سورية وداعش والبروبوغندا الغربية

مع بلوغ الحرب في سورية عامها الخامس، وقيام الدولة الإسلامية بإحلال الخراب والدمار عبر الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يبدو واضحا أن المنطقة برمتها تحولت إلى مسرح كبير للصراع. ولكن يجب عدم فهم المعركة كفضاء مادي موجود على الخارطة فحسب، بل يوجد أيضا فضاء اجتماعي وثقافي مماثل حيث تقوم قوى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والناتو بتوظيف تكتيكات متنوعة بهدف التأثير على مجرى الأحداث وخلق نتيجة تناسب أجندتهم. وما من تأثير أكبر من ذاك الذي تملكه البروبوغندا.

وبالتأكيد، إذا كانت الحرب الدائرة الآن في سورية، والصراعات التي تلت فترة الربيع العربي بشكل عام، تعني شيئا ما فهو أن قوى البروبوغندا والعلاقات العامة قد صاغت الروايات والتي أثرت بدورها على الأحداث السياسية. فإذا أخذنا بعين الاعتبار القوة الهائلة للمعلومات في المشهد السياسي لما بعد الحداثة، فلن يكون من المفاجئ أن كلا من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أصبحتا قادة العالم في ضوء بروبوغندا ترعاها الحكومة وتتنكر بزي الشرعية والتعبير عن الشعب سياسيا واجتماعيا.

نشرت صحيفة The Guardian مؤخرا كيف تقوم وحدة البحث و المعلومات و الاتصالات RICU) ) ،التابعة لحكومة المملكة المتحدة ، بالمراقبة و نشر المعلومات و دعم أشخاص و مجموعات كجزء مما تصفه محاولة تغيير السلوك بين الشبان المسلمين، و هذا النوع من الرسالة المضادة ليس بالأمر الجديد ، و تمت مناقشته لسنوات. و لكن الغارديان تفضح العلاقات الأكثر عمقا بين RICU و المنظمات الشعبية المتنوعة وحملات شبكة الانترنيت و اختراقات وسائل الإعلام الاجتماعية، إذ تشير مقالتها إلى العلاقة بين RICU التابعة للمملكة المتحدة و شركة اتصالات مقرها لندن اسمها Breakthrough Media Network و التي أنتجت عشرات المواقع الالكترونية و الكراسات و أفلام الفيديو و الأفلام و صفحات الفيسبوك و مواد على تويتر و محتويات إذاعية على الشبكة ، و كلها تحت عنوان “حقيقة داعش و مساعدة سوريه”. و إذا أخذنا بعين الاعتبار طبيعة وسائل الاتصال الاجتماعية و الطريقة التي تنتشر فيها المعلومات (أو المعلومات المضللة) ، فلن يكون من المفاجئ القول أن عددا من الفيديوهات الفيروسية و معلومات تويتر الشعبية و الوسائل الأخرى التي كانت تبدو منحازة إلى الخط المعادي للأسد الذي تقف عنده لندن و واشنطن، هي في الحقيقة نتاج مباشر لحملة البربوغندا ذات الرعاية الحكومية… و كما قال كاتب المقال: ” إحدى مبادرات RICU ، و التي تقدم نفسها كحملة توفر النصيحة حول كيفية تمويل اللاجئين السوريين، كانت عبارة عن محادثات وجها لوجه مع آلاف الطلاب في الجامعة دون أن يعلم الطلاب أنهم في برنامج حكومي. سميت هذه الحملة “مساعدة سوريه”، وقد وزعت كراسات لسبعمائة وستين ألف منزل دون أن يدرك المستلمون أنهم تابعون للحكومة”.

ولا تصعب رؤية ما تحاول الحكومة البريطانية تحقيقه من جراء هذه الجهود، فهي في سعي للسيطرة على رسالة الحرب على سوريه، وإعادة توجيه النشاط الشعبي المعادي للحرب للحصول على قبول للمؤسسة السياسية. تخيل للحظة التأثير على طالب جامعي عمره ثمانية عشر عاما دخل لتوه في الحقل السياسي، وفورا يواجه نشطاء محنكين يؤثرون على تفكيره حول طبيعة الحرب، ومن هم الأشرار ومن هم الأخيار، وما الذي يجب عمله. والآن تخيل هذا مع آلاف وآلاف الطلاب، إن تأثير هذا الجهد عميق جدا.

ولكن الأمر أكثر من مجرد تفاعل مع نشطاء وخلق وسائل بروبوغندا، إنه يتعلق بمراقبة واختراق شبكات التواصل الاجتماعي. وجاء في المقال: “أحد مهمات RICU الأساسية تكمن في مراقبة المحادثات على شبكة النت بين ما تصفهم بمجتمعات قابلة للعطب. وبعد إطلاق المعلومات، يقوم العاملون في RICU بمراقبة “منابر رئيسية” للمحادثات على شبكة النت لتقفي أثر “انتقال الروايات”، وتظهر إحدى الوثائق التي بحوزة الغارديان أنه من الواضح أن تلك الجهود تتعلق باختراق على شبكة الانترنيت وخاصة عبر وسائل الاتصال الاجتماعية”.

وعن طريق الرقابة والتلاعب بهذه الطريقة، تتمكن الحكومة البريطانية من التأثير، بطريقة دقيقة ومتعمدة، على رواية الحرب في سورية وداعش وحشد من القضايا المتعلقة بكل من سياساتها المحلية والمصالح الجيوسياسية والاستراتيجية للدولة البريطانية. وهنا يكمن الرابط بين الرقابة والبربوغندا والسياسات. و لكن بالطبع المملكة المتحدة ليست وحيدة في هذه الجهود، فالولايات المتحدة تملك برنامجا مشابها مع مركز الاتصالات الإستراتيجية المضادة للإرهاب ( CSCC ) و الذي يصف مهمته بأنها:

” تنسيق وتوجيه وإعلام عن نشاطات الاتصالات الأجنبية الحكومية التي تستهدف الإرهاب والتطرف العنيف. يتألف CSCC من عناصر متداخلة: عنصر التحليل الموحد والذي يفعل مجتمع الاستخبارات وخبراء مستقلين آخرين من أجل ضمان استفادة المتعاملين مع CSCC من أفضل معلومات وتحليلات متوفرة. عنصر الخطط وعنصر العمليات والذي يعمل على المعلومات من أجل الوصول إلى طريقة فعالة لمواجهة الرواية الإرهابية. والفريق الرقمي يستخدم بشكل فعال وصريح اللغة العربية والأوردو والبنجابية والصومالية”.

لاحظ أن CSCC هو فعليا محور تبادل معلومات يعمل على تنسيق البروبوغندا بين CIA و DIA و DHS و NSA و آخرين. هذه المهمة يتم بالطبع حجبها بمصطلحات مثل: “تحليل موحد” و “خطط وعمليات”، مصطلحات تستخدم للإشارة إلى العناصر المتنوعة في مهمة CSCC. و كحال RICU، فإن CSCC يركز على تشكيل روايات على شبكة النت تحت ذريعة مواجهة التطرف.و تجدر أيضا ملاحظة أن CSCC أضحى مقرا لبروبوغندا ليست فقط من أجل حكومة الولايات المتحدة، و لكن أيضا من أجل حلفائها الأجانب الأساسيين (إسرائيل، السعودية، بريطانيا)، و كذلك منظمات غير حكومية مفضلة مثل مراقبة حقوق الإنسان، العفو الدولية، أطباء بلا حدود و ذلك وفقا لما أوردته صحيفة New York Times إذ قالت:

” يسخّر CSCC كل المحاولات الموجودة من أجل مهمة مضادة عن طريق دوائر فيدرالية أكبر تضم البنتاغون و الأمن القومي و وكالات الاستخبار. كما وينسق المركز ويوسع مهمة مشابهة عن طريق الحلفاء الأجانب والوكالات غير الحكومية، وكذلك أكاديميين مسلمين بارزين، وقادة مجتمع وعلماء دين من أجل مواجهة الدولة الإسلامية”

والمضي بهذه المعلومة خطوة للأمام، يستدعي للذهن التساؤل حول حقيقة الرواية عن سوريه وليبيا وداعش والمواضيع المتعلقة. مع كون وسائل الاتصال الاجتماعية و “الصحافة المدنية” قد أصبحتا فعالتين كثيرا في طريقة تفكير الأشخاص العاديين حول هذه القضايا، ويرى المرء نفسه مجبرا على التفكير بمدى التلاعب بهذه الأحداث.

وحتى الآن ثم توثيق عدد كبير من الطرق التي استخدمتها الحكومات الغربية كوسائل للتلاعب في وسائل التواصل الاجتماعي من أجل صياغة الروايات. وفي الحقيقة، قامت السي آي ايه الأميركية وحدها باستثمار الملايين في عشرات المجموعات المرتبطة بالتواصل الاجتماعي عبر سلاحها في الاستثمار المعروف ب In-Q-Tel. وتنفق السي آي ايه عشرات الملايين من الدولارات التي تشكل الأموال الأساسية لتلك الشركات من أجل امتلاك القدرة على القيام بأي شيء بدء من استخراج المعلومات إلى الرقابة الفعلية.

والحقيقة أننا نعرف رغبة الحكومات بالتلاعب بالتواصل الاجتماعي منذ سنوات، وفي الرجوع إلى شباط 2011، قبل بدء الحربين في ليبيا وسوريه، نشر مقال هام في PC World تحت عنوان:”جيش من أصدقاء التواصل الاجتماعي الوهميين من أجل تعزيز البروبوغندا” والذي يشرح الأمر بلغة بسيطة قائلا:
“شركة HBGary Federal المتعاقدة مع حكومة الولايات المتحدة من أجل تطوير برامج يمكنها خلق حسابات شخصية كثيرة مزيفة على شبكات التواصل الاجتماعي من أجل التلاعب بالرأي العام و السيطرة عليه في قضايا خلافية و ذلك عن طريق تعزيز البروبوغندا. و يمكن أيضا أن تستخدم كمراقبة للعثور على أشخاص يحملون آراء لا تناسبهم، و من ثم يقود هؤلاء الأشخاص “المزيفون” حملات قذرة ضد أولئك الحقيقيين”..

المراقب عن كثب لحرب الناتو والولايات المتحدة ضد ليبيا يمكن أن يتذكر الكم الكبير لحسابات تويتر التي ظهرت بشكل غريب، مع امتلاك كل منها لعشرات الآلاف من المتابعين، ومهمتها الحديث عن “الفظاعات” التي ترتكبها القوات المسلحة التابعة لمعمر قذافي، والمطالبة بمنطقة حظر جوي وتغيير للنظام. وبالتأكيد سيتساءل المرء الآن، كما فعل الكثيرون منا في ذاك الوقت، حول ما إذا كانت تلك الحسابات ببساطة مزيفة وخلقت في برنامج كمبيوتر لدى البنتاغون أو أشخاص مأجورين.

مثال حديث عن التضليل عبر وسائل التواصل الاجتماعي الذي تم توظيفه (ولا يزال) في الحرب على سوريه/داعش وقع في كانون الأول 2014 تتعلق بمروج بارز لداعش على تويتر عرف باسم شاهد شامي (Shami Witness) إذ كشف أن اسمه مهدي ووصف بأنه “موظف إعلانات” مقره بنغالور في الهند. كان يتم الاستشهاد بشاهد شامي كمصدر معتمد، غني بالمعلومات، حول داعش و سوريه و ذلك من قبل وسائل الإعلام . هذا الخبير السابق في داعش يواجه الآن الاتهام في الهند بجرائم تضم دعم منظمة إرهابية، شن حرب ضد الدولة، نشاطات غير قانونية، تآمر والتحريض على العداء وتعزيزه.

مثال آخر على تلاعب وسائل الإعلام على شبكة النت حدث في 2011، حين كانت الحرب على سوريه في بدايتها، حيث برزت صاحبة مدونة كانت تعرف باسم “الفتاة المرحة في دمشق” كمصدر هام للمعلومات والتحليلات حول الوضع في سوريه. والغارديان، من بين الوسائل الإعلامية الأخرى، وصفتها “ببطلة ثورة غير عادية استولت على مخيلة المعارضة السورية عن طريق مدونة برزت مع التحرك المعارض المناضل في وجه الإجراءات الصارمة للحكومة الوحشية”. و لكن مع حلول حزيران من عام 2011 ، تبين أن “الفتاة المرحة الصادقة ” هي خدعة، و تلفيق كامل من قبل الأميركي توم ماك ماستير . وبشكل طبيعي وسائل الإعلام ذاتها التي وصفت “الفتاة المرحة” بمصدر حقيقي للمعلومات حول سوريه تراجعت فورا وتنصلت من المدونة. ومع ذلك بقيت الرواية أحادية الجانب عن القمع الإجرامي والمتوحش للناشطين المحبين للسلام في سورية. ففي الوقت الذي فقد المصدر مصداقيته، بقيت الرواية راسخة.

وربما هذه النقطة الأخيرة هي الأساس، فالتلاعب على شبكة النت مصمم من أجل السيطرة على الروايات، وبينما تخاض الحرب في أرض المعركة، فإنها تخاض بشكل مواز من أجل عقول وقلوب الناشطين ومستهلكي الأخبار والمواطنين العاديين في الغرب. وتملك كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة قدرات واسعة من أجل حرب المعلومات، ولا تخشيا من استخدامها. ولهذا، يجب ألا نخشى من فضحهما.

مجلة New Eastern Outlook الالكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى