شرفات

طواف حول بيت أدونيس : يوم منعني أدونيس من تصوير بيته !

منعني الشاعر الكبير علي أحمد سعيد (أدونيس) من التصوير في بيته ، لكنه لم يمنعني من الدخول إليه، فقد كنا نحو عشرين كاتباً وشاعراً حللنا ضيوفاً على مهرجان جبلة السنوي في عام 2008 ،فدعانا إلى بيته ثم إلى مائدته في أحد المطاعم المعروفة هناك، وكان بشوشاً ضاحكاً متواضعاً في تعامله مع الجميع.

ومنعي من التصوير يعود إلى أن تعامل الإعلام في سورية مع أدونيس شائك، أو ربما هو موقف منه ، فأنا لا أذكر أن هناك لقاءً أو حواراً أو فيلماً عن أدونيس في أرشيف التلفزيون السوري، لذلك كان هاجسي أن أنفذ فكرة فيلم عنه ، لولا أنه اعتذر بلباقة، عندما عرف أنني من تلفزيون الدنيا الذي كان في أول انطلاقته قبل أن يتحول إلى قناة (سما) الفضائية الحالية.

تحايلت عليه، فطلبت أن أصور قرية قصابين، ومحيط بيته من الخارج، فوافق على مضض، وعندها، كان علي أن أعيد سيناريو التصوير الذي كنت وضعته لأحقق غايتي، فكيف يمكن أن أنجز فيلماً عن أدونيس دون أن يشارك فيه أدونيس نفسه، وكيف لا أستطيع التصوير داخل بيته !

كانت برفقتي الكاتبة السورية رشا عباس، فراحت تراقب حيرتي، وهي تعرف أن هويتنا في الإعلام المحلي ومهاراتنا لا تليق بأدونيس الذي يتسابق على الحوار معه أشهر العاملين في الإعلام العربي والعالمي.

شعرتُ بالتحدي، وانتابني إحساسٌ بانتهاز الفرصة، فدرت حول بيته عدة مرات، وبيت أدونيس لمن زاره ، بيت ساحر، يعتبر نقطة علام في مدينة جبلة، والمكان البارز في قرية قصابين، وخطرت لي الفكرة : سأنجز فيلما بعنوان : (طواف حول بيت أدونيس) ، فأبني على التصوير الممكن المسموح به فكرة استثنائية لأنجز شيئاً كنت أتوقع أن لايكون ناضجاً .

تحولت إلى سارق لهوية المكان، واتفقت مع المصور على أن يسهب في التقاط التفاصيل الخارجية، ويقوم باستراق ما يمكن تصويره من ملامح البيت الداخلية عبر النوافذ وبعدسة الزوم ، وأوصيته أن ينتبه إلى التفاصيل، وخاصة اللوحات، ثم يحرك الكاميرا من خلف النوافذ الواسعة لتنكشف معالم البيت الداخلية.

بنى أدونيس بيته في مطلع التسعينات من القرن الماضي، وعندما تمعنت في اللقطات والتفاصيل المصورة، أحسست وكأن نرجسيته تنبأت بأن أحداً لن يقوم بتخليده في بلده، وهو الذي يحمل أكثر من جنسية ، لذلك كان واضحاً أنه يريد لبيته أن يتحول مع الزمن إلى متحف ثقافي ، فيجمع فيه مؤلفاته وأرشيفه الثقافي الغني في مكتبته وستكون خطوته من أهم الملامح المعاصرة في الثقافة السورية .

والغريب أنه خصص مكاناً لقبره، ليُدفن فيه جثمانُه عندما يموت، وترك منحوتة في حديقة البيت توحي بأزلية الكتاب والفكر، وفي الداخل علّق على الجدران اللوحات التي رسمها بريشته ..

أنجزت الفيلم ومدته (12) دقيقة، وعرضه تلفزيون الدنيا في ذلك الوقت، وبقيت زمنا طويلاً أفكر في أهمية بيت أدونيس إلى أن اتخذت قراراً ببناء بيت للناس في قريتي يسمى (بيت الكاتب) ، وشرعت بتنفيذه ، وكان على رأس تلة جميلة في عسال الورد، كان في تصوري أن ألونه بالأزرق الفاتح (السماوي) لأن الكتابة لايمكن أن تزدهر دون فضاء، وعندما بدأت الحرب انهار مشروعي، وظل على الهيكل وحيداً بارداً  يكاد يكون ميتاً رغم أنه يلوح لي من رأس التلة، وعندها كتبت عن هذا البيت، وأسميته (البيت الأزرق) ، وقلت إنه سيتحدى البيت الأبيض في واشنطن لا لعظمته وبذخه وإنما لفكرته.

واليوم شعرتُ بالتحدي نفسه، بأن أتم بناء هذا البيت، بعد الإحباط  الذي انتابني عندما سمعت همساً مرّاً حول عنوان روايتنا التشاركية (القطار الأزرق) التي صدرت قبل أشهر، وخاصة التساؤلات المتعلقة بلون القطار، تلك التساؤلات أعادتني إلى أدونيس الذي منعني من تصوير بيته من الداخل، فسرقت منه فضاءه الأزرق في فيلم يدور حول البيت ولا يدخله.

نعم فأدونيس علّمنا أن الفضاء الثقافي هو الأهم للحوار بدل الانغلاق، ولذلك أرجو أن يطيل الله في عمري لأنجز (القصر الأزرق) ، وفيه كتبي الكثيرة التي ضاقت بها الأمكنة، وحتى كتب أولئك الذين أرادوا الإساءة لفكرة القطار الأزرق ففشلوا، وسأضع على جدران البيت صور للوحات الفترة الزرقاء  للفنان العالمي بيكاسو، وعلى البوابة سأكتب بيت الشعر الذي ردده أمامي الصديق توفيق أحمد عندما سمع بالثرثرات حول اللون الأزرق ، ويقول البيت :

لو لم يكن أجمل الألوان أزرقها              ما اختاره الله لونًا للسماواتِ

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى