذلك، فأنا، بحسب المسؤولين في المركز، لم أنج بعد. أقف على عتبة النجاة، أو قبلها بقليل».

تصل حموي إلى القصّة الأخيرة، وتختار بذكاء أن ينتحر في ختامها الجميع، بمن فيهم الحاكم؛ لتكون نهاية مناسبة تماماً ليس فقط للقصّة، بل للمجموعة، التي تمثّل بمجملها إرثَ السوريين المشوّه من حربهم.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى