سؤال النهايات السورية: أيموت عالم بلا ألم؟ (نصري الصايغ)

 

نصري الصايغ

Iـ لا براءة للمبادئ والأخلاق

لكل سؤال أكثر من جواب. في زمن الفسطاطين، يتثنى الجواب، وفي أزمنة الحروب، تتعدد الإجابات. وحظوظ الصواب، تولد من ميادين القتال، وتقرره أرجحية موازين القوى.
المرجعيات المؤهلة لإعطاء إجابات معقولة أو متواضعة أو مرجحة أو احتمالية، تتراجع في فترات الصراع الدموي، لتتقدم عليها مرجعيات الحسم الديني أو المذهبي أو التكفيري أو الثوري. في أزمنة الحروب، تخضع الأسئلة لغير منطق المبادئ والقيم والأخلاق والحقوق والشعارات، وتصبح المصالح وآليات الفوز والانتصار، بأي ثمن، مهما كان فادحاً أخلاقية وإنسانية، هي الآليات الحاسمة، شروط الانتصار في احتدام القتال، تختلف عن شروط الحوار والتفاوض. هنا، البنادق تكتب الإجابات، لا العقل.
من الأسئلة التي تكون عبثية، في زمن الحرب، بسبب انتمائها لحقبة «المبادئ» و«القيم» و«النظريات» و«الحقائق»، ما يلي: كيف ينخرط حزب أخذ على عاتقه تحرير بلده من الاحتلال الإسرائيلي في حرب إلى جانب نظام استبدادي، يمنع الحرية عن شعبه؟ أو أن تسأل مثلا: كيف تحالف ستالين مع هتلر في بداية الحرب، ثم عقد الغرب «الديموقراطي» حلفاً عسكريا، قاد حرباً على النازية والفاشية، فيما الستالينية كانت أفدح نظام دموي في القرن العشرين، على الاطلاق؟ أو كأن تسأل ايضا، عن التوافق النظري والتلازم الأخلاقي، بين سياسات أنظمة الغرب الديموقراطية المؤيدة والداعمة والحامية، وأحيانا المنصّبة، لأنظمة استبداد في أميركا اللاتينية وافريقيا ودول العالم العربي؟ أو كأن تسأل حتما، عن مدى المعقولية، بين سياسات دول رجعية متخلفة ملكية وأميرية مستبدة وظالمة وفاحشة، ودعمها للثورة السورية، التي كانت تسعى في بداياتها، لإقامة نظام عادل يكفل الحريات ويقيم العدالة و… قبل ان تتحول جحافلها إلى فرق مسلحة بآيات دينية وقتل على الهوية؟
إن طرح هذه الأسئلة وسواها، ينتمي إلى عالم النظريات، وإلى مواقع الفكر الذي يرى إلى الحياة، وكأنها خط مستقيم.
لا إجابة ممكنة للأسئلة الواردة أعلاه، من خلال مرجعية قيمية. للأسف البالغ، المرجعية الوحيدة للفهم، هي في احالة الاسئلة إلى السياسة، التي هي علم الوقائع، والتي تفرز الحقائق الموقتة، فإما تنجح وإما تغرق في لجة النسيان…
كل الأسئلة الواردة أعلاه، لا تنتظم في السياق الأخلاقي أبداً. هي من صميم السياسة، والسياسة فن الربح والفوز والانتصار، بالوسائل المسموحة والممنوعة. هيروشيما نموذجاً. مدينة درسدن في المانيا نموذج آخر. قصف المدنيين في فييتنام الشمالية، نموذج كذلك، وقيام «إسرائيل» كدولة اغتصاب واحتلال واستيطان واقتلاع وتمييز عنصري، بدعم الديموقراطيات الغربية، وأنظمة الدول الماركسية، نموذج لا يمكن تفسيره، إلا بالسياسة.
لقد كان ماكيافيللي على حق: لا علاقة للأخلاق بالسياسة أبداً. الأخلاق والمبادئ والأديان والعقائد، يمكن ان تكون خنادق قتالية.
سؤال أخير: الإسلام واحد. الكتاب واحد. الله واحد. فكيف يتقاتل المسلمون في ما بينهم؟ لا علاقة للإسلام بكل ما يحدث. المسلمون ليسوا الاسلام. هنا، وحدها السياسة تشكل مرجعية للفهم. والسياسة مصالح ووقائع وخطط وبرامج وفوز. وكل ما عدا ذلك، هو حاجة لإضفاء شرعية أخلاقية أو دينية على المطامح والمشاريع السياسية.
«حزب الله» مع النظام في سوريا، لانهما في خندق واحد من زمان. وهو خندق جمعهما، ولا إمكانية للفصل بينهما. من كان يظن أن «حزب الله» سيكون على الحياد، واهم. ومن كان يظن أن التيارات السنية ستكون على الحياد، أكثر وهماً.
هل هذا أمر أخلاقي؟ الجواب عند العبقري ماكيافيللي فقط. لا يمكن ان تكون المقاومة ضد مصلحتها. وهي ترى إلى مصلحتها على انها التزام بمشروع تحريري أخلاقي له حلفاء أنجز انتصاراً. وأن وقوفها ضد النظام السوري أو على الحياد، انتحار. وليس في علم السياسة منتحرون. سقراط لم يكن سياسياً. مسكين!.

IIـ في وداع حقبة وانتظار الكارثة

إننا بحاجة إلى التعرف على الحقل السياسي الجديد. نحن أمام عالم عربي ينهار. الأسئلة القديمة صارت اجاباتها رثة. المشهد أكثر فصاحة من التفكير والتحليل. هذا عالم عربي يودع حقبة مأساوية ويدخل في مخاض، لا يشي بأن مولوده سيكون معافى. بل هناك تأكيد، على ان العالم الذي سيرث عالمنا، سيكون ظلامياً، عنيفا، متخلفا، عصابيا، مرتهنا. أما جغرافيته، فلا حدود لتعديلاتها. فإذا كان سايكس ـ بيكو قد رسم عالم ما بعد الحرب في المشرق العربي، فإن البديل، سيرسمه، سايكس السني وبيكو الشيعي، تحت مظلة الشتات الدولي. لا دليل على ان دولنا ستبقى بلا تغيير، وان مجتمعاتنا ستنجو من التدمير، وأن لجوءنا إلى المذاهب، سيكون لجوءاً آمنا ومستقرا… حرب المائة عام بدأت، ما زلنا في إرهاصاتها الأولى.
الحقل السياسي الجديد لم يفرز بعد أي جديد. فقط، تم احضار القديم الديني والمتخلف المذهبي إلى الحلبة. ومعين هذين القديمين، ايمان لا ينضب «بالصواب» و«الحقائق» و«المبادئ»، الصالحة للمنازلة الميدانية، ولإقامة شعائر القتل والثأر والانتقام.
الحقل السياسي الجديد، يستعد لإلغاء «حقائق»، قومية، تقدمية، حرية، ديموقراطية، عدالة، تنمية، وحدة اجتماعية، ثقافة وطنية، انتماء إنساني، إبداع فني، بحبوحة ثقافية، مساهمة حضارية. رواد هذه «الحقائق» دفنوا جميعاً. الكواكبي، محمد عبده، علي عبد الرازق، شبلي الشميل، فرح أنطون، قسطنطين زريق، أنطوان سعاده، ما عادوا على قيد الحياة. لقد استبدل هؤلاء وسواهم من الرواد اليتامى، بالقرضاوي والأزهر وجحافل الفقهاء، وهؤلاء، لا يأتون إلى كلمة سواء. هم، كأسلافهم، جاؤوا إلى المسرح العربي، بذخيرة دينية، قل فيها التراحم.
لا بد من الخروج من زمن الحقائق، كل الحقائق، علّ النفق النظري يفضي إلى قبس ضوء نستطيع ان نرى فيه واقعنا على ما هو عليه، لا معتقداتنا، كما نحن عليها.

IIIـ ضرورة الخروج من الحقائق

الحقيقة وجه من وجوه الاستبداد، لأنها وجه من وجوه النقصان، ولأنها وجه من وجوه الخطأ، وهي بحاجة كي تبرهن على صحتها إلى أن تكون سلطة آمرة، وتلجأ إلى القوة كي تحضر في الواقع، بكلفة باهظة، وتداعيات كارثية.
علينا أن نخشى من الحقيقة، أي حقيقة، فكل حقيقة استبداد بطريقة ما. والتاريخ البشري شاهد على الفظاعات التي ارتكبتها الحقائق.
الحقيقة، كائنا ما كان مصدرها، بأي علة جاءت، من أي منهج ولدت، من أي إيمان استوحيت، من أي ابتداع خلقت، من أي معتقد نبتت، تدعي العصمة، ولا يأتيها باطل من أي جهة. لأن أي هفوة أو شك أو خطأ ينتابها، يفقدها عذرية العصمة وبكارة الحق. والحقيقة، مخيفة، لأنها تفترض الطاعة. فإما نطيعها بقناعة تقترب من الالتزام بالمقدس، أو لأن طاعتها مقررة ومنفذة بالقوة المادية.
ولم يثبت في التاريخ البشري، ان حظيت حقيقة، او مجموعة حقائق، بقبول بشري موحد، فغالبا ما تدافعت الحقائق، وتنابذت وتقاتلت وفرقت وأشاعت من الأباطيل، ما لا طاقة لمجموعة على احتمال نتائجها وأضاليلها.
ففي البدء كان الفكر، وكان الكفر به متلازما معه. في البدء كانت الحقائق، وكانت الدماء متلازمة معها. الفكر، مدعي المعرفة، والحقائق محظية المنطق والعقل والايمان، أشعلوا في العالم الحرائق، من خلال ما اقترفوه من ادعاء العصمة، والتعصب لها والتقيد بها، وفرضها على الناس.
للسفسطائيين فضيلة الفضائل في الفكر الاغريقي: «كل حقيقة موقتة»، و«الايمان بالحقائق النافعة» و«احترام الحقائق الزائلة»، و«دفن الحقائق عندما تتناقض مع الحياة». يجب اطلاق النار على الحقائق وادعاءاتها الأخلاقية. للسفسطائيين فضيلة اعادة الاعتبار للخطأ النافع، للمصلحة المباشرة، للمنفعة العامة، والتعامل مع الوقائع بشروطها. لهم فضيلة ابتذال الحقائق التي تتمتع بحصانة ارستقراطية، تعتمد «العقل الخالص»، و«المنطق الجاف» و«السياق الحديدي»، لانتاج آلة السحق التي ترافقها.

IVـ قليل من التاريخ

انقل عن المفكر هشام جعيط ما يلي: «كان الفتح العربي لافريقيا «مشروعا عسكريا وبشريا وماليا طويلا وعنيداً»… شعرت البلاد وكأن الفتح محنة تركتها تنزف، لأنها لم تنج لا من الرعب ولا من التدمير المادي والنهب، لقد دفعت افريقيا غالياً، ثمن مقاومتها بعد ان استسلمت لغالبها. وقد عاد «حسان بن النعمان» إلى المشرق بكميات من الذهب والأحجار الكريمة والخيول والعبيد، وهو ما أثار بعده طمع ابن نصير وجشع المروانيين الذين افرغوا افريقيا من ثرواتها اكثر، ومع ذلك، فان ما لحق بأفريقيا هو أقل مما لحق ببقية بلاد المغرب التي فرضت عليها شروط غاية في القسوة».
«إن عالماً ما لا يموت من دون ألم»
لا عبرة في هذا النص. فقط للتأمل. حسان الفاتح، كان مشروعاً سياسياً لا دين له وفيه. لا قيم ولا أخلاق. زحف وفتح ومذابح. ماذا يحصل في سوريا؟ فقط للتأمل. الدين، تم تسييله وتسليعه وتسليحه، في أبشع النهايات. لا علاقة بين النص والنفس. النفوس البشرية تحول الآيات إلى آلات، كما حول الاسكندر الكبير معقولات أرسطو إلى فتوحات ومجازر.
إننا أمام عالم عربي ينهار.
لا دليل البتة على أن من هذا الركام، سيبقى هيكل صالح لدولة، او دول او مجتمعات.
«إن عالمنا يموت بألم… وبلا رجاء».

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى