سوريا التي نريدها: دولة ديموقراطية وعادلة (ميشيل كيلو)

 

ميشيل كيلو

لن تكون سوريا التي نريدها دولة فوضى وتسيب، دولة كل من يده له، بل ستكون على قدر من التنظيم يماثل في حداثته وتطوره ما هو قائم في البلدان المتقدمة. إنها ستكون دولة منتجة، تستثمر ثرواتها ومواردها بعقلانية وحرص، وتفيد إلى أقصى حد ممكن من عمل مواطناتها ومواطنيها، فتعطيهم مقابله حقوقا اقتصادية واجتماعية متساوية، وتقدم لهم خدمات وافية، مفتوحة الفرص من تعليم وسكن وصحة وشغل، وتتيح لهم الحصول على ما يريدونه من فرص تقدم شخصي وعام، ومن معارف لا يستطيع أن يقدمها لهم غير مجتمع تواصلي يتكاملون ويتفاعلون في إطاره بطرق حرة، مبدعة وخلاقة، يرى في عملهم مصدر ثروته الرئيس، فلا يسمح ببطالتهم أو بافتقارهم إلى قدر من الدخل يحولهم إلى منتجين ومستهلكين ومدخرين في آن معا، يحرر قدراتهم على العمل والملكية ضمن أنماط مدروسة ومراقبة من توزيع الدخل، تقلص فوارقه إلى الحدود التي ينتفي معها الظلم الاجتماعي، فلا يبقى المجتمع مشطورا إلى طبقة هائلة العدد، فقيرة أو معوزة، وطبقة قليلة من المميزين يتعاظم بلا انقطاع الفارق بينها وبين بقية الشعب، تلم ثرواتها الطائلة دون أن تعمل، وتستمتع بحياة تحرم الأغلبية الساحقة منها، تعيش في قصور بينما يعيشون هم في منازل تزداد تواضعا أو في العراء في حالات كثيرة، بينما تأكل ما لا يأكلون، وتلبس ما لا يلبسون، وترداد أماكن يحرم عليهم الاقتراب منها … الخ.
ستعيد سوريا الحرة الاعتبار لفكرة أن العمل يجب أن يكون مصدر دخل كاف وعيش كريم، وأن الإنسان لا يجوز أن يكون عاطلا عن العمل، وأن الثروة يجب أن تكون نتاج الجهد المنتج والتفكير الابتكاري والتراكم والادخار، وأن توضع في خدمة الجماعة الوطنية، مع احترام حق مالكيها فيها، ولا يجوز أن تترتب على السرقة والتهريب والفساد ووضع اليد بقوة السلطة أو السلبطة على ارزاق وعمل الآخرين، أو نهب الدولة والمجتمع والاستئثار بثرواتهما والتصرف فيها وكأنهما ملكية خاصة، وأن المواطن يجب أن يتمتع بجميع الخدمات التي تحسن حياته وتحفظ كرامته كالتأمين على الحياة والرعاية الصحيه والحصول على عون مادي يساعده على استئجار او شراء مسكن وإنشاء أسرة وتربية أطفال، ويجب أن يعامل باحترام ورعاية بعد بلوغه سن التقاعد، فلا يتعرض للترك اجتماعيا، أو للحرمان من حقوق كانت له خلال الفترة التي أمضاها في العمل، وأسهم خلالها في زيادة الثروة الوطنية، واشتغل لتحسين حياته وحياة جماعته الوطنية. ستولي سوريا الحرة رعاية مكثفة للأجيال الجديدة، وستفتح أمامها أبواب التقدم الشخصي والعام، المعرفي والمجتمعي والسياسي والثقافي، وستمكنها من استثمار طاقاتها وقدراتها إلى أقصى الحدود،وستوفر لها فرص الدراسة في شروط ملائمة، وتتكفل بتأمين فرص الشغل لها حين ترغب في العمل، بينما سترى في كل من يبلغ الثامنة عشرة من العمر شخصا مستقلا قانونيا، له ما لغيره من حقوق وواجبات، تحظى خياراته بكل ما يلزم القانون الدولة ومؤسساتها به من رعاية واحترام.
لا داعي للقول: إن المرأة ستكون مساوية في هذا كله للرجل، وانها ستكون سيدة قرارها ومصيرها، حرة قدر ما هو حر، متعلمة مثلما هو متعلم، وعاملة على غرار ما هو عامل، ومالكة مثله، ومتمتعة بحماية القانون باعتبارها مواطنة تتعين هويتها هي ايضا بحريتها، فلا بد أن تحدد شؤونها الخاصة وتتحكم بمصيرها، وأن تتصرف بما تملك، وتتمتع بالخدمات التي تتيح لها الاستقلالية والكرامة والمساواة التامة مع غيرها: ذكرا كان أم انثى.
لن تحقق سوريا هذا بضربة واحدة. لكنها ستجعل منه هاديا يوجه سياساتها وخياراتها وسلوكها كمجتمع وكدولة ،وسترسم في ضوئه خطواتها العملية، فلا تحيد عنها أو تتراخى في تطبيقها، بعد أن تكون قد رسمت لنفسها سياسة اقتصادية عقلانية تغطي عموم الاقتصاد وكل قطاع منه، فلا تبدد ثروة مهما كانت صغيرة، ولا تضيع فرصة تقدم ونماء مهما بدت قليلة الأهمية، ولا تفرط بما تملك، أو تتجاهل فرصة، بل تعرف كيف توطن نفسها في مكان ملائم داخل تقسيم العمل العربي والدولي، وكيف توسع موقعها فيه، انطلاقا مما تملكه من ثروات بشرية وطبيعية، ومن طاقة عمل ومهارة وخبرة في مختلف مناحي الإدارة والتخطيط الإرشادي والتوجيهي، ومن قدرة على عقلنة إنفاقها، وتعظيم عوائد عمل مواطنيها، وتطوير تتركز أولوياته على زراعتها وصناعاتها التحويلية والزراعية، واستثمار لقدراتها السياحية والعبورية، ولمواهب أجيالها الصاعدة في مجالات المعلوماتية والخدمات والصناعات الالكترونية، وفق ما تحدده لجان خبراء موصوفين يرسمون استراتيجيات تنمية مدروسة لها، تغطي الحاضر والمستقبل. لن تترك سوريا شيئا من إنتاجها واستهلاكها وادخارها للمصادفة أو للعشوائية والفوضى .
لن تتخلى سوريا عن دورها في المجال القومي والإقليمي، وستقيم أحسن علاقات حسن جوار وتعاون مع جيرانها الأقربين والأبعدين. ولن تعمل خارج أطر الشرعية المحكومة بتعاون ثنائي ومتعدد الجوانب مع بقية العرب، تنظمه اتفاقيات ومعاهدات رسمية يقرها برلمانها، من الضروري بمكان أن تؤسس وحدة مصالح تستند إلى أعلى اشكال التكامل والتفاعل، وتبني مشتركات تتسع إلى أن تصير ساحة يتم انطلاقا منها إنتاج واقع جديد يعرف نفسه بمصالح جديدة تتناسب وطبيعتها كساحة تشمل كل شيء، بما في ذلك المجال السياسي، دون أن يعني ذلك اختفاء الدول الراهنة، مع أن وظيفة هذا المجال ستتغير ما دامت وظيفة التي تحمله والمعبرة عنه لن تبقى على حالها، وإنما ستتركز على تعميق وتعزيز فاعلية أدوات وقوى سياسة غدت الموجه الأعلى لتقارب وتفاعل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعسكرية والأمنية و… الخ،
ستقبل هيئات مختلطة تتكون من قادة وخبراء وساسة وتقنيين من البلدان العربية المختلفة، التي لن تفقد استقلالها، كما سبق القول، رغم أنه سيشهد إعادة تعريف وقراءة تطاول مفرداته الوطنية والقومية. ستعمل سوريا على إقامة ساحات عربية مشتركة مختلفة الاختصاصات، يؤدي توسعها التدريجي المدروس إلى أن ترى كل دولة مصلحتها فيها، وتعمل على تطويرها وتحويلها إلى رافعة وجودها، التي ترى كل شيء بدلالتها. ذلك سيكون البديل الذي ستطرحه سوريا للتصور الوحدوي الذي طرحه الاستبداد، وأدى إلى الإمعان في تمزيق العرب بدل توحيدهم، بلغ وسوغ نشوب الحروب بينهم وتدمير المقومات والعلاقات الطبيعية، التي أورثهم إياها التاريخ.
لن تقاطع سوريا إقليمها أو تعاديه، بل ستعيد له وظائفه التاريخية كإطار تواصلي بين العرب والمسلمين، وستعمل على إخراج علاقاتها مع إيران من راهنها الأمني الصرف إلى طابعها الإنساني / الثقافي / الديني / الاقتصادي والسياسي، كما ستنفتح على تركيا كجارة وشقيقه، مع مراعاة المصالح الخاصة بكل من الدولتين، وعدم الانخراط في صراعات أية دولة إقليمية مع بقية العالم، لأن سوريا ستقيم أفضل العلاقات مع الجميع، عدا إسرائيل، التي ستبقى مصدر الخطر الرئيس على الديموقراطية وسوريا الجديدة، ليس فقط لأنها تحتل أرضها، وإنما لأنها تواصل كذلك احتلال فلسطين والاعتداء على حياة وحقوق شعبها.
لن تخاصم سوريا روسيا لأنها تساند اليوم حرب النظام الاستبدادي ضد شعبها،ولن تعادي أميركا لأنها تتفرج على مأساة مواطناتها وموطنيها، ولن تقطع ما أقامه التاريخ من أواصر مع أوروبا، جارتها على الجانب الآخر من المتوسط، ولن تتراجع عن صداقتها مع الصين، التي لا تشعر بما يتعرض له شعبها المظلوم. إنها ستكون صديقة الجميع، انطلاقا من مصلحتها الكبيرة في الالتزام بالقيم والمثل العليا، التي ستعمل وسعها كي تنهض الحياة والعلاقات والمصالح الدولية عليها ،فلا تتكرر مأساتها عند أي شعب آخر، ولا يستمتع العالم بمراقبة موته دون اكتراث.
هذه هي سوريا الجديدة، سوريا التي نحلم بها، فهل يتحقق حلمنا وتصير ما نريد لها أن تكونه؟. ذلك هو السؤال المهم، الذي ستتعين الإجابة عليه بإرادة شعبها المضحي النبيل، الذي سيهزم اليوم واحدا من اعتى نظم الاستبداد التي عرفها التاريخ، ولن يقصر بحق نفسه ووطنه، ولن تهزمه الصعوبات الكثيرة التي سيجدها أمامه، وسينتصر عليها مهما تطلب الانتصار من صبر وصراع مع إرث الاستبداد، الذي سيبقى حيا وفاعلا لسنوات عديدة قادمة!

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى