
لقد تشظّى المجتمع السوري بشكل غير مسبوق، وتعالت النعرات والثارات الطائفية التي تجلّت على الأرض من خلال أكثر من معركة داخلية ارتقت إلى مستوى “المجزرة” في غير مكان من الخريطة السورية.
قد يبدو الانقسام الشعبي حول العديد من الملفات الأساسية والمهمة في سوريا، منطقيًّا، بعد حرب طاحنة استمرت لـ 14/ عامًا، لكنّ الأيام والأحداث المتلاحقة تكشف تباعًا وبسرعة كبيرة، بأنّ الأمر أبعد ما يكون عن الانقسام السياسي العادي والمتوقّع في مثل هذه الظروف.
وقد أفسحت الذكرى الأولى لسقوط النظام السابق عن تلك المساحات التي تفصل بين مكونات المجتمع، والتي تأخذ في التوسع أكثر، حتى باتت أشبه بالخنادق التي تُقام خلفها الجدران والمتاريس، والكثير الكثير من الخوف والقلق والتربّص والحذر، مع وجود قاعدة واحدة تجمع بين هؤلاء، وهي اقتناع الغالبية العظمى منهم، بأن مصيرهم ومصير بلادهم بات في أيدي القوى الخارجية التي تتباين أجنداتها في العديد من الملفات الخاصة بالبلاد والمنطقة عمومًا، مع إدراكٍ عميق لشريحة واسعة من هؤلاء، على اختلافهم وخلافاتهم، بأنّ سلامة المجتمع وأمنه، وسيادة الدولة ووحدة أراضيها، هي آخر ما تعتني به تلك الأجندات أو تحسب له حسابًا، بل على العكس تمامًا، يدرك غالبية السوريين، بأنّ تلك المشاريع أتت وستأتي على حساب كل ما ذُكر.
لكنّ الطامة الكبرى لا تتوقف عند هذا الحد، بل المصيبة أنّ الأحداث المدفوعة والممنهجة والمرسومة بعناية فائقة، والتي ولّدت تلك الانقسامات في المجتمع وأوصلتها إلى هنا، جعلت العديد من الشرائح والمكونات الإجتماعية، تتجاوز أمر السيادة ووحدة التراب و”الثوابت الوطنية”، ليصبح الهمّ الأوحد، بل الغاية الكبرى، هي الأمن والسلامة وتأمين متطلبات المعيشة. ولعلّ هذا هو أهمّ الأهداف التي سعى العديد من القوى الخارجية التي تدخلت في الأزمة ثم الحرب في سوريا، لتحقيقها من الأساس.
لقد تشظّى المجتمع السوري بشكل غير مسبوق، وتعالت النعرات والثارات الطائفية التي تجلّت على الأرض من خلال أكثر من معركة داخلية ارتقت إلى مستوى “المجزرة” في غير مكان من الخريطة السورية.
وأصبحت الشعارات والهتافات الطائفية التي بلغت أحيانًا حدّ الدعوة إلى “الإبادة” لهذا المكوّن الإجتماعي أو ذاك، حدثًا طبيعيًّا وعابرًا، كما عادت نداءات “الفزعات” القبليّة إلى الظهور، وسط غياب أي حراك سياسي اجتماعي وطني جامع. وبين صرخات الثأر والخوف، استجدّ حديثٌ آخر غير مسبوق بدوره بين السوريين، وهو المطالبة بتقسيم البلاد إلى كانتونات ودويلات بسبب “استحالة التعايش”، كما يُعبّر أبناء بعض المكونات السورية التي تتحسّس خطرًا كبيرًا على وجودها.
والحال كذلك، تبدو “إسرائيل” أكبر المستفيدين من الخلاصات الحالية للوضع الاجتماعي في الداخل السوري، فقد أسهم هذا الانقسام الحادّ والنزعات الطائفيّة والخوف الوجودي لدى بعض الشرائح، في تراجع الحسّ الوطني داخل المجتمع، وخفوت الدعوات إلى تحرير الأراضي المحتلة ومواجهة عدوان وأطماع كيان الاحتلال الواضحة. وكذلك أسهم الإعلام الخارجيّ الموجّه، والجهود الدعائية الإسرائيلية المكثفّة، في خلق “قضايا” جديدة، تبدو مُلحّة ومصيرية وذات أولوية قصوى، لدى السوريين، من خلال العمل على تفتيتهم وشق صفوفهم وتحريض بعضهم على بعض، وذلك لإبعادهم عن قضيتهم المركزية، فلسطين، وقضية التحرير من الاحتلال الإسرائيلي، ومن باقي الاحتلالات الحليفة للكيان والعاملة لمصلحته، التي تكتظ على الأراضي السورية.
وبعد 42 عاماً على حرب تشرين/ أكتوبر، والتي تلاها في أيار/ مايو 1974، اتفاق “فك الاشتباك” الذي فرضته القوى الدولية، والذي أفضى إلى رسم “خط الهدنة” الذي لم يتجاوزه جيش الإحتلال مطلقًا منذ ذلك الحين، بدأت قوات من الجيش” الإسرائيلي، وبالتزامن مع حدث سقوط النظام السابق وتداعياته المباشرة، بالتوغل البري داخل الأراضي السورية، لتحتلّ مواقع جديدة في مرتفعات “جبل الشيخ” وريف محافظة القنيطرة، في انتهاك واضح لكل القوانين والأعراف الدولية، وقد ادّعى قادة الكيان أن هدف العملية هو “منع وقوع أسلحة الجيش السوري في أيدي الإرهابيين”.
وفي الـ9 من كانون الأول/ ديسمبر من العام الفائت، حدّد وزير الحرب الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، أهدافًا عسكرية تتضمن السيطرة على كامل “المنطقة العازلة” والمواقع القريبة، وإقامة منطقة أمنية خلف المنطقة العازلة، تمتد إلى مناطق في أرياف القنيطرة ودرعا ومحافظة ريف دمشق. وبالتزامن، بدأت عملية عدوان واسعة النطاق شملت عشرات المواقع على امتداد الخريطة السورية، حيث شنت طائرات الاحتلال مئات الغارات في كل اتجاه، لتدمّر أكثر من 80 في المئة من الأسلحة الإستراتيجية السورية، وكذلك القوات الجوية السورية ووسائطها الدفاعية والهجومية، والأسطول البحري للجيش العربي السوري، بحيث باتت سوريا دولة “منزوعة السلاح” بالقوة.
وعلى الرغم من إعلان السلطة الجديدة في دمشق، استعدادها التام للتفاوض من أجل السلام، على أن يبدأ الأمر بإعادة الأراضي التي احتُلّت بعد سقوط النظام السابق، ثم الجلوس إلى طاولة المفاوضات، اعتبر قادة كيان الإحتلال، وفي مقدّمهم رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، أن أمامهم فرصة تاريخية بكل ما تعنيه الكلمة، للسيطرة على كل ما أمكن من الأراضي في العمق السوري، ووضع العاصمة دمشق ذاتها تحت الحصار العسكري، وبالتالي فرض إرادتهم على القرار السوري وإضعاف سوريا إلى وقت طويل مقبل.
وبالعودة إلى الوضع الإجتماعي، فقد لعبت أجهزة كيان الاحتلال على الانقسامات السورية، وعزّزتها بشكل فاضح من خلال تبنّي مظلومية بعض المكونات المستهدفة من المتطرّفين في الداخل السوري، بل الإعلان عن استعدادها لحمايتهم أيضًا، في ذات الوقت الذي كانت صواريخها تدك وتدمّر كل مكتسبات الشعب والدولة على امتداد الأرض السورية.
وفي صفاقةٍ معهودة، طالب رئيس وزراء الاحتلال بنزع السلاح في محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء، بينما كانت قوات جيشه تواصل التوغل وإقامة النقاط واعتقال السكان والتحقيق معهم، وتجريف الأراضي وقطع الغابات وصولًا إلى مناطق في ريف دمشق، لا تبعد سوى كيلومترات قليلة عن تخوم العاصمة السورية. وعلى الرغم من إعلان معظم الدول الغربية والإقليمية عن دعمها للنظام الجديد في سوريا، إلّا إن جميع المناشدات السورية للقوى الدولية والمنظمات الأممية لوضع حدّ للاعتداءات والأطماع الإسرائيلية، لم تُجدِ نفعًا.
لتأتي عملية “بيت جنّ” قبل أيام قليلة من نهاية الشهر الفائت، وتنبّه الرأي العام السوري إلى حدّ كبير، إلى مدى خطورة تلك الأطماع وتأثيرها على واقع ومستقبل سوريا. لتبدأ من جديد الدعوات الشعبية إلى مواجهة الاحتلال الإسرائيلي ومقاومته بكل السبل الممكنة، وضرورة الاتحاد الوطني على هذا المسار. وقد تجلّى الأمر بشكل أوضح من خلال الهتافات والشعارات التي رفعها مواطنون سوريون كثر، خلال احتفالهم قبل أيام بالذكرى الأولى لسقوط النظام السابق، والتي أكّدوا فيها ثوابتهم الوطنية الرافضة للاحتلال والداعية إلى مقاومته.
بعد سنة كاملة على سقوط النظام السابق، يحصي “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، أكثر من 11400 قتيل بين المدنيين السوريين على مدار العام الفائت. بينما تشير وقائع الميدان إلى وجود جبهات عسكرية داخلية وخطوط تماس جاهزة للاشتعال في أي لحظة، وخصوصًا في الشرق والجنوب، بينما ما يزال الوضع في الساحل السوري خطرًا جدًّا على مستوى الأمن الاجتماعي للمواطنين، وما تزال قوات الاحتلال الإسرائيلي تواصل اعتداءاتها وتوغلاتها اليومية داخل الأراضي السورية. بينما يعاني المواطن السوري من ضائقة معيشية خانقة بسبب ركود الاقتصاد وتوقف الأعمال وانعدام الاستثمارات الخارجية التي وُعِد بها السوريون على مدار الأشهر الماضية.
والواقع هنا، أن العقوبات على الدولة السورية ما تزال قائمة، بينما تُبذل جهود كبيرة لرفعها، وقد حققت تلك الجهود بالفعل، إنجازات متقدمة جدًّا على هذا المسار، خصوصًا لدى الاتحاد الأوروبي وفي داخل الكونغرس الأميركي، ولعلّ الأيام والأسابيع المقبلة تأتي بجديد إيجابيّ على هذا الصعيد، خصوصًا بعد اجتماعات الكونغرس الأخيرة قبل أيام، والتي نوقش فيها قانون الدفاع الوطني الأميركي، الذي يتضمن بين بنوده “قانون قيصر” المخصص لفرض العقوبات على سوريا، والذي من المفترض أن يستمر تعليقه لمدة ستة أشهر، تمهيدًا للإعلان عن رفعه بشكل كامل بعد تحقيق العديد من الشروط الأميركية المطلوبة من الدولة السورية خلال الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة.
الميادين نت



