شعارات الحوار الإسلامي… تراث الإقصاء (إبراهيم الطَّالع)

إبراهيم الطَّالع

السّياسة مستقبلاً ستكون العدوّ الحقيقي للدّين، وقد يحدث ما حدث في أوروبا في العلاقة بين الكنيسة والدّولة بل نحن مهيأون لهذا، وقد تكون الصراعات المذهبية المضحكة التي نشهدها بداية لتلكم العلاقة.

حين أكتب رأيي هنا معتقداً وحدانيته، فقد رفعت بهذا بيرق جهلي بالحوار. لكنْ عندما أستقرئ واقعي وتاريخي لتشريحه، لا لفرضه فقد أسهمتُ في توصيفه على اعتباري قاعدياً اجتماعيا حياديا بعيداً، عن التسييس يحلل ما يراه دون تحيّز ولا خضوع للمصالح. فشعارات "الحوارات" عربياً وإسلامياًودوليا تدعونا إلى استقراء وضعنا الإسلامي قبل الدَّولي… إذ تصالح الإسلام مع الغير يقتضي تاريخاً فقهيّاً جماعياً يوجز هذا الموقف إيجازا أصوليّا لا يعتمد الفقيه بل يعتمد الفقه الجمعيّ، بمعنـى أنّ تاريخنا الفقهيّ اعتمد على المذاهب والعلماء كأفراد على اختلاف أزمنتهم وبيئاتهم وانتماءاتهم السياسية المُشخصنة مما نتج عنه المصادرات والإقصاء والقناعات الأحادية التي تهيئ الأمم للتنافر أكثر من تهيئتها للتآلف، وقد تكون تلكم الاختلافات ميزة وسَعَةٌ على المسلمين لو كانوا يملكون فقها جمعياًّ حقيقيا يستطيع فهم واستيعاب فهوم أشخاص المذاهب.
غير أنّ التشظّي السياسي عمل على خلق الشتات في الجماعية الإسلاميّة التي كان يمكن أن تكون حققت توحّدا يؤمن بكل مذاهبها دون إقصاء لما لا يجوز إقصاؤه بمجرد سيطرة فقه الأماكن وعاداتها على الفقه الجمعي الأعلى.
ثمّ إنّ ما شاب كتابة التاريخ الإسلامي من شكوك- منذ عهد الرواية الشفاهية حتى عهد كتابة المسموع الشفاهي- سيطرح أسئلة مستقبلية كثيرة وعميقة، فقد سألني صديق يهودي عربي ذات يوم في قطر: ما مدى صحة رواية حكم سعد بن معاذ على بعض يهود المدينة بعد أن استسلموا ونزلوا على حكمه بقتل رجالهم وسبي نسائهم؟ وكانت إجابتي إجابة الهروب نظرا إلى ما يمكن أن يكون دخل التاريخ الشفاهي من عرض قصصي غير موضوعي أدّى إلى كتابته في كتب التفسير والتاريخ.
فأنا ممن يعتقد أنّ مجمل تاريخ الإسلام الحقيقي عدلٌ في ذاته، وبالتالي فهو رمز للتآخي الإنساني والتسامح إذا علمنا أنّ مجمله خلاصة أصوليّة مفترضة ناتجة عن فقه جمْعيّ يعتمد مقاييس الأصول العليا غير المنتمية إلى إقليم أو عادات، من ناسخ ومنسوخ وخاص وعام ومجمل ومفصّل مما يفوت كثيرا من متشايخي الإسلام السياسي أو «إسلام البطالة العمليّة والتهافت على نجومية المنابر والشاشات بحثا عن وظيفة أعلى».
أما تصالح المسلمين مع الغير وتقبلهم إياهم، فذلك يخضع إلى أمور منها:تلكم الضغوط السياسية التي تدفع البعض إلى البحث اللاشعوري عن مبررات تعيد مجدا ساد العالم ذات يوم ثم اضمحلّ بحكم التغيرات السياسية بعد عهود الاستعمار التي أتقنت توزيع العالم الإسلامي وقواه بحيث يستحيل توحدها السياسي أو شبهه ذات يوم .
كما أنّ ما سبق الإشارة إليه في كتابة التاريخ الإسلامي أسهم في زيادة تنافر المفاهيم، فالبعض لم يزل يرى أنّ الجهاد بمفهومه يجب أن يكون استمرارا للفتوح الإسلاميّة التي خضعت لقوة المدِّ التاريخي «حتى عرفنا منهم من أقنع نفسه أنه يعيش حياة الفاتحين الأوائل بكل تفاصيلها وأشكالها وهو مستقر في قريته الوادعة التي لا دخل لها في الحراك المُسيّس» في الوقت الذي نعاني فيه تصدّعا عقديّا واجتماعيّا وخلقيا، فهلْ تصالحْنا مع ذواتنا حتى نتساءل عن تصالحنا مع الآخر؟
وما زا ل البعض- من أهل الوسطية الحقيقية التي لا تركَبُ التّقية- يعتقد أنّ قضيّتنا الكبرى هي: كيف نتصالح مع ذواتنا وكيف نلج عصرنا؟ وبعد ذلكم لنا أن نتساءل عن علاقتنا بالآخر. الإسلام دين، فهل استنبطنا منه قوانين علاقاتنا ومعاملاتنا نحن، فضلا عن استنباط علاقتنا بالغير؟ أليس كلّ عالِم إسلاميّ يمثّل -وحده- أمّة في بحثه وحفظه وأحكامه وفتاواه ثم يتبعه إقليمه أو بلده أو جزء منه؟
أين المؤسسات الإسلاميّة الشّاملة التي يعترف بها الكلّ حتى يمكن تصور مصالحة إسلامية على أساس القيم الروحية المشتركة؟ أليس لكل دويلة إسلاميّة مجالس علماء وإفتاء ونظام قضاء يرى أنه الأصح الأوحد، وأن قطرهُ هو الأوحد الذي يمثّلُ الإسلام، ويصر على استقلاليته في فتاواه وآرائه عن الآخرين؟
ثم إنه لا يشكّ عاقل أن ما يحكم العالم- بما فيه العالم الإسلامي- هو قانون المصالح، حتى لو رُفعتْ من أجل تحقيقها شعارات القيم، فلن يستطيع أحد فصل قانون المنفعة عن خلفاء بني أمية أو بني العباس أو غيرهم من خلفاء المسلمين، كما أنه لن يفصله عن الحروب الصليبية أو المغولية، برغم استخدام الجميع للقيم الدينية والمذهبية التي لم تزل تسيطر شكليا على شعارات بعض الدول الإسلامية، وحتى على شعارات أمريكا حين تتدخل لترويض غيرها، فهي تتدخل من أجل العدالة والديموقراطية غطاءً للمصالح وقد احتلت العراق باسم الله على لسان بوش!
أخيرا: فإن السّياسة مستقبلاً ستكون العدوّ الحقيقي للدّين، وقد يحدث ما حدث في أوروبا في العلاقة بين الكنيسة والدّولة بل نحن مهيأون لهذا، وقد تكون الصراعات المذهبية المضحكة التي نشهدها بداية لتلكم العلاقة، وأكرر السؤال: هل تصالحْنا وتحاورنا مع ذواتنا حتى نتصالح ونتحاور ونتقبل الغير؟

ميدل ايست أونلاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى