سوريا من الستار الحديدي إلى الاختناق الديني (نديم نصار)


نديم نصار

بعد أكثر من أربعة عقود من الستار الحديدي الذي عاشت سوريا خلفه، بعد أربعة عقود من القبضة الفولاذية التي التفت حول عنق كل مواطن فكر بالتغيير او برفع صوته مطالبا بأي نوع من الحرية، بعد ان عاشت سوريا الظل الثقيل لصليب الخوف والقمع والسجون المكتظة بنخبة العقول والأقلام والرؤى بحجة المقاومة والممانعة والصمود والتصدي وتحت كل الشعارات التي انحشرت في أدمغتنا حتى النخاع، جاءت المعارضة العتيدة التي نصبت نفسها خشبة الخلاص ورياح التغيير وزمن القيامة لسوريا حرة، فاستبشر الكثير من السوريين خيرا، لا سيما أولئك المؤمنين بحتمية تبديل الموازين والنهوض بالبلد ووضعها على خطى الحياة الأفضل. هذه الروح الايجابية والمتطلعة لمستقبل مختلف سرعان ما أصيبت بخيبات أمل متتالية نجمت عن سقوط المعارضة في فخ الانقسام والتشرذم وغياب البرنامج السياسي المتكامل الذي يمكن ان يشكل البديل الذي طال انتظاره، وأيضاً الصراع الشرس على السلطة الذي لم يستطع الكثير من السوريين تمييزه عن ذلك الصراع المستميت للنظام الحالي للبقاء على رأس الهرم.
وقع النظام في أخطاء فادحة حين لجأ إلى العنف المفرط الذي تصاعد بشكل هائل خلال السنتين الماضيتين، خصوصاً حين استخدم سلاح الجو المدمر لقصف المدن، ما أذهل الجميع. بدورها، استخدمت المعارضة العنف المفرط، مع إضافة عنصر ادخل الأزمة السورية في نفق مرعب من سفك الدماء. هذا العنصر هو الإسلام السياسي. آلاف من الجهاديين من مختلف أنحاء العالم تدفقوا إلى سوريا يحلمون بدولة إسلامية تطبق فيها الشريعة الإسلامية. دخول هذه المجموعات «الجهادية» على خط الصراع كان بعلم ومباركة الكثير من قادة ما يسمى بالمعارضة وحتى دول الغرب وذلك لتصعيد الضغط على النظام. ما حدث على الأرض كان مختلفاً عن الذي توقعه أو أراده هؤلاء القادة، فالمجاهدون الذين يتسلحون بحلم الدولة الإسلامية خرجوا عن إمرة ما يسمى بالجيش السوري الحر، وبدأوا بفرض النظام الإسلامي المتطرف الذي جاؤوا به على أغلبية المناطق التي سيطروا عليها. نشروا الخوف بين صفوف المواطنين، ليس فقط الذين ينتمون إلى الأقليات الدينية في البلد، وإنما طال أيضاً الأغلبية السنية التي صدمت بمثل هذه التصرفات والممارسات التي لم تواجهها منذ دخول الإسلام إلى سوريا. الخوف هو الذي يدفع الكثير من السوريين للرحيل، لأنهم فقدوا الأمان والثقة بقادة يقدمونهم ذبيحة رخيصة على مذبح السلطة، وهم يتفرجون على مأساة تجتاح كل مفاصل المجتمع، على أيدي دخلاء يدعون العمل على تحرير البلد من نظام ديكتاتوري، وهم في الوقت نفسه يقدمون نظاماً أبشع وأقسى وأكثر دموية.

جرائم المعارضة

صمت العديد من قادة المعارضة من مختلف الاتجاهات عن الجرائم الوحشية والخطف والترويع التي تقوم بها تلك المجموعات التي تقلق المجتمع الدولي بأسره، هذا الصمت جاء بحجتين: الأولى أن النظام أيضاً يقوم بجرائم وحشية، والحجة الثانية هي ان هذه الجماعات هي نسبة قليلة جداً من المجتمع لدرجة انها لا يمكن ان تكون عقبة في وجه بناء سوريا الغد حين يسقط النظام. المدهش والمحزن معاً ان نرى معارضين ارتقوا سلم الشهرة والمال على حساب دماء السوريين يسارعون إلى تبرير تصرفات هؤلاء الأغراب عن مجتمعنا وتقاليدنا وعيشنا المشترك، وحتى انهم لا يتوانون عن الدفاع عنهم برغم علمهم علم اليقين ببشاعة الوجه الديني الذي يقدمونه وفداحة تداعيات النظام القهري الذي يطبقه أنصار هذا النوع المقزز من الدين. إن الواقع المأساوي الذي يفرضه دعاة التيارات المتطرفة يخيف ويقصي بالقوة معظم الأشخاص الذين يمكن ان يكونوا نواة لحراك شعبي حقيقي وأرضية صحيحة لعمل سياسي مثمر للجميع.
ما تمر به سوريا الآن يعكس وبشكل سافر الحرب الإقليمية والدولية التي تستعر على أرضها وتستخدم مواطنيها أنفسهم كواجهة لتطبيق برامجها الخاصة، وهم يظنون أنهم أبطال وطنيون يقودون البلد إلى زمن العدالة والحرية.
بعد أن أتيح لي اللقاء بمختلف أطراف المعارضة من جهة وممثلين عن النظام من جهة اخرى لمرات عديدة وجلسات مطولة، شعرت انه كلما تحدثت مع معارضين متحمسين، أحسست بتعاطف مع النظام، وكلما تحدثت مع موالين متحمسين للنظام، أحسست بتعاطف مع المعارضة. فخطاب العديد من أشكال المعارضة وأيضاً النظام يشعرني بالألم العميق لأن معظم المواقف المتشددة لكل الأطراف تعطي مؤشراً واضحاً إلى انها اتخذت كردة فعل على أفعال قام بها الطرف الآخر، وليس عن تفكير أو دراسة واقع ولا عن رغبة حقيقية في التغيير أو البناء. وطبعاً يلعب الدين دوراً رئيسياً في بلورة مثل هذه المواقف لا سيّما ان كمّا هائلا من المال يضخ في المنطقة بأسرها باسم الدين ولأهداف سياسية مُقَنَّعَة بشعارات وواجهات مذهبية وطائفية.

التحالف مع الشيطان

يشعر عدد كبير من السوريين في هذا الوضع اللاإنساني الذي تعيشه سورية بأنهم لا حول لهم ولا قوة تجاه هذا الصراع المحموم على السيطرة على مقدرات البلد بأي ثمن كان. فأغلبية المجتمع السوري تعيش في الوقت الحالي بين فكيّ وحش مفترس، الفك الأول هو نظام فاسد يقوم على سحق أي محاولة للتغيير وما زال يظن انه يملك البلد وأهله، والفك الثاني أشلاء ما يسمى معارضة تقوم أيضا على تهميش ونهش بعضها البعض ومحالفة حتى الشيطان في سبيل الوصول إلى كرسي الحكم. ففي خضم هذا الجنون، فقدت الأغلبية الساحقة من قادة النظام والمعارضة على حد سواء القدرة على الرؤية الواضحة والحكم على الأمور بموضوعية، مما عزلها بشكل كبير عن حقيقة ما يواجهه الناس من واقع مرير.
في خضم كل ما تمر به سوريا تبقى الأصوات الوطنية الحقيقية الداعية للحوار الحضاري المبني على العقل والحكمة للخروج من نفق الموت وكأنها تغرّد خارج السرب، مهمشة ومحاربة من معظم الأطراف. وأنا أؤمن اننا لن نرى مخرجاً لما نحن فيه حتى نقتنع ان طاولة الحوار يجب ان تبقى دائماً المرجع الأول لحل خلافاتنا، ومن ثم إعطاء الناس المتمتعة بالمواطنة فرصة إبداء رأيها من خلال الصناديق.


صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى