كتب

‘تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ’ لـ هنري كيسنجر

‘تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ’ لهنري كيسنجر….آخر رؤى وأفكار قدمها وزير الخارجية الأميركي السابق كان له تأثير كبير في الرؤى السياسية، حيث توقف أمام أكثر ما يواجه النظام العالمي من التحديات وخاصة التحدي الأمني والاقتصاد والتكنولوجي.

هنري كيسنجر – تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ

  كانت آخر رؤى وأفكار قدمها هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي السابق للنظام العالمي، قدمها في كتابه “النظام العالمي.. تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ” الذي كان له تأثير كبير في الرؤى السياسية. حيث توقف أمام أكثر ما يواجه النظام العالمي من التحديات وخاصة التحدي الأمني والاقتصادبي والتكنولوجي. لافتا إلى أن الفترة الممتدة من 1948 إلى نهاية القرن العشرين لحظة عابرة في التاريخ الإنساني. وفرت للمرء فرصة الكلام عن نظام عالمي أولى قائم على نوع من المزاوجة بين النزعة المثالية الأميركية من جهة ومفاهيم توازن قوة تقليدية من جهة ثانية. غير أن نجاح المشروع بالذات ما لبث أن أدى إلى جعل تعرضه اللاحق للتحدي أمرا محتوما، أحيانا باسم النظام العالمي نفسه.

يرى هنري كيسنجر الذي يعد أبزر مهندسي السياسة الخارجية الأميركية على الاطلاق بحكم توليه العديد من المناصب المهمة داخل أكثر من إدارة أميركية، في كتابه الذي ترجمه فاضل جتكر وصدر عن دارالكتاب العربي، أن النظام المستند إلى القواعد يواجه اليوم عددا من التحديات، والنداءات المتكررة الداعية للبلدان إلى الاضطلاع بحصصها العادلة. إلى الالتزام بـ قواعد القرن الحادي والعشرين. أو إلى أن تكون أطرفا مسؤولة في منظومة مشتركة، تعكس واقع عدم وجود تعرف مشترك للنظام أو فهم لما من شأنه المساهمة العادلة أن تكونه. وخارج العالم الغربي تبادر الأقاليم التي لم تلعب إلا حدودا دنيا من الأدوار في الصياغة الأساسية لهذه القواعد إلى عن مدى صلاحياتها بصيغتها الحالة. وقد عبرت صراحة عن الرغبة في العمل على تعديلها. ومع أن عبارة الأسرة الدولية يتم استحضارها الآن بإلحاح أكبر من أي حقبة أخرى، فإنها لا تعرض أي حزمة واضحة أو متفق عليها من الأهداف، المناهج، أو الحدود.

طلائع الأمم ومسار التاريخ’ لـ هنري كيسنجر

ويقول “عصرنا دائب باإلحاح، بل وبما يقرب اليأس أحيانا، على السعي لامتلاك تصور لنظام عالمي. ثمة الفوضى مهددة جنبا إلى جنب مع تبادل غير مسبوق للتبعية والاعتماد في ظل انتشار أسلحة الدمار الشامل، تفكك الدول، تأثير عمليات السطو على البيئة، وتمادي ممارسات إبادة الجنس، وانتشار تكنولوجيات جديدة تهدد بدفع الصراع إلى ما بعد تحكم البشر وإدراكهم. ثمة مناهج جديدة لامتلاك المعلومات وإيصالها توحد أقاليم كما لم يسبق له أن حصل وتنبئ بأحداث كونية ـ وإن بطريقة تحول دون التأمل، مطالبة القادة بالمسارعة إلى تسجيل ردود فعل آنية على شكل شعارات قابلة للتفسير، فهل نحن في مواجهة فترة تتولى فيها قوى عصية على قيود أي نظام تحديد لمصير المستقبل؟”.

الصراع الطائفي والغليان السياسي عبر أوروبا الوسطى

ويرى أنه ما من نظام عالمي كوكبي فعلا سبق له أن كان موجودا بالمطلق، وما يعد نظاما في زماننا تم اجتراحه في أوروبا قبل نحو أربعة قرون، في مؤتمر للسلام بمنطقة وستفاليا الألمانية، عقد دون انخراط بل وحتى دون علم أكثرية القارات أو الحضارات الأخرى. قرن من الصراع الطائفي والغليان السياسي عبر أوروبا الوسطى كان قد تتوج بحرب السنوات الثلاثين التي دامت من 1618 إلى 1648، تلك المحرقة التي تزاوجت فيها النزاعات السياسية والدينية، واعتمد فيها المقاتلون أسلوب الحرب الشاملة ضد المراكز السكانية، وقضى فيها نحو ربع الكتلة السكانية لأوروبا الوسطى نحبهم جراء القتال، المرض، أو الجوع.

أما المشاركون المتعبون فما لبثوا أن اجتمعوا لتحديد جملة من الاتفاقيات التي كان من شأنها وقف نزيف الدم. كانت الوحدة الدينية قد تمزقت مع بقاء المذهب البروتستنتي وانتشاره؛ كان التنوع السياسي متجذرا في العديد من الوحدات السياسية المستقلة التي كانتقد قاتلت حتى الرمق الأخير. هكذا إذن تم في أوروبا الاقتراب من شروط النظام العالمي المعاصر: وحدات سياسية متعددة ليس فيها واحدة ذات قوة كافية لدحر الأخرى، وكثرة منها متبنية لفلسفات وممارسات داخلية متناقضة، بحثا عن قواعد محايدة لضبط سلوكها والتخفيف من الصراع.

الإمكانيات اللامحدودة التي أتاحتها التكنولوجيات الجديدة

ويلفت إلى أنه جنبا إلى جنب مع الإمكانيات اللامحدودة التي أتاحتها التكنولوجيات الجديدة، يتعين على تأمل النظام الدولي أن يشتمل على الأخبار الداخلية لمجتمعات يحركها الاجماع الجماهيري. مجتمعات محرومة من السياق. وبعد النظر اللازمين على مستويات متناسبة مع طابعها التاريخي. في جميع الأحقاب الأخرى، ظل هذا يعد جوهر القيادة. أما في حقبتنا نحن فإنه يخاطر بالتعرض للاختزال إلى سلسلة شعارات مصممة لأسر الإعجاب أو الاستحسان المباشر، القصير الأجل. تتعرض السياسة الخارجية لخطر التحول إلى إحدى الشعب الثانوية للسياسة الداخلية. بدلا من بقائها ممارسة لعملية صوغ المستقبل وتشكيله. وإذا ما أصرت البلدان الرئيسية على إدارة سياساتها على هذا النحو داخليا، فإن علاقاتها على المسرح الدولي سوف تعاني من تشويهات ملازمة. من الممكن دون شك إحلال التشدد في الاختلاف محل الاهتداء إلى الرؤيا محل الاهتداء إلى الرؤيا. والتباهي محل السياسة الحصيفة. مع قلب الدبلوماسية إلى إيماءات وصرعات تخاطب الأهواء والغرائز. يخاطر التعادل بالاستسلام لنوع من اختيار الحدود.

هنري كيسنجر – بناء أي نظام عالمي متعلق بجوهر مبادئه الموحدة

ويضيف هنري كيسنجر. أنه في بناء أي نظام نظام عالمي، ثمة رئيسي متعلق حتما بجوهر مبادئه الموحدة. حيث يكمن فرق أساسي بين مقاربات غربية وأخرى غير غربية للنظام. منذ النهضة بقي الغرب عميق الالتزام بفكرة أن العالم الواقعي خارجي بالنسبة إلى المراقب. أن المعرفة تتألف من تسجيل المعطيات ـ الداتا ـ وتصنيفها ـ المعطيات التي تكون أفضل كلما كانت أكثر دقة. وأن نجاح السياسة الخارجية يتوقف على تقويم جملة الوقائع والاتجاهات الموجودة. كان السلام الوستفالي يمثل حكما على الواقع. لا سيما وقائع السلطة والأرض ـ بوصفه مفهوما زمانيا ناظما، لا على أنه مطلب ديني.

ويرى هنري كيسنجر أنه آجلا إن لم يكن عاجلا لابد لأي نظام دولي من التصدي لتأثير توجهين متحديين لتماسكه. إما نوع من إعادة تحديد مشروعيته. أو قدر ذو شأن من التحول الطارئ على توازن القوة. يحصل التوجه الأول عندما تتعرض القيم الكامنة في عمق الترتيبيات الدولية للتغيير جذريا .يتجلى عنها أولئك المكلفون بصونها . أو مقلوبة جراء فرض ثوري لمقهوم مشروعية بديل. كان هذا تأثير الغرب لصاعد في عدد كبير من الأنظمة التقليدية في القرنين السابع والثامن. تأثير الثورة الفرنسية في الدبلوماسية الأوروبية في القرن الثامن عشر. وتأثير الانقضاض الإسلامي على بنية الدولة الهشة في الشرق الأوسط في هذه الأيام.

ويتابع هنري كسنجر أن جوهر مثل هذه الانتفاضات يتمثل، مع بقائه مدعوما ومعززا بالقوة، بكون زخمه الطاغي سايكولوجيا. ضحايا الإغارة يواجهون لا تحدي الدفاع عن أرضهم وحسب بل عن المنكلقات الأساسية لنمط حياتهم. عن حقهم الأخلاقي ـ المعنوي في الوجود والتحرك بطريقة كانت، إلى حين ظهور التحدي، فوق المساءلة أو التشكيك والنزوع الطبيعي. لاسيما لدى قادة من مجتمعات تعددية، هو حسن النية حول أسس النظام القائم وصولا إلى نوع من الحل المعقول.

هنري كيسنجر – أسباب أزمة النظام الدولي وإخفاقه

1- الإخفاق في فهم طبيعة التحدي المنتصب أمامه ومداه

يتم إخضاع النظام لا عبر هزيمة عسكرية في المقام الأول. أو جراء اختلال في الموارد (وإن كان هذا لا يلبث أن يتبع). بل بسبب نوع من الإخفاق في فهم طبيعة التحدي المنتصب أمامه ومداه. بهذا المعنى، يكون الامتحان النهائ للمفاوضات النووية الإيرانية ما إذا كانت المزاعم الإيرانية المؤكدة لنوع من الاستعداد لحل المسألة عبر المباحثات تحولا استراتيجيا أم هي مجرد أداة تكتيكية ـ مواصلة لسياسة سائدة منذ أمد طويل . وما إذا كان الغرب سيتعامل مع ما هو تكتيكي كما لو كان تغييرا استراتيجيا في التوجه.

2- العجز عن استيعاب تغيير رئيسي في علاقات القوة.

السبب الثاني لأزمة النظام الدولي هو إبداؤه العجز عن استيعاب تغيير رئيسي في علاقات القوة. في بعض الحالات ينهار النظام لأن واحدا من أطرافه المكونة يكف عن الاضطلاع بدوره أو يتوقف عن الوجود . كما حصل مع الأممية الشيوعية قبيل نهاية القرن العشرين عندما تفكك الاتحاد السوفيتي. أو أن قوة صاعدة قد ترفض الدور المخصص لها في نظام لم تصممه. وقد تبرهن القوى الراسخة على أنها عاجزة عن تعديل صيغة النظام بما يمكنه من استيعابها. انبثاق ألمانيا شكل تحديا من هذا القبيل للنظام في القرن الواحد والعشرين بأوروبا. ما أدى إلى حربين كارثيتين لم تتعاف أوروبا منهما تماما على الإطلاق. بروز الصين يطرح تحديا بنيويا شبيها قي القرن الواحد والعشرين.

رئيسا البلدان الرئيسيين المتنافسين في القرن الواحد والعشرين ـ الولايات المتحدة والصين ـ أقسما بألا يكررا مأساة أوروبا عبر أي نمط جديد من أنماط علاقات القوى العظمى. والمفهوم ينتظر مزيدا من الإنضاج المشترك. قد يكون مطروحا من قبل أحد الطرفين مناورة تكتيكية. مهما يكن فإنه يبقي الأسلوب الوحيد لتجنب تكرار مآس سابقة.

ومما يخلص أنه يمكن لنظام دولي عالمي مؤكد للكرامة الفردية ونظام الحكم القائم على المشاركة، ومتعاون دوليا وفق قواعد متفق عليها، أن يكون أملنا ويجب أن يبقى منبع إلهامنا. غير أن السير قدما باتجاهه سيتطلب الدعم والإدامة عبر سلسلة من المراحل. من الأفضل لنا في فترة انتقالية معينى، كما كتب إدموند بورك ذات مرة، “لخطة موصوفة لا ترقى إلى مستوى الكمال الكلي للفكرة المجردة، بدلا من الإصرار على الدفع من أجل ما هو أكثر كمالا”.. والمخاطرة بأزمة أو خيبة جراء التمسك بالحد الأقصى مباشرة. تحتاج الولايات المتحدة إلى استراتيجية ودبلوماسية تتيحان فرصة التعامل مع تعقيد الرحلة ـ سمو الهدف جنبا إلى جنب مع عدم الكمال المتأصل في المحاولات الإنسانية الذي ستتم مقابته عن طريقها.

ميدل إيست أونلاين

 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى