سندويشة الجبنة ومتحف “باردو”

تونس متحف “باردو ” ساعة كسوف الشمس وفي ذكرى الاستقلال …أي بعد يومين من “غزوة” الغربان والتتار الجدد …

هاهي آلهة الفينيقيين والقرطاجيين والنوميديين والرومان وغيرهم تتنفّس الصعداء وتستريح بعد صبيحة ذلك اليوم المعفّر بغبار الحقد .

هاهم التونسيون المفجوعون ومعهم ضيوفهم وأطفالهم يشعلون الشموع ويضعون أكاليل الزهور على بقع الدماء الطريّة المتخثّرة وقد أخذت مكانها على لوحات الفسيفساء ومخطوطات الأجداد وخوذات القادة الأبطال كشاهد من التاريخ على من جاء لاغتيال التاريخ في عقر داره .

أنتبذت ركناً قصيّاً في هذا الفضاء الزمني تحت ظلّ الآلهة القرطاجية المرضع “تانيت” ورحت أتجوّل شاخصا بنظري مثل كاهن قرطاجي عشية قدوم الرومان …..

هنا يتجاور متخاصمو الأمس من رجالات التاريخ غزاة ومدافعين، لا يغادرون أجنحتهم إلاّ لترميمهم وإطالة أعمارهم، يعلنون السلام والهدنة الأبديّة …بينما تستمر المعارك باسمهم خارج هذا السور الذي قفز منه القتلة الملثّمون بالعار في تلك الصبيحة الحمراء الموجعة …..

هنا وفي هذا القصر المنيف الذي مازالت تسكنه أشباح الأسر الحاكمة منذ عصور الأمراء الحفصيين ومن بعدهم البايات العثمانيين وقّعت اتفاقية “عهد الأمان” الشهيرة لحماية الأعراق والديانات، وكذلك معاهدات مذلّة ومهينة لم يبق منها غير حبرها الباهت …كما يضم المتحف وثيقة قرطاج ذائعة الصيت التي عرفت أنزه ديمقراطية في العالم القديم وقد تحدّث عنها وأشاد بها أرسطو في كتابه .

الآن وهنا وبين هذه الأعمدة التي تضمّد جراحها وتعتذر لأصدقاء تونس عمّا فعل السفهاء منّا مشيت واثق الخطوة وأنا تلميذ صغير في أوّل زيارة مدرسية، هنا التقطت لي السائحة العجوز صورة وأنا آكل سندويشة الجبنة والزيتون في الحديقة تحت هذه الشجرة المسنّة بعد أن تسلّلت من المجموعة وتركتهم ينصتون للمعلّم وهو يشرح ويتحدّث بحماسة كبيرة ….

هنا تعرّفت إلى صبيّة تتحدّث باللغة الأمازيغيّة قادمة في رحلة مدرسية أخرى من جنوب البلاد وأهدتني جرّة صغيرة ملوّنة بالأخضر والأصفر …وهنا لمحت في الجهة المقابلة اثنين من الحرس الشرفي واقفين كصنمين أمام مبنى البرلمان الذي يمثّل امتداداً لأرض المتحف .

تقطع شرودي في كل مرّة نشرات الأخبار التي تعرض كلمات الاستنكار والتنديد والمساندة من شخصيات وهيئات دوليّة فأستحضر الجدارية الفسيفسائية العملاقة التي أهدتها تونس إلى مجلس الأمن ومازالت تزيّن قاعة اجتماعاته فيتزاحم إلى ذهني ألف سؤال وسؤال .

يتقاطر على مبنى المتحف زائرون لم تطأ أقدامهم هذا المكان من قبل، هل وحّدتنا هذه الضربة التي كادت أن تقصم ظهرنا أم أنّ الأمر أشبه بموكب عزاء سرعان ما يزول شكله الخاشع بعد أداء الواجب ؟

لم يفقد التونسيون حسّ النكتة في المواجع حين همس أحدهم قائلاً ” من أستار الله أنّنا لسنا من الشعوب التي تدمن زيارة المتاحف وإلاّ لكانت الحصيلة أفظع بكثير ” …وتذكّرت المكتبات التي لم تنهب مثل بقية المحلات في فوضى الأحداث التي أعقبت 14 يناير فابتسمت بمرارة وجاء ابني ليوقظني من شرودي وهو يطالب بشراء المزيد من الشموع لإشعالها ظنّاً منه أنّ الأمر مجرّد لعبة مسلّية …فاشتريت له سندويشة جبنة وزيتون، أكلها تحت الشجرة المسنّة ومضينا في الزحام مرفوعي الهامة رغم كلّ شيئ .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى