
شكّل السقوط المفاجئ للنظام السوري في الثامن من كانون الأول من العام الماضي صدمة حقيقية للسوريين، إذ بدا الحدث غير متوقع تمامًا، وكان بمثابة منعطف مفصلي، رأى فيه كثيرون انطلاقة جديدة لبلاد أنهكها الاستبداد طيلة عقود.
وبعد أيام قليلة، بدأت ملامح التغيير تتبلور بشكل أوضح. ومع أن الحكم على هذه التغييرات — سواء بالإيجاب أو السلب — قد يكون متعذرًا في الوقت الراهن، نظرًا لحالة الغليان الشعبي والافتقار إلى الموضوعية نتيجة تراكمات الماضي الأليم، إلا أن من الضروري التوقف عند بعض الظواهر التي تُعطّل فهم المشهد الراهن بعمق. من هذه الظواهر: الطائفية، الجدل المتفجر على مواقع التواصل الاجتماعي، انتشار الشائعات نتيجة غياب مصادر موثوقة للمعلومة، إضافة إلى مظاهر الخطف وغياب الأمان.
وبغض النظر عن الجهة المسؤولة عما سبق، تفترض الضرورة طرح تساؤلات جدية عمّا يجري في البلاد، لا بوصفه فوضى انتقالية عابرة، بل كجزء من عملية أوسع لإعادة تشكيل المنطقة وفق رؤية خارجية تعتمد أدوات “الاستعمار الناعم”.
في هذا السياق، تبدو الاستعانة بكتابين مرجعيين مفيدة لفهم ما يحدث:
الأول “عقيدة الصدمة” للكاتبة نعومي كلاين، والثاني “التخلّف والتنمية” لجان ألبرتيني، فكلاهما يقدّمان مقاربات معمّقة لحالات مشابهة لما تشهده سوريا اليوم.
تتناول كلاين في “عقيدة الصدمة” التحولات الكبرى التي شهدها العالم خلال الأربعين عامًا الماضية، من أزمات وحروب وأحداث هزّت البنى السياسية والاقتصادية. وتسلط الضوء على أسطورة انتصار السوق الحرة التي رُوّج لها بوصفها تتويجًا ديمقراطيًا، في حين أنها في الحقيقة، وفق رأيها، استُخدمت لتمرير سياسات جذرية فرضها رأس المال العالمي مستغلًا لحظات الفوضى والانهيار.
أطلقت كلاين على هذه السياسات اسم “المعالجة بالصدمة”، وهي مقاربة طُبّقت في دول عديدة مثل: إندونيسيا، وتشيلي، والأرجنتين، والبرازيل، وروسيا، ودول شرق آسيا، وانتهت بالعراق.
يستغل ما يُعرف بـ”رأسمالية الكوارث” كل أزمة — انقلاب، هجوم إرهابي، انهيار اقتصادي، حرب، أو حتى كارثة طبيعية — لتمرير إصلاحات اقتصادية واجتماعية لم يكن السكان ليقبلوا بها في الظروف الطبيعية. ويُعد ميلتون فريدمان، الحائز على جائزة نوبل والمستشار الاقتصادي لريغن وتاتشر، من أبرز المنظّرين لهذا المذهب، والذي ساعد على تطبيقه في دول عديدة، غالبًا على حساب شعوبها.
وقد كان العراق نموذجًا صارخًا لتطبيق هذه العقيدة، حيث استُخدم العنف العسكري أولًا لإحداث صدمة، تلتها صدمة اقتصادية تمثلت في تفكيك مؤسسات الدولة. أعلن بول بريمر، المبعوث الأميركي، عن تقليص شامل لدور الحكومة وسط الفوضى، ومع مقاومة العراقيين لهذه الإجراءات، طُبّقت أساليب تعذيب نفسي وجسدي بهدف الإخضاع. وقد أصدرت وكالة الاستخبارات المركزية أدلة توضح كيف يُمكن استخدام العزل، الحرمان الحسي، والصدمات لإرغام الأفراد على القبول بأوضاع جديدة لم يكونوا ليقبلوها في الحالة الطبيعية.
ما يحدث في سوريا اليوم يحمل أوجه شبه واضحة مع هذا النموذج. فالمجتمع السوري يتعرض لصدمات يومية — أمنية، اجتماعية، نفسية — تُلهيه عن إدراك الصورة الكبرى: تحويل البلاد إلى كيان مفتوح، هش السيادة، فاقد لهوية اقتصادية وطنية، حيث تُفرض خطط تنموية واقتصادية تخدم مصالح الخارج، بينما ينشغل السوريون بصراعات داخلية، بين من يناصر الحكومة المؤقتة ومن يعارضها.
وفيما يُكرّر بعض مؤيدي السلطة الجديدة سلوك “الشبيحة” في الدفاع الأعمى كما كان في عهد النظام السابق، يواصل آخرون رسم مستقبل البلاد وفق مصالحهم الخاصة، تاركين المواطن فريسة للصدمة، مجرّدًا من القدرة على الفعل، أو حتى الفهم.
يشكّل ما حدث في سوريا في العقود الأخيرة مثالًا جليًا على نموذج “الاقتصاد المخلّع المفتوح”، وهو نموذج يصل في نهاية المطاف إلى طريق مسدود بفعل نظام دولي يعمل بطريقة إقطاعية حديثة، حيث تُصنّف الدول على أساس الولاء السياسي وتأدية الطاعة للقوى المهيمنة. ففي عام 2000، بدأ الاقتصاد السوري ينحو نحو الليبرالية، مبتعدًا تدريجيًا عن أي شكل من أشكال الاقتصاد الاشتراكي، وهو تحوّل صاحبه تراجع واضح في الدور الاجتماعي للدولة، خصوصًا في مجالات الحماية الصناعية والدعم الاجتماعي.
غير أن هذه الليبرالية لم تكن مصحوبة بسياسات حماية إنتاجية أو تأهيل للبنية الاقتصادية الوطنية، بل فتحت السوق السورية على مصراعيها أمام الاستيراد، خصوصًا من تركيا، من دون وضع آليات تحصّن الصناعات المحلية من الانهيار. وقد ساهم هذا التوجّه في تعميق الفوارق الاقتصادية والاجتماعية، وكان من الأسباب البنيوية التي مهّدت لانفجار الاحتجاجات في عام 2011.
بعد أكثر من أربعة عشر عامًا من الحرب والاقتتال والتفكك على مختلف المستويات، أصبح الأفق الاقتصادي في سوريا مغلقًا بالكامل. واليوم، لا يبدو أن هناك أي مخرج من هذا المأزق سوى عبر فكّ منظومة العقوبات، ولكن ذلك مشروط غالبًا بالخضوع الكامل لإملاءات اقتصادية خارجية، تتناغم مع سياسات صندوق النقد الدولي وتوجهاته.
وتتجلى ملامح هذا الواقع فيما ورد في كتاب التخلف والتنمية في العالم الثالث، وتحديدًا تحت عنوان “الاقتصاد المتخلّف”، حيث يشير المؤلف إلى أن “المجموعات الدولية توظف الرساميل لخلق جيوب تُخلّع الاقتصاد”، مضيفًا أن تبعية الاقتصاد الحديث للتجارة الخارجية، فضلًا عن حاجة موازنات الدول المستمرة للمساعدات، تؤدي إلى تحوّل قسم كبير من الاقتصاد الوطني إلى مجرّد امتداد خارجي لاقتصاديات الدول المتقدمة. ومن ثم، فإن هذا الامتداد لا يمكن أن يتحوّل إلى محرّك داخلي حقيقي للتنمية.
بهذا المعنى، يمكن فهم التجربة السورية لا كحالة استثنائية، بل كنموذج مكثّف لأزمة التبعية الاقتصادية في سياق دولي تحكمه معايير الهيمنة لا الشراكة، والولاء لا السيادة، الأمر الذي يجعل أي مسار للتنمية المستقلة أكثر تعقيدًا من مجرد إصلاحات داخلية معزولة.
في سوريا بلاد وقعت تحت تأثير الصدمة والتخلع، صدمات اجتماعية أدت إلى تخلّع أصبح مقبولا بالتدريج لأن الصدمات المتتالية لا تخلق تشويشا على الصعيد الاجتماعي فقط بل تخلع آثار بنيوية في بنية الاقتصاد بما يجعله اقتصادا تابعا للخارج أكثر مما هو اقتصاد وطني يخدم أفراد المجتمع المتناحرين.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة