سعد الدين شاهين: رواية “اخناتون ونفرتيتي الكنعانية” لصبحي فحماوي.. قصة حب مذهلة تنتهي بمأساة مروِّعة

 

ليس مهما أن يكون العمل الروائي واقعيا او تاريخا متسلسلا بأحداث ومواقع وسنوات والا لأصبح درسا في التاريخ، وأبعد ما يكون عن الابداع الذي يتصف به السرد الروائي بكافة تقنياته ونسج أحداث ورسم العلاقات بين شخصياته المفترضة..

وحين تقرأ عنوان الرواية لأول وهلة، يتبادر الى ذهنك ان ساردها سيبحث في التاريخ والمثيولوجيا التاريخية ونبش القبور والحفريات كون بعض شخصياتها ما زالوا بأسمائهم الحقيقية، رغم الخيال الذي نسجه حولهم الروائي صبحي فحماوي بجدارة السينمائي، الذي يبتدع الأدوار ويحسن توزيعها واخراجها إلى حيز الوجود، رغم ما يملك من مقدرة على صنع الجمال اثناء الوصف.. ولا استغرب ذلك وهو مهندس الحدائق الذي يتقن ابراز الجمال وترتيبه

يبدأ صبحي فحماوي روايته بأقوال ذهبت مثلا، قبل ان يدخل الى الاهداء ” الى عاشقيّ معركة مجدو” ومجدو هذه مدينة ” أو مملكة ” كنعانية تاريخية في شمال فلسطين او تل مجدو.. ميزتها الحضارة الكنعانية بأبنيتها وقلاعها وقصورها الحجرية ومصانعها المتنوعة؛ من الاقمشة إلى الملابس، ومزارعها المنتشرة في المثلث الفلسطيني بين حيفا ويافا وجينين حالياً.. ولكن التصوير كان قبل ثلاثة الاف وخمسمائة سنة قبل الميلاد..تقع في موقع استراتيجي حيث تتحكم في الطرق على مداخل سوريا ومصر .. لست ادري رغم قراءتي للرواية ونمحيصي حول سبب الاهداء تحديدا الى محبيّ معركة مجدو ..تلك المعركة الغابرة وتحديدا تحتمس الثالث وهزم تحالف المملك الكنعانية من السوريين والفلسطينيين بقيادة ملك مجدو وملك قادش بعد حصار للمدينة دام سبعة اشهر إذ انتصر فيها المصريون..والتي سبقت هذه المعركة الأخناتونية النيفرتيتية، المرتبطة بقصة حب مذهلة بين أميرة مجدو، وأمير الفراعنة ..ليجيب على سؤالي حول الاهداء لماذا عاشقيّ معركة مجدو وليس الى عاشقي مجدو بذاتها..إذ عرفت بعد الانتهاء من قراءتها، أن الإهداء كان لعاشقين، لم يسجل التاريخ عشقاً مشرِّفاً مثل هذا العشق الذي أوقف معارك طاحنة لو نشبت لمات فيها الآلاف..شرد مئات الآلاف أو يتموا أو دمرت بيوتهم ومجتمعاتهم..فكان الحب بين الحبيبين؛ الشامية الفلسطينية إلهام، والمصري أمنحتب الرابع..قائد المعركة الفرعوني.

يستعمل صبحي فحماوي تقنية الخيال العلمي في السفر عبر الزمن حيث يسافر عودا بعجلة الزمن الى الوراء، عبر رحلته، بمنظارره الصيني، الذي عرضه عليه علماء الصين الذين يفرضون حضارتهم الحالية على العالم كله، وهنا كأنهم يريدون أن يءوضحوا للعالم، أن منظار اتلزمن هذا متطور ملايين المرات عن منظار هابل الغربي، أو غيره من المناظير الغربية المعمول بها حالياً..قد تكون مسألة دعاية لتطور الصين التكنولوجي في عصر سباق الزمن بين الشرق والغرب..فاستخدم الروائي فحماوي هذا المنظار، ليرسم لوحة شعرية رومانسية مرمزة.. تنتهي قصتهما التراجيدية بغزال ظمآن يقترب من الماء ليصبح بين فكي تمساح شرس.

لعل فحماوي ، من خلال ما رآه بالمنظار، كان اسقاطا على واقع حقبة الحكم الفرعوني للكنعانيين.. فشبه الفرعونيين بالتمساح، والكنعانيين الوادعين في ممالكهم بالغزال الآمن على جدول الماء.. ليسرقنا الكاتب الى تاريخ معاناة مجدو وشعبها الكنعاني مبتدئا بعصر الفرعون امنتتحب الثالث، والد أخناتون.

يصور الكاتب صبحي فحماوي فيلما سينمائيا لواقع متخيل لمدينة طيبة سابقاً ” الأقصر حالياً ” بصفتها مركز إمبراطورية امنحتب الثالث، ويصور عبر منظاره مشهدا وافيا لأناس يستعدون لمعركة حاسمة، ويعدّون لها كل ما يستطيعون من أسباب القوة.. لينتقل بمنظاره الى رحلة الصيد التي يصحبها امنحتب الثالث في البراري الشاسعة، وما يصاحبها من مشاهد لاهية، متقمصا أسلوب رسالة الغفران لأبي العلاء المعري وما تلاها من الكوميديا الالهية لدانتي للدخول الى عوالم فلسطين الكنعانية التاريخية بكل تفاصيلها مع أنه استخدم هنا منظارا سحريا صينيا يقوده الى الوراء عبر الزمن وفي الحالتين خيال مستشرف..

يسهب الكاتب في وصف جمال بلدان فلسطين التاريخية بطريقة غير مباشرة من باب “الحديث ذو شجون” ويرسم لنا لوحات مشوقة أثناء السرد ماراً بأسماء الأشجار والنباتات والأزهار المحلية وأنواعها وخصائصها، وحتى عودة الى اصول تسمية المدن الفلسطينية الكنعانية خليل و( ال) يعني في مفهوم الكنعانيين؛ خليل الله، و مجدل تعني مجد الله .. ثم يلجأ الى طريقة المصرييين في استغلال أبناء الكنعانيين وتوظيفهم لتنفيذ أهداف المستعمر الفرعوني، ليكونوا جباة ضرائب لهم.. وحسب مخيلته يقوم الكاتب بتوزيع أدوار ممالك فلسطين، وصلتهم بالفرعون، اذ يجعل لكل ملك طريقته الخاصة في كيفية التحايل، للتعامل معهم كمحتلين، وبما يستغلونه من موارد كل مملكة حيث لكل مملكة مواردها الخاصة التي تميزها عن الأخرى فكما لبئر السبع القصدير والنحاس فلمملكة الخليل العنب والخمور..وهكذا..

يسرد لنا االكاتب بأسوب اخاذ قصة حب بين الهام ابنة رفائيل ملك مملكة مجدو التي اصبحت من اقطاعيات الفرعون وبين ولي عهد مصر الأمير امنحتب الرابع ابن الفرعون االمصري الذي اصبح اسمه اخناتون فيما بعد، اثر لقاء الاميرين على هامش زيارة يطلب فيها رفائيل، ملك مجدو من الفرعون المحتل امنحتب الثالث ان يخفف الضرائب والضغوطات الاستعبادية عن شعبه الكنعاني ..ويتم خلال هذه الزيارة التقاء الاميرين، الهام ابنة رفائيل، وأمنحتب ابن إمبراطور مصر.. ووقوعهما في شباك الاستلطاف ومن ثم الحب، الذي يتلوه ترقق قلب الأمير، وهي تسأله لماذا هذه القسوة من الفراعنة على الكنعانيين الفلسطينين بابتزازهم واستغلال طاقاتهم لتلك الدرجة.. وهنا تتجلى الاشارة من السارد بطريقة غير مباشرة الى دور المرأة الفلسطينية والشامية الكنعانية عامة، منذ القدم، في الحل والربط، حين تطلب من والدها ملك مجدو ان يعنى هو بالتدريبات العسكرية، وشئون الحرب، وتعنى هي بالتفاوض والحلول الإنسانية (ص51 )

وما زال السارد في جولته عبر الزمن يُنَقِّلُ منظاره السحري، الذي يرسم من خلاله مشاهد الرواية وشخوصها ويتابع تأملات الامير الشاب امنحتب من على شرفات قصر طيبة، على النيل العظيم، ويتغلغل في افكاره، ويوجهها كما يحلو له كناسج للرواية، مثيرا في دواخله تساؤلات جوهرية حول الالهة والكهنة والقرابين وجمع المال والاله امون وجدواه وبقية الالهة التي نقدم لها كل شيء، ولا تقدم رغيف خبز لجائع.. ولا أدري هل قصد الروائي صبحي فحماوي اسقاط واقع الممالك ال 27 الكنعانية على واقعنا العربي الحالي بدويلاته العربية المتفرقة، والتي لا جامع لها الان، بينما استطاع روفائيل ملك مجدو توحيد الممالك الكنعانية، ليقاوم بها الفراعنة وحكمهم، والتمرد على وكلائهم العملاء في المحميات، مثل وكيله عبدي حيبا، حتى وهو يعرج على بعض اشكال الفساد الدارجة في المجتمع انذاك وكأنه يُحدثنا عن الحاضر، فيفضح فساد الفرعون وفساد الملكة أم أخناتون، وفساد الكهنة ، وكيف ان كل سلطة من هذه السلطات ترتكز وتختبئ او تحتمي في ظلها، ليرسم الحلول لكل هذا الفساد من خلال رؤية امنحتب الرابع، ولي العهد الذي يستبشر الخير والصلاح والسلام ورعاية الفقراء والمحتاجين ونبذ الحروب واشاعة السلم دائما.

يدير الروائي صبحي فحماوي الحوار بين شخصيات روايته بحرفية عالية وهو يسقط مشاكل العصر على الماضي في الحقبة الفرعونية، فيتخيل القارئ انه يتحدث عن العصر الحالي، وربما يكون هذا احد مقاصد الرواية، فيخلق تماثلا في قضايا المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والاخلاقية، لدرجة ان القارئ يظن انه يقرأ عن احداث تدور الساعة.. ففي ص 100 مثلا يشير الى ان الحكام يفتعلون حروبا جانبية غالبا، ليتاح لهم كسب المعنويات، وتثبيت حكمهم من خلالها.. وفي احيان كثيرة يلجأ الى حوار ومنولوج داخلي، يفسر به بعض الحالات لما شاهده من خلال منظاره الذي يكشف كل احداث الرواية، والذي جعل منه بطلا رئيسيا وخفيا في روايته.. ففي ص 117 يشرح للقارئ حول اثر هرمون التستستيرون، والفرق بين ما هو عند الرجل وما هو عند المرأة اثناء التحرش، وفي موقع اخر يقول حول البغاء المقدس الذي كان دارجاً في تلك الأيام، ان ذلك محرم في ديننا في العصر الحالي.. سلوك لا أؤيده انا المستغرب لما أرى، مع ان الكاتب ممكن التغاضي عن مثل هذه التفسيرات التي تنحى بالعمل الروائي المتخيل الى الحقائق العلمية، وهذا غير محبذ خاصة انه يفسر حاجة الجنود في الحروب الى نساء بعد غيابهم عن زوجاتهم.. وهذا امر طبيعي في سائر البشر.. كما لا ينسى الربط والإسقاط على حالة انقسام الممالك الكنعانية الى دويلات ضعيفة.. هذا التفرق بين الممالك الكنعانية التي كانت سائدة بينها جعل كل مملكة تستقوي بالاعداءعلى مملكة اخرى، لنُهزم معا، ونصبح تحت حكم فرعوني.. وهذا الاسقاط ايضا اراه من مقاصد الراوي الخفية على حاضرنا الحالي، كما انه لا يفتأ يسترسل بما يريه إياه منظاره السحري عبر الزمن في وصف الاماكن والقصور الملكية وحتى جمال الوصيفات وسلوكات العاملين في قصور الفرعون وما يجري في داخلها من أدق الأسرار .

يصف الراوي استعدادات الجيش الفرعوني لاخضاع الممالك الكنعانية عند وصوله المرتقب إلى سهول مجدو، وكيفية تجهيز السفن التي تنقل المحاربين الفراعنة الأشاوس المدربين على فنون القتال والحرب بقيادة قائد الجيوش محب، والقائد الأعلى، الأمير الفرعوني، ولي العهد، الذي يعمل الجميع في هذه الحملة تحت امرته والذي لا يحب الحرب وسفك الدماء، ويميل الى الشعر والتأمل، ويجنح الى السلام ومساعدة الفقراء والمساكين، في حين ان والده الفرعون أمنحتب الثالث يترك تسيير أمور المملكة او الامبراطورية كما يسميها الراوي الى زوجته الملكة تيي ذات الاصول الكنعانية، ايضا لينشغل هو بالصيد واللهو والنساء بعيدا عن الكرنك مقر حكمه..

ويصف الراوي لحظة وصول الجيوش عبر البحر الكنعاني الى السواحل القريبة لمجدو لإخضاع التمرد في الممالك الكنعانية على حكم الفرعون في مصر والتي تتقدم براً، لتقابل جموع جيوش الممالك الكنعانية المتمترسة في ربوع المكان، استعدادا للمجابهة، بقيادة روفائيل ملك مملكة مجدو..

وكعادة الجيوش يتقدم القائدان لوضع حيثيات بدء المعركة، وتكون المفاجأة بتقدم الاميرة الكنعانية الهام ابنة القائد الكنعاني من طرف، ومن الطرف الاخر يتقدم الأمير ولي العهد الفرعوني امنحتب ، ليتغير مجرى التحضير، من حديث الحرب وأصولها الى أحاديث السلام والمحبة والانسانية وحفظ الحقوق بين الممالك الكنعانية وبين إخوانهم في الإمبراطورية الفرعونية..لتكون النتيجة أن تقام الولائم التي تسفر في اليوم التالي الى إعلان طلب ولي العهد الى يد الأميرة الكنعانية الهام التي اعجب بحنكتها، ودخلت نياط قلبه منذ لقائه به قبل ثلاث سنوات مضت في بحيرة الشط الخليلية، وذلك عند زيارتها مرافقة لوالدها، الذي جاء يطلب من الفرعون ان يخفف الضغوطات والضرائب عن شعبه الكنعاني، الذي بدأ يضج ويتململ، ويطالب بالخلاص ويهدد بالثورة ، ليعود الملك الكنعاني من هذا اللقاء الذي جرى في قصر الفرعون في ربوع الخليل الفاتنة والمحتلة ، دون ان يحدث اي تقدم تلبية لمطالبه..

وتاليا يحصل الزواج الملكي، بعد ان يعود ولي العهد ويجد ان والده الملك قد توفي، ليصبح هو الملك المتوج، رغم أنه لم يحصل على رضى الكهنة، نتيجة تغييره لالههم امون واستبداله بالاله اتون اله الشمس، بصفتها هي التي تمنح الحياة والموت، ويختار لزوجته اسما جديدا هو نفرتيتي أي الجميلة اتت ويختار لنفسه اسم اخناتون اي روح الشمس الاله.. مما يحدث عاصفة من احتجاج الكهنة، ومن مهادنة الملكة الوالدة، الا ان نفرتيتي بحكمتها في امتصاص هذا الغضب، تشير للقيام بحملة اعلامية مدفوعة الاجر، لتغيير نظرة الناس نحو الفرعون الجديد، وملكته الجديدة، وتستمر السعادة بين اخناتون ونفرتيتي مع استمرار مكائد الأقارب، مثل اختها موت نجمت وقائد الجيش حور محب وخال نفرتيتي آي، بصفته رأس الدسائس والأحابيل، وكبير الكهنة ارميتاج الذي لم يتوقف لحظة عن رفضه للدين الجديد الذي اتى به اخناتون، فبقي يحيك الدسائس للاطاحة به، ولا يدري هذا الملك الشاعر أخناتون، المتأمل المحب للخير والسلام، من اي اتجاه سيلجم هذا التيار الانقلابي الشرير التآمري العنيف عليه، وعلى مملكته، وعلى حبيبته الملكة الكنعانية نفرتيتي.. فهذه اختها موت نجمت تنتهز فرصة غياب نفرتيتي عن القصر لتنام في سريرها مع قائد الجيش حور محب بهدف الزواج الذي تم معه، لتحبك المؤامرة وتحتل مكانة مرموقة في القصر وسدة الحكم، وهذا ارميتاج كبير الكهنة يحاول ايغال صدر الأم على ابنها.. وعندما لم يفلح يطلب لقاء اخيه الاصغر سمنخ كارع فيمنيه بالحكم لنصف الامبراطورية اولا ، ثم بالحكم الكامل ثانيا، ووسط كل ذلك تموت ابنة نفرتيتي ويتزوج أخناتون من ابنته الكبرى ميريت، فتصاب نفرتيتي بلوثة دماغية، وتغادر القصر بملابس عادية كأي مواطنة وتختفي من الحياة..ثم تقوم الثورة على اخناتون ويستلم الحكم اخوه الاصغر سمنخ كارع، بارادة الكهنة والجيش وبهذه النهاية المأساوية يموت الملك اخناتون الشاب عن عمر لم يتجاوز الثلاثين عاما في حين التاريخ يروى انه قُتل في ثورة انقلابية عليه.

في الختام لقد ابدع الروائي صبحي فحماوي في نسيجه ولملمة خيوط الرواية كما يريد. ولكنني ايضا كقارئ يحق لي ان اتساءل عن مدى ملامستها لحياة ذلك الملك ومعشوقته نفرتيتي التي اختلف حولها الرواة، ومدى واقعية احداث معركة مجدو المذكورة، بين الكنعانيين والفراعنة في مصر، كما تقول الرواية.

 

 

صحيفة رأي اليوم الالكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى