«شخص آخر» رواية الخطف العبثي

بين خطفها في بداية الرواية وإطلاق سراحها في نهايتها، تروي علا، بطلة رواية «شخص آخر» للروائية اللبنانية نرمين الخنسا (دار سائر المشرق) وراويتها حكايتها، بشقّيها المعيش والمتذكَّر، على ما بينهما من تفاوت في الكمّ والنوع؛ فالمعيش يقتصر على ستة أيام هي المدّة الفاصلة بين اختطافها وإطلاق سراحها وقد أمضتها في قبوٍ مظلم، والمتذكَّر/المتخيَّل يمتدّ على مدى سنوات عمرها، ويشمل علاقاتها بالأسرة والزملاء والأصدقاء ومشاريع الحب المجهضة والمؤجّلة. على أن العلاقة بين الشقّين هي علاقة احتواء وتداخل. والرواية، في الشكل، هي هذا الانتقال المدروس بين المعيش وما يشتمل عليه من وقائع قاتمة جسّدتها واقعة الخطف وتداعياتها، وبين المتذكَّر وما يشتمل عليه من ذكريات، سعيدة وحزينة، استُعيدت في إطار مواجهة الوقائع والهرب منها في آن، أي هي هذا الانتقال بين الوقائع والذكريات، مع العلم أنّ حضور الوقائع المعيشة أقلّ بكثير من حضور الذكريات المستعادة، حتى وإن شكّلت الأولى الإطار لاستعادة الثانية. والمساحة المتاحة للصورة هي أكبر بطبيعة الحال من تلك المخصّصة للإطار.

اًفي الوقائع، تروي الراوية: عملية اختطافها فيما تمارس رياضة الجري في حي بيروتي صباحاً. وضعيَّتها الجسدية، وما رافقها من عصب العينين، وتكبيل اليدين، وكمِّ الفم، وحشرها أسفل المقعد. وضعيَّتها النفسية، وما أحسّت به من خوف، وقلق، وحيرة. مواصفات المكان، وما يعتوره من ضيق، وظلمة، وعفونة. يوميات الخطف، وما انطوت عليه من زمن بطيء، ونوم متقطّع، وأمل مقطوع، وخوف على المصير، وتقديم الطعام والماء، وسماع الرصاص والشتائم…وهكذا، تكتمل عناصر المشهد جسديّاً ونفسيّاً ومكانيّاً وزمانيّاً. وهذه الوقائع تحيل على عالم مرجعي قريب العهد منا حيث كثرت في الآونة الأخيرة عمليات الخطف، المالي والسياسي، في بعض المناطق.

في مواجهة هذه الوقائع القاسية، تلوذ علا بالذكريات المتقطّعة بقليل من التخيّلات، فحين يُوصد الخارج دون الإنسان لا بدّ له من العكوف على الداخل، بما هو ذاكرة ومخيّلة، يجترح به سبل البقاء والاستمرار. هذا ما تفعله علا حين تمارس التذكّر،على بعض تخيّل، متّخذة منه آليّة دفاع، من جهة، تمنحها القدرة على الصمود والاستمرار، وآليّة هروب، من جهة ثانية، تنشغل بها «عن الغوص في أجواء الرعب والتكهّنات الموجعة حول مصيرها» (ص91). على أن الذكريات المستعادة تتناول مواقعها في الأسرة، والجامعة، ومركز العمل، وما ينجم عن هذه المواقع من علاقات قرابة أو صداقة أو تنافس أو زمالة أو حب، تستعيدها في لحظة ضيق لعلّها تخرجها ممّا هي فيه. وهنا، يكون الماضي المستعاد ملاذاً من الحاضر المعيش، ويكون المنظور الروائي منحازاً إلى الماضي على حساب الحاضر.

في الذكريات المسرودة: نقرأ نشأة علا في أسرة صغيرة إلى جانب أخيها الوحيد مازن الذي يدرس الطب في هيوستن فيما تدرس هي الهندسة الداخلية في لبنان، وفي ظلِّ أبٍ هو رجل أعمال ناجح يؤول إلى الإفلاس والموت بفعل القصف الاسرائيلي على فندقَيْه وغدر بعض الأصدقاء به وانهيار البورصة، وأمّ حازمة محبّة تصرُّ على تعليم ولدَيْها حتى تخرُّجهما طبيباً ومهندسة، وتخصُّ ابنتها علا باهتمام خاص، وتتعلّق بها تعويضاً عن فقدها أمّها في السابعة. وهنا، لا تكتفي الكاتبة بسرد الأحداث وحركة الشخصية الخارجية بل تتوغّل في داخلها محلّلة نفسيّتها، مفسّرة تصرّفاتها.

ونقرأ انخراط علا في علاقات مع زملاء الدراسة الجامعية، تطوّرت مع كريم، المختلف مذهبيّاً، إلى علاقة حب كادت تُتوّج بالارتباط لولا نكوص الأخير على عُقبيه بدافع من مذهبية نائمة أيقظها فيه صديقه المتعصّب إبراهيم، وانتهازيّته التي دفعته إلى التقرّب من سهى ابنة السياسي النافذ، ما أدّى إلى تصرّم علاقته بعلا والتسبّب لها بكثير من الألم، قبل أن تنهض من صدمتها، وتكتشف كم كانت أسيرة الوهم، وكم كان هذا «الكريم» سخيفاً لا يعني لها شيئاً.

ونقرأ تفاني علا في دراستها، وتخرّجها بتفوّق، وانخراطها في العمل في شركة وائل، خال صديقتها ماجدة، ونجاحها فيه، وإعجاب وائل بها، وحبّه إيّاها، وطلبه يدها، وتريّثها في الإجابة ما يجعل العلاقة مفتوحة على أكثر من احتمال وإن كان شعورها بالندم على تريّثها، خلال الخطف، يشكّل مؤشّراً على قبولها عرض وائل… على أن حضور هذه الذكريات في النص لا يخضع لخطّيّة حصولها في الواقع بل لاعتبارات روائية فنية تقتضيها الوقائع الروائية.

من خلال «شخص آخر»، بوقائعها والذكريات، تقول نرمين الخنسا الدّرك الذي تردّت إليه الأمور في العالم المرجعي الذي تحيل إليه الرواية، فيتم اختطاف صبيّة في وضح الصباح، وتُحتجز حريتها في قبوٍ ستة أيام، ثم يُطلق سراحها بذريعة أن المقصود شخص آخر. يا لسخرية القدر!

وتقول تأثيرالعام على الخاص في أخصّ خصوصياته؛ فخطبة كمال وسحر، المختلفين مذهبيّاً، تؤول إلى الفسخ رغم تحابّهما بفعل الانقسام المذهبي، والعلاقة بين علا وكريم، المختلفين مذهبيّاً، لا تبلغ نهايتها المرجوّة بالارتباط رغم تحابّهما بفعل انتهازية كريم، وتغليبه المصلحة على الحب، وتأثّره بصديقه إبراهيم المتعصّب طائفيّاً.

وتقول، استطراداً، عدم قدرة الطلبة الجامعيين على النأي عن صراعات المذاهب بل ربّما ضحاياها ووقوداً لها. ثمّة إمكانية واحدة في الرواية لنجاح علاقة مختلطة تتعلّق بعلا ووائل غير أنها تبقى في إطار الاحتمال لا سيّما وأن السلك الذي ينتظم الذكريات، خلافاً لسلك الوقائع، ينتهي نهاية مفتوحة. وعلى الرغم من ذلك، ثمة إعلاء لقيم الأبوّة والأمومة والأخوّة (أسرة علا)، والصداقة (ماجدة)، والحب في الرواية (وائل) في وجه المذهبية والانتهازية والخطف والعنف.

لكلٍّ من السلكين في «شخص آخر» حبكته المستقلّة نسبيّاً، وهي حبكة بسيطة في كلٍّ منهما، تنتهي نهاية سعيدة في سلك الوقائع، بينما تبقى في سلك الذكريات مفتوحة على غير احتمال ونهاية. وفي السلكين تُمسك نرمين الخنسا بهما ببراعة، وتروح تنتقل بينهما بسهولة لا سيّما في حركتها المدروسة بين الذكريات حيث تنتقل بتلقائية من ذكرى إلى أخرى لوجود مناسبة أو قرينة تستدعي ذلك، ما يكسب النص السلاسة والمرونة، ويجعل البناء الروائي على قدر من البساطة المحبّبة.

وسواءٌ تعلّق الأمر بالوقائع أو بالذكريات، تتحرّك الخنسا بين السرد، الخارجي والداخلي، والوصف، وتحليل الشخصية، ورصد حركتها. وتُعرّج على أدب الرحلة في الوحدة السردية الثامنة عشرة، فتصف بعيون علا مشاهداتها في ماربيّا الإسبانية خلال رحلة عمل وحب. وبذلك تكون في الحركة بَرَكة.

وإذا كانت حركة الأحداث تتبلور غالباً في إطار السرد، فإنها تتحرّك أيضاً في إطار الحوار، وهو رشيق، طليّ، يتناغم مع السرد ويتكامل… والسرد والحوار كلاهما يتمّان بلغة سلسة، أنيقة، تؤثر الجمل المتوسطة والقصيرة، وإن كانت الجملة الثانية في الرواية امتدّت على ستّة أسطر وهي مسألة نادرة الحصول في النص. ولعلّ استخدام الكاتبة بعض المفردات التي تعبّر عن أصوات معيّنة وبعض المفردات المحكيّة، إضافةً إلى تراكيب محكيّة من قبيل: «أخذت دوشاً سريعاً» (ص8) هو ممّا يوهم بواقعية النص.

ومع هذا، يبدو بعض الوقائع غير مناسب للوضعيّة الروائية، فعمليّة تقديم الطعام ثلاث مرّات يوميّاً للمختطَفة هو ترف في غير مكانه. ويبدو بعض الذكريات مسلوقاً، فمن غير المنطقي أن يتحوّل مرور سهى العابر للسلام على إبراهيم إلى مناسبة للكلام على رغباتها وطموحاتها، واستعداد كريم الذي تلتقيه للمرة الأولى لمساعدتها.

«شخص آخر» رواية تعكس سخرية القدر، وتأثير العام على الخاص والحميم، وغلبة الأطر التقليدية للعلاقات على الحديثة، وتفوّق المصالح على العواطف، وتقدّم المذهب على الجامعة، وعدم حصانة المتعلّمين ضد المذهبية، وسهولة القفز فوق كرامات الناس ومشاعرهم... وهي تشكّل إحالة أمينة على عالم مرجعي يزخر بكل هذه المعالم. ومرّة جديدة، تثبت نرمين الخنسا قدرتها على رصد هذه العالم وتحوّلاته، في بعض تمظهراتها الأخيرة، والإحالة عليه بنص روائي جميل، مزدوج الحبكة، بسيطها.

الشخص الراوي في الرواية آخر لكن نرمين الروائية لا تزال هي نفسها!

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى