صبرا وشاتيلا بعد 31 عاماً : طقس المجازر (نصري الصايغ)


نصري الصايغ

 

لم تتحول «صبرا وشاتيلا» إلى طقس بعد. بين عام وعام، تتلاشى ثم تمَّحي. قلَّة نادرة تواظب على التذكر.. وهي ليست أكثر من مناسبة، تحضر لأيام، بضآلة تتضاءل، ثم تنسحب إلى النسيان.. هي عبور مؤقت في الذاكرة اللبنانية.. هي نسيان دائم في الذاكرة العربية.. هي لا تقتحم اليوميات الفلسطينية، لانشغال الأيام، بما ترزقه السياسة وبما تتصدق به الرهانات وبما يليق بجولات التفاوض.
صبرا وشاتيلا تاريخ مضى. تاريخ انقطع عن الاتصال بنا، لأننا آثرنا الاختباء خلف العجز، وبررنا غيابنا عن المجزرة، بأسباب «وجيهة» جداً، أهمها، الاعتناء بقبور الأحياء والانشغال بترتيب السياسة بعد إفراغها من أخلاقها.
لم تتحول «صبرا وشاتيلا» إلى طقس. والطقس حضور دائم في التقليد والثقافة والشعر والأدب والموسيقى والتذكر والغناء وإقامة النصب.. الطقس، ذاكرة تسير على قدميها، ويشترك فيه الكثيرون، عبر فروض مرغوب بها، ترقى إلى رتبة المقدَّس الدنيوي وإلى مقام إدامة الحياة.. الطقس، تاريخ مستدام لا يتوقف، لأنه حامل معانٍ، تتصل بالحياة والمبادئ والأخلاق والسياسات الراقية.. الطقس، عندما يكون من أصل إنساني ـ تراجيدي، يرقى إلى مقام ما فوق إنساني، ويصير تاريخاً ناطقاً كل يوم.
لم تتحول «صبرا وشاتيلا» إلى طقس، لأنها كانت ممنوعة، وباتت مهملة، بقرارات متتالية، تناوب على اتخاذها، أصحاب سلطة، ورجال دين، وقادة مذاهب، ودولٌ عظمى، ذات رتب حضارية لم تتحول «صبرا وشاتيلا» إلى قداس يتلى كل يوم، إلى مقام يزار كل لحظة، إلى شاهد على فداحة القتل، إلى متحف يوخز الضمير، إلى مشهدية تحاكم القتلة، إلى صوت مهمته تأنيب المرتكبين وتقريع ذواتهم بما ارتكبته أيديهم، إلى ممر إلزامي للزوار الأجانب، كي يكونوا شهوداً على «المحرقة»…
إسرائيل تفرض على زوارها، زيارة النصب التذكاري للهولوكوست. اخترعت طقساً وتقليداً، يبقي «المحرقة» مشتعلة.
لقد تم اغتيال «صبرا وشاتيلا» مراراً. والذين تناوبوا عليها، أفدح من الذين ارتكبوا المذبحة، ونجوا من العقاب، وكوفئوا بالعفو والسماح، ومُنحوا نعمة الإغفال، فتبوأوا مراتب عليا في السياسة والمال والدين و… «الوطنية».
لم يكن أحد يرغب في الدخول إلى «صبرا وشاتيلا». يريدون إقفال أبوابها وحكاياتها, وتطبيق شريعة الصمت، ومعاقبة الإفصاح عما جرى، وحماية من بات معروفاً، اشتراكه في القتل والذبح والسفك والحرق والاغتصاب، احتراماً لتقاليد «الوحدة الوطنية» الرثة.
دول الغرب، صاحبة الرعاية لحقوق الإنسان، والداعية لمحاسبة مجرمي الحرب، أقفلت أبواب محاكمها الرمزية، لمحاسبة أرييل شارون (بلجيكا نموذجاً) أما المنفذون اللبنانيون المعروفون جداً، فقد حضروا فقط في إضبارة التحقيق المغلقة بأحكام، والموقع عليها من القاضي الراحل أسعد جرمانوس.
بيننا وبين «إسرائيل» فجوة كبيرة. هذه الدولة التي لا تاريخ لها، إلا منذ العام 1948، هي الدولة التي تقيم للتاريخ وزناً مثالياً، فجعلت منه أساساً لوجودها (ولو كان تاريخاً ملفقاً) ثم احتكرت الإقامة فيه، واحتلت منه حيزاً بارزاً: كل ما أصاب اليهود من عذابات ومآس وصولا إلى «الهولوكوست» هو في مقام المقدس في هذا التاريخ، وعلى الجميع أن يحترموه ويقفوا عنده، وممنوع المساس به، حتى ولو كان من باب الولوج الأكاديمي. التاريخ هنا حرام، لا يحلل فيه لأحد أن يشتبه به أو ينقص منه، وإذا أنكره أحد ما، اتُهم بالكفر، ونال العقاب، وآخر «المذنبين»، كان الأب بيار، شقيق الفقراء في العالم.
لقد حوّلت إسرائيل «الهولوكوست» إلى طقس يومي على مساحة عالم يلتزم بما تقرره ذاكرتها الحيَّة.
ماذا فعلنا نحن بـ «صبرا وشاتيلا»؟
أغلقنا الأبواب. أوصدنا الأزقة. خدّرنا الضمائر. واكتفينا، بين عام وعام، باستقبال وفود أجنبية، تصرّ على أن تكون حارس الذاكرة التي تحمي «صبرا وشاتيلا» من النسيان. هل تستعاد ذاكرة المجزرة؟ هل يكون مقامها في التاريخ، مقام الحضور الدائم في هذا العالم؟
شيء من ذلك يلزم أن يحدث يوماً ما، إذ، لا يجوز أن تموت «صبرا وشاتيلا»، وتدفن في الربع العربي الخالي.. من الإحساس والضمير والإنسانية. إرادة الحياة اليوم، أقوى من سحر الإهمال.


صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى