لا يشك ، اثنان على أن العالم العربي يعيش في عصرنا الراهن ظروفا مفصلية ، تشكل بالنسبة لتاريخه مرحلة مخاض حضاري عسير الولادة .
ومعلوم ، أن رحى السياسة قد طحنت المنطقة منذ ما يقارب المائة عام ، كانت فيه المنطقة العربية بمعظمها تحت نير إحتلال عثماني ما لبث أن انتهى فأتى احتلال أوروبي أبشع ، وما كاد ينتهي حتى زرع كياناً غاصباً في أرض فلسطين ما زال يشكل حتى اللحظة الخطر الأكبر على مصير الأمة . أمام كل هذا كان الفن ، الذي هو منعكس طبيعي في حياة أي أمة في خندق المتفاعل و المحارب مع غيره من الفعاليات التي نشأت في العالم العربي .
الصورة السياسية في العالم العربي قلقة ومشتتة ، والفن العربي سايرها في ذلك ، فالسينما ، التي هي أحد أهم الفنون ، كانت في أتون هذا الحراك العنيف . ومن يتمعن في حركة السينما العربية سيجد أنها لا تخرج في نمطياتها عن شكلية باتت معروفة منذ بدايات القرن العشرين . سينما معروفة ومشهورة من مصر ، تسود العالم العربي العربي من مغربه حتى مشرقه ، تحفل بالكثير من القامات والنجوم الذين باتوا يشكلون هالات فنية راسخة . وإلى جانب ذلك سينما عربية موجودة في العديد من البلاد منها سورية وتونس والمغرب والعراق والجزائر ولبنان وإلى حد أقل سينما في ليبيا وعمان ودول الخليج والسودان وفلسطين والأردن وغيرها. هذه الإنتاجات لم تحقق وجوداً سينمائياً راسخاً وبقيت ضمن إطار السينما الموجهة أو سينما المغامرات الإنتاجية، وإن تحقق لبعضها رصيد من الجوائز المهرجانية الإقليمية وأحياناً العالمية. كما في فيلم وقائع سنوات الجمر للجزائري محمد الأخضر حامينا الذي توج بأهم جائزة سينمائية في العالم متمثلة بالسعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي .
في العالم العربي ، لاوجود لخارطة سياسية منظمة ، هادئة ومستقرة ، وكل النظم العربية تعاني من غليان ظاهر أو مبطن ، وما الحركات الثورية التي تعم المنطقة الآن إلا دليل على مصداقية هذه الفكرة. في هذه البيئة السياسية غير المستقرة، تولدت بطبيعة الحال حياة سينمائية مضطربة وقلقة . والسينما العربية اتخذت أحد ملامح محددة، فإما مدجنة تحتفي بما تريده السلطة ، تمرر أفكارها وتعمل على ترسيخ قيمها وشعاراتها ، أو سينما تريد أن تغرد خارج السرب فتتحدث عن مشكلات العالم العربي كما يريدها الشارع. هذه السينما قوبلت بالرفض من قبل معظم السلطات العربية ، وتمت محاربتها إنتاجياً ورقابياً ومهرجانياً. والأهم إنتاجياً ما دفع بهؤلاء السينمائيين الذين يريدون أن يصلوا بأصواتهم للناس من يتوجهوا إلى صناديق الدعم الأوروبي، الذي مد فعلاً يد المساعدة من الناحية الإنتاجية ، لكن شاب هذه المنح الكثير من اللغط ، للشوائب التاريخية والأخلاقية التي حفلت بها هذه الأفلام .
هنا كان يتردد سؤال هام: لماذا يساعد الغرب السينما لعربية غير الرسمية ؟ البعض وجد في الأمر دس السم في الدسم ، وآخرون وجدوا في الأمر طوق نجاة . الفريق الأول يرى أن الغرب يساعد هذه الأصوات السينمائية العربية ، لكي يروي من خلالهم تاريخ المنطقة من وجهة الغرب ، ولو خالفت ما تعلمه العرب أو المسلمون في تاريخهم ، فكان برأيهم محاولة لتزوير التاريخ . والفريق الثاني يرى أن هذه الفرص تمثل منبراً لا يمكن الاستغناء عنه للسينمائيين العرب حتى يصلوا إلى الأهداف الفنية والفكرية بالحرية التي يطمحون إليها .
هذه التجربة تمثل في السينما العربية المعاصرة ، النقطة الأكثر حساسية ، كونها تتحكم بالكثير من خارطة الإنتاجات السينمائية العربية ، ولو نظرنا إلى الأمر من زاوية أبعد ، ومع ملاحظتنا، لسخونة المرحلة الراهنة التي يعيشها العالم العربي بأكمله ، ووجود فرز سياسي كبير ، ووصول تيارات سياسية راديكالية أو دينية للسلطة ، لوجدنا أن رواية لحظة الحدث ومصداقية هذه الرواية تتطلب الكثير من الدقة والتمحيص في أخلاقية الإنتاج السينمائي ، وليس فقط كونه إنتاجاً فنياً . لذلك تبدو مسألة وجود صناديق لدعم السينما العربية مسألة تحفها الكثير من الملابسات وتحمل قدرا كبيرا من الحساسية .
بعيداً عن كل ذلك ، لابد لكي تكتمل الصورة ، أن نلاحظ وجود نمط سينمائي مصري ، لا يحتفي بكل ما سبق ، بل يعتمد شباك التذكر هدفاً وحيداً له ، فيكرس نجوما سينمائيين محددين ، يمتلكون حضوراً جماهيرياً كبيراً ، يلجأ إليهم المنتجون السينمائيون ، لكي يقدموا أفلاما مليئة بالكوميديا ، التي كثيرا ما تكون ركيكة ، مع ما تحفل به بكثير من الرقص والغناء الهابط الذي يمتلك جمهورا عريضا . هذه السينما ، تمتلك رغم كل شيء ولابد من الاعتراف بهذا ، قاعدة جماهيرية عريضة ، وهي السينما الرابحة الوحيدة . لذلك تنمو بشكل كبير واستطاعت على مرور الأيام أن تثبت وجودها في حركة إنتاجات السينما العربية .
في ضوء كل ما سبق ، لابد من القول ، أن السينما العربية ، حتى في مصر ، التي تمتلك وحيدة الحق في أن نطلق على تجربتها أنها تمتلك حياة سينمائية ، بعد أن أنتجت آلاف الأفلام ، عبر ما يزيد عن المائة عام من ولادة فن السينما لديها ، فحتى هذه التجربة ظلت ضمن البيت العربي ، ولم تستطع أن تخرج منه ، إلا في حالات نادرة ، التي حققت فيها بعض البريق على الساحة العاليمة ، وكان ذلك متأخرا جداً . فالسينما العربية هي إستجرار قيمي لمجموعة من الأفكار الحضارية والتاريخية والدينية للعالم العربي ، الذي غابت عنه وجود ذهنية فنية متقدة ، تستطيع أن توظفه ضمن منظومة إعلامية وفنية كبرى تستطيع من خلالها أن تصنع شيئاً متميزاً على مستوى العالم . أضف إلى ذلك ، دخول السينما العربية فكرياً في متاهات السياسة العربية المضطربة ، وهذا ما زاد الأمر تعقيداً وسوءاً .
ولعل أخطر ما في الموضوع ، أن للعرب مقومات حضارية كبرى ، دينية ( إسلامية مسيحية ) وكذلك تاريخية ، و نضيف لذلك وفرة مالية وطاقات فنية عملاقة ، تستطيع بها أن تحقق مكانة سينمائية عملاقة فيما لو تحقق صنع ذلك بطريقة مبرمجة وعلمية .