شعرة معاوية بين سوريا وخصومها

في العام 2007، جاء رجب طيّب أوردوغان إلى حلب، جلس مع الرئيس بشّار الأسد في مقصورةٍ واحدة، وشاهدا معاً مباراةً في كرة القدم بين ناديي «الاتحاد» السوري و «فنربخشة» التركي. اللقاءُ الوديّ جاء بمناسبة افتتاح استاد حلب الدولي، الصرح الرياضيّ الأكبر في سوريا وثاني أضخم استاد في الشرق الأوسط بعد استاد الملك فهد في السعودية. كلّ من شاهد المباراة تلمّس متانة العلاقة بين الرّجلين، والمشهد لم يكن مُحدثاً، فالعلاقات بين دمشق وأنقرة وُصفت، خلال العقد المنصرم، بالأخوية، حيث امتلأت شوارع سوريا بلوحاتٍ إعلانيّة تحثّ السوريين على قضاء مواسمهم السياحية في تركيا «جنّة الله على الأرض»، كما كانت تصفها تلك اللوحات الّتي وُزعت بإشراف وزارة السياحة. معامل حلب أوقفَ بعضٌ غير قليلٍ منها كُرمى لاتفاقِ التجارة الحرّة الموقّع بين البلدين، والّذي غزت بموجبه البضائع التركية الأسواقَ السورية على حساب الصنّاع الحلبيين، الّذين كانوا قرابين للتقارب السوري ـ التركيّ غير المسبوق. حتى أن أردوغان نفسه كان يصف الرئيس الأسد بالشقيق الأصغر. هذا كلّه تلاشى حين اقتضت السياسة ذلك، فصار التلاسنُ بين الرئيسين علنياً وفي مناسباتٍ لم تعد قليلة، وصار الإعلامُ السوريّ يُذكِّرنا سنوياً بالإبادة الأرمنية وبمجازر العثمانيين، وهو الّذي لم يلتفت إلى الجرح الأرمنيّ قبلاً. وضمن السياق نفسه أُعيد بثّ مسلسل «إخوة التراب» الّذي صوَّر نضال السوريين ضد جمال باشا السَّفاح وزبانيته في الشام.

حرص الرئيس الراحل حافظ الأسد، منذ توليه رئاسة الجمهورية العربية السورية العام 1971، على تمتين العلاقات السورية ـ السعودية، وبالفعل، فقد صمد التقارب بين دمشق والرياض لأكثر من خمسةٍ وثلاثين عاماً مرّت فيها المنطقة بمطبّات سياسية لا تُحصى، بدءاً من حرب تشرين 1973، وزيارة الرئيس المصري السابق أنور السادات للقدس 1977، واتفاقية كامب دايفيد 1979، والثورة الإيرانية على نظام الشاه محمد رضا بهلوي في العام ذاته، والاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان العام 1982، مروراً بحرب الخليج الأولى (1980 ـ 1988)، ثمّ الغزو العراقي للكويت العام 1990، تلته حرب الخليج الثانية 1991، وصولاً إلى مفاوضات السلام في العام ذاته. وخلال هذه الحُقبة لم ترقَ انقسامات البلدين (أي سوريا والسعودية) حيالَ القضايا الإقليمية إلى عتبةِ العداء العلنيّ، لكنّ الشكل القديم من العلاقة بدأ يتلاشى تحت تأثيرِ الظروف الّتي رافقت وصول الأسد الإبن إلى سدّة الرئاسة، بدءاً من سقوط بغداد 2003، مروراً باغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري العام 2005 وما نتج عنه من تداعياتٍ اتهامية أجبرت الجيش السوري على الانسحاب من لبنان، ثمّ جاءت حرب تموز 2006، تلاها العدوان الإسرائيلي على غزّة 2008، وهذه المنعطفات الرئيسة كانت كفيلةً بجعل جسر الديبلوماسية بين سوريا والسعودية متداعياً للغاية. وحين دارت كرة ثلج «الربيع العربي» وبلغت أبواب دمشق، انتقلت الرياض من عتبة التلاسن الناعم إلى عتبة الدعم العلنيّ والصريح لكلّ من يشتغل على إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد. لكنّ واقع الحال اليوم لا يمكن أن يُلغي ثلاثة عقودٍ من العسل السياسي بين البلدين.

العلاقات السورية ـ القطرية عرفت غزلاً سياسياً لا يمكن التنكّر له، دعمت دمشق موقف الدوحة من الجغرافيا المتنازع عليها مع البحرين، فباركت الدوحة موقف دمشق الداعم للمقاومة اللبنانية. ولم يكن الحال مختلفاً على صعيد الاقتصاد، فالعام 2007 كان قد شهد انفتاحاً وتعاوناً كبيرين بين البلدين، حيث تولّت شركة «الديار» القطرية الإشراف على مشاريع سياحية عدّة في الساحل السوري، وأُنشئت بنوكٌ وشركات قابضة وشركات ائتمانٍ قطرية في سوريا، حتّى أنّ الشيخة موزة شيّدت لنفسها قصراً في تدمر وأعلنت نفسها، بقبولٍ سوريّ، جارةً لزنوبيا العظيمة.

شكّل آذار 2011 منعطفاً تاريخياً في علاقات سوريا مع عددٍ من أصدقائها القدامى، فـ «تركيا الشقيقة» تحوّلت، في قاموس الإعلام السوريّ، إلى «أرض العثمانيين الجدد»، و «قطر الشقيقة» صارت تُدعى بـ «مشيخة آل ثاني»، واستُبدلَت تسمية «المملكة العربية السعودية» في نشراتِ الأخبار المحلية بـ «مملكة الرمال»، الّتي اشتغل المخرج نجدة أنزور على فضح بشائع تاريخها في فيلمٍ طويل لم يُعرض حتى اليوم في سوريا، والغالب أنّه لن يُعرض، حفاظاً على شعرةِ معاوية الّتي لم يلتفت إليها الكثير من أنصار شارع الموالاة بُعيد وفاة وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل في 9 تمّوز 2015، حيث غصّت المواقع الافتراضية بتدويناتٍ وتعليقاتٍ تحتفل بوفاة الديبلوماسيّ السعوديّ الّذي لعبَ دوراً رئيساً في الحربِ على سوريا، حتّى أنّ بعضَ ما كُتب جنح نحو توصيف الحدث بالنّصر السوريّ الكبير!

نستطيع أن نقبلَ ردّ الفعلِ الاحتفاليّ سابق الذكر حين يجيء من عامّة النّاس، ويُمكن لنا أن نبرّر فرحتهم وفق محدّدات الحرب الّتي لم توفّر فيها الرياضُ وسيلةً إلّا واستخدمتها للقصاص من دمشق، لكنّ هذا الفعل حين يجيء من نخبةٍ مثقّفة، فإنّه يستوجب التوقّف عنده لتوضيحِ لبسٍ بسيط:

كلّ حربٍ تخوضها سوريا ضدّ عدوٍّ غير إسرائيل هي حربٌ سوف تُطوى صفحتها عاجلاً أم آجلاً، وكلّ عداءٍ مع قومٍ غير الصهاينة هو عداءُ مرحلةٍ لن يُورَّث للناشئة من أولاد البلد، ولو قُدّر للمبادرة الّتي دعا الرئيس فلاديمير بوتين بموجبها إلى تشكيلِ حلفٍ يضمّ دمشق والرياض وأنقرة وعمّان بغية وقف تمدّد تنظيم «داعش» ومقاتلته على الأراضي السورية والعراقية، لو قدّر لها أن ترى النّور، لانحسرت خطابات العداءِ بين سوريا وخصومها، ولربمّا تلاشت.

مبادرة الرئيس الروسي قد تُبصر النور في قادمات الأيّام، هذا محتملٌ جداً. كما أنّ وأد المبادرة من الحليف الأميركيّ، أو من قبل أدواته في المنطقة، متاحٌ أيضاً. لكنّ كلّ الدروب سوف تُفضي في نهاية المطاف إلى تسويةٍ دولية وإقليمية تسقطُ عند أعتابها خلافات الخصومِ إلى غير رجعة، ولنا في الإعلامِ الإيرانيّ اليوم مثالٌ يُحتذى. فالشيطان الأكبر، الّذي نادت الثورة الإسلامية بقتاله لثلاثةِ عقودٍ ونيّف، صار اسمه «الولايات المُتحدة الأميركية». ليس هذا فقط، فالبدء في تطبيق محدّدات الاتفاق النووي بين طهران وواشنطن سوف يُسقط شعار «الموت لأميركا» من القاموس الإيرانيّ من دون أدنى شك، وعليه:
يتوجّب على المتبجّحين بشتم السعوديّة وقطر وتركيا أن يعوا أنّ دولاب السياسة سوف يدور، وستفرضُ المصالح نفسها على الرّاغبين وعلى غير الرّاغبين في التصالح مع الاصطفافات الجديدة. فمن عادى السعوديّة سياسياً، عليه أن يتحضّر لمصافحتها سياسياً، أمّا أعداءُ الوهابيّة وما ينبثق عنها من معتقداتٍ ظلاميّة، والّتي تُشكّل السعودية أضخم خزّانٍ بشريّ لها في العالم، فلهم مجد النضال ضدّ التطرّف بكلّ أشكاله، وهذا نضالٌ مديد لا ينتهي بمواتِ الخصوم، وإنّما بمواتِ الفكر الّذي يشتغل الخصومُ على نشره وتصديره.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى