“سيدة الضياء” .. هيرمينوطيقا الحلم والتخييل

الكتابة الروائية كما يجترحها الروائي المصري السيد حنفي؛ كتابة مشبعة برواء الشعر، ومسكونة بألق العشق والحلم، ترسم بريشة التخييل لوحات عجائبية رمزية، لها وظائفها الجمالية في التكوين النسقي لعمله الروائي “سيدة الضياء”.

وقبل الولوج إلى القضايا الفنية والمعنوية التي شكلت بؤرة المنجز السردي، نحب الوقوف عند عتبة نصية مهمة، والأمر يتعلق بالتقديم الذي كتبه د. محمد دخيسي أبو أسامة، ضمن الطبعة التي توجت رواية: “سيدة الضياء” رواية فائزة في الملتقى العربي الثالث للرواية العربية والذي ينظم من طرف جمعية المقهى الأدبي بوجدة شرق المملكة المغربية، ورغم قصر التقديم إلا أنه اشتمل على العديد من الإشارات المكثفة المهمة جدا.

فبعد ذكره لسياق تتويج الرواية، وسرده لأسماء لجنة التحكيم، بيَّن د. دخيسي منسق لجنة التحكيم الأسباب الفنية التي استحقت بها الرواية الفوز؛ والتي يمكن إيرادها على هذه الصورة: تميزها بعناصر تجديدية. تميزها بفرادة الموضوع  والحبكة واللغة وبعد هذا الإجمال فصل د. أبو أسامة فقسم استنتاجاته على هذا النحو: من ناحية الموضوع: تجلت موضوعات: (الحلم، الخيال، الأسطورة، التاريخ.. الخير والشر.. صراع الشيطان والإنسان. التصوف..). من ناحية اللغة:  برزت (اللغة الشعرية) بشكل لافت. من ناحية الحبكة القصصية (التشويق – الجدة – العمق). 

تقدم رواية “سيدة الضياء” متوالية سردية، تقف عند صراع الذات بين أحلامها والواقع المثخن بالقبح والشر والظلام، والاغتصاب والخرافة والقتل والجبروت والأعراف والطقوس المقيدة للحرية؛ والمصادرة لكل نبض تنويري وحلم ويوحي العنوان – والعنوان عتبة رئيسة – بالإشارة إلى الأنوثة، وإلى الطهر، والجمال. هذا ما يجعلنا نتساءل عن البنية الرمزية للموضوعات المهيمنة على نسق الكائن، على نسق الكتابة لنجد: الضياء يقابل الظلام. والقتل يقابل الحب. والمسخ الشيطاني والخرافة يقابلهما العقل والتنوير. التجبر يقابله الحلم.

الرؤية السردية تتبلور في تركيز الضوء على سيدة الضياء باعتبارها التمثل الآني للحلم. والحلم المقصود ليس رؤيا منامية ولكنه استشراف روحي واستبصار وجداني، للبحث عن حياة ممكنة مغايرة للحياة التي يغرق فيها البطل

صراع يخوضه البطل من أجل “شفافية النفس التي لم تلوثها المعتقدات البالية الآخذة ناصيتنا رغم أنوفنا” كما جاء على لسان الراوي يهيمن على هذه الرواية نسق توق إلى معانقة حلم مفقود، ليس له اسم واحد؛ مرة يشار إليه بالحب، ومرة بالنور، ومرة بالعقل والحكمة والخيال والجمال. وتشعر وأنت تقرأ هذه الرواية بوجع ممض، يشرئب ويعلن عن وجوده دوما؛ ذاك هو وجع الحال الذي تخيم عليه ممارسات سلبية (إذلال البشر، التسلط باسم الدين.. زنى المحارم.. قهر المرأة.. وتهميش إرادتها.. والخوف….) كأنما الرواية محاسبة أو إدانة!

لعل رواية “سيدة الضياء” صرخة في وجه العبث والتقاليد والأعراف والانحرافات المسكوت عنها، وإدانة للتهالك الجنسي، والسمسرة الدينية، واسترخاص الجسد، وامتهان الكرامة.. وتغييب العقل.. ولكن يتم كل هذا بنسق جمالي لغوي مغاير للحساسية التقليدية في الرواية العربية، إذ تعمل قوى فنية مستخدمة بحنكة ودراية على خلخلة العالم واستفزاز الذائقة الموروثة، وبناء عوالم شعرية غرائبية، وصناعة عالم أسطوري إيحائي كثيف الدلالة.

إلى رصد هذا الملمح حينما وصفها برواية “تتميز بعناصر تجديدية” ليعود في مكان آخر مركزا على هذا الأمر، إذ يصف هذه الرواية “بالجدة والعمق” وقد تجلى هذا العمق انطلاقا من بلورة فهم للعالم و”لا مجال لفهم العالم إلا بالبحث عن معناه الجديد”.

وقد حدد إدوار الخراط رائد الحساسية الجديدة في الرواية؛ أهم تقنيات الكتابة السردية  وصاغها في: تحطيم السياق الزمني التقليدي المسلسل. كسر الترتيب الزمني. الاستغناء عن  التوصيف الواقعي. التركيز تارة على الظاهر المحايد البارد. الغوص في الداخل المضطرب الجياش. فتح مغاور ما تحت الوعي. فك العقدة التقليدية. تدمير سياق اللغة. أو التراوح بين كل هذه الطرائق الفنية.

وفي “سيدة الضياء” يتجلى أكثر من أربعة عناصر من هذه اللائحة، فالزمن محطم سياقه مكسر ترتيبه، ويتم الغوص في الذات المضطربة الجياشة في أكثر من وضعية سردية:

” .. هيا أيها الضعيف الباكي المتكئ على أحلام باهتة، غذّ السير في وهم الطرق المنتهية فيها الخطوات إلى الهاوية. ادفع من دمك فاتورة حساب الدنيا الوهمية، ادفع ثمنا لكل شيء، موجود، غير موجود، سيان، فإن كان موجودا ستدفع وهمك الباقي عربونا لمجرد وجودك، وإن كان غير موجود فيكفيك أنك مارست حلم الانتهاء.”

فأنت تلمس هذه الحوارية الذاتية، وهذا الغوص المتسائل في النفس المضطربة الجياشة، وتقوم هذه المقاطع بإضاءة للأبعاد النفسية للشخوص، كما يتم تشكيل سيرورة سردية قوامها لغة شعرية مجنحة؛ حتى لتخال نفسك تقرأ “رواية قصيدة”: “يا عشقي المهزوم .. تمتصني رئتاك والمباح من الدمع، فأسافر على حدود الجراح، قد تجمعنا مرايا الألم ، قبل أن تضيعي في زحام الأوهام، والأهواء والحروف”. “”يأتيني الربيع من عمق عينيك يمتطي ضوء القمر، يغني قصيدة غرام، تهزها الأمواج، فترقص على رنين المطر ..”.

تكاد لفظة “الحلم” تتكرر في كل صفحة، وتأتي على صيغة جمع التكسير: الأحلام كما تأتي على صيغة الأمر أو صيغة الفعل المضارع وأحيانا المقرون بسين الاستقبال وكثافة هذا العنصر يؤول بعقم الواقع، فالتأويل هو الوجه الثاني للهيرمينوطيقا و”إن الفن الهيرمينوطيقي هو في الحقيقة فن فهم شيء ما يبدو غريبا وغير مفهوم بالنسبة لنا”. هكذا تبدو فقرات الأحلام يوشيها غموض، يمكن من تأويلات ممكنة، فالواقع قاحل، يتصف بعدم تقديمه للبطل أي كوة ضوء أو أي فرصة لتنسم هواء الحرية والسعادة، لذا فاتجاه القلب والرؤيا والعقل نحو المستقبل، باعتبار الماضي ذاكرة مؤلمة، أمر طبيعي: “وتجترين ذكرى ألم نسيته” والحاضر حركة فساد.

هل عرفت الآن من هو أبوك، وهذا الشيخ المعتوه، إنهم كالخفافيش، لا يرون إلا في الظلام، ولا يتآمرون إلا تحت أجنحته، وهذا الشيخ فاسد العقيدة، يثير حوله جوا من التقديس الكاذب، يخدع به البسطاء“.

وإذا كان الواقع موارا بالفساد، يشظي الذات يعصرها الألم  ويمتصها الظلام، ويرسم الكذب والوهم أفقا ملبدا، يظل أرضا تطعم فيها البسطاء كل خديعة، لقهرهم وقتلهم؛ لكل هذا فالحلم يكاد يولد لكنه يولد ولادة قيصرية مؤلمة “تأخذني الأحلام إلى أرض تنبت الألم…”.

ويكون للحلم كموضوعة صلات دلالية في النسق الروائي، من خلال الثنائيات التالية التي ما تلبث أن تصير شبكة متفاعلة العناصر لذكرى والحلم. الحب والحلم. الألم والحلم. المكان والحلم وتتبلور الرؤية السردية في تركيز الضوء على سيدة الضياء باعتبارها التمثل الآني للحلم. والحلم المقصود ليس رؤيا منامية ولكنه استشراف روحي واستبصار وجداني، للبحث عن حياة ممكنة مغايرة للحياة التي يغرق فيها البطل.

لذا فعلى نسق الكتابة الروائية المنخرطة في حساسية جديدة، تغوص اللغة في تصوير سردي شعري تفتح مغاور ما تحت الوعي، وتنصت للاضطراب والجيشان الذي يعتمل في الذات هكذا تتفاعل الموضوعات التالية: الحلم – الذاكرة – الألم – الحب – الضياء – الظلام – الاستبداد – المكان – اللغة الشعرية – والخيال. تتفاعل لينبثق الحدث والمسار السردي في بيئة جياشة للصراع أكثر من أثر: صراع داخلي لمقاومة الخوف التجبر والخرافة ..والاغتراب. .. والضعف البشري .. وصراع ملموس بين البطل والقوى السلبية (الشيطان – الشيخ الطيالسي، والإغراء…).

وتتجلى في هذه الموضوعات هواجس الذات، وعوائق تكيفها مع الواقع الهش والمرعب والذي لا يوحي بأي هناءة .

التخييل الروائي نحو تأويل محتمل:

إن التأويل عند المفكرين والدارسين العرب، فعل واع، يقصد إليه المؤول قصدا، فـ “التأويل هو فن بمعنى طريقة الاشتغال على النصوص بتبيان بنيتها الداخلية والوصفية ووظيفتها المعيارية والمعرفية، والبحث عن حقائق مضمرة في النصوص، وربما المطموسة لاعتبارات تاريخية وأيديولوجية، هو ما يجعل فن التأويل يلتمس البدايات الأولى والمصادر الأساسية لكل تأسيس معرفي وبرهاني وجدلي..”

وهو مرتبط بغير المعنى البادي على سطح النص، يتجاوز فيه المؤول المعلوم إلى البحث عن الخفي المستور وراء التراكيب والأساليب، قصد وضع اليد على قصدية النص إذا كان الخيال في أحد التعريفات هو “القدرة على تكوين صور ذهنية لأشياء غابت عن تناول الحس”، فهو  تعريف يقتصر على بيان قدرات التخزين والاسترجاع، وهنا يكون قرين الذاكرة، لكن للخيال فعالية أخرى إنه منتج لصور غير موجودة، وهذا مستوى آخر، وفي دراسة وافية درس الدكتور علال الغازي علاقة التخييل بالخيال والتخيل في الإبداع الأدبي، ليخلص إلى ما يمكن صياغته على هذا النحو:

التخييل هو الصورة الأدبية المنتجة لغويا والمتشكلة في نسق خطاب أدبي.

يقصد بالتخييل النص كما أنتجته قدرة التخيُّل وهي ملكة لدى المبدع .

التخيل: الفعالية الذاتية للمبدع في بلورة الصور إما عن طريق الاسترجاع أو عن طريق التركيب والإنتاج والابتكار. الخيال: هو التفاعل الذي يحصل بين النص والمتلقي بغية بناء الصور التي أرسلها النص. يتحاور الحلم مع الخيال والتخييل، إلى الحد الذي تهجس اللغة السردية ببديع العجيب الذي يتخطى فيها الخيال عتبات شتى.

في قلب الصورة ترتسم نجلاء، كأنها داخل محراب تطلق البخور، تمد يدها تقبض على قلبي، تنتزعه، تهديه للشيخ وللشيطان، ينظران نحوي بسخرية، يقفزان من اللوحة، ينتصبان أمامي. أتناول الطبلة والناي أهرب…”.

خاتمة:

لن نفي رواية “سيدة الضياء” حقها كله، لأن دراسة موجزة لا تتيح التوسع في الحديث عن كثير من المكونات الفنية. وهذه القراءة التي أولت مكون التخييل كبير الاعتبار هي “رسالة اتصالية تتطلب التخلي عن القراءة الدلالية الخطية، وتتبنى القراءة المتفاعلة الداعية إلى استراتيجيات استكشافية، تتفاعل فيها البنيات النصية مع البناء المعرفيى للقارئ”.

ونرجو أن تكون هذه المقاربة قد كشفت عن جوانب من جمال هذا العمل الروائي.

ميدل إيست أون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى