طوني موريسون في خضم عنصرية اللون الأسود

نالت طوني موريسون الإفريقية الأميركية عدداً من الجوائز التي توّجتها سنة 1933جائزة نوبل. وتتميّز رواياتها بدقة وصفها الأشخاص وتحليل نفسياتهم، وليس مستغرباً أن تختارهم من أبناء جلدتها والعالم الذي يعيشون فيه. هنا قراءة في روايتها الجديدة «اعان الله الطفل» God help the Child الصادرة عن دارKnopf في نيويورك.

تتوزع رواية «أعان الله الطفل» إلى أربعة أقسام، عنوان كل منها باسم إحدى بطلات القصة، تروي أحداثها بصيغة المتكلم. تبدأ الرواية بفزع البطلة حين أنجبت طفلة سوداء كالليل مع أنها وزوجها خلاسيان. في أول الأمر حاولت التخلص من الطفلة التي سمّتها «لولا آن». تركها زوجها، فربّتها وحدها، وطلبت منها أن تسمّيها «سويتنيس»، وأن لا تدعوها «ماما» كي تخفي عن الناس أنها ابنتها. وكانت الأم تقسو على ابنتها قسوة غير طبيعية، مدعية انها تفعل ذلك لمصلحتها. فبعد أن كبرت الطفلة قطعت علاقتها بوالدتها، غيّرت اسمها إلى «برايد». وبعد ان استفادت من نصائح مسؤول في المبيعات، غيّرت ملابسها، وأصبحت أناقتها بفضل قامتها الممشوقة محط الأنظار، ونجحت في تأسيس مكتب لمستحضرات تجميل رائجة. ولكن على رغم ذلك، ظلت تواجهها عنصرية البيض الذين تعاملت معهم. عاشت فترة مع «بوكر» الذي أحبّته، وما لبث أن تركها فجأة، ولم تعرف السبب إلا في ما بعد. طُلبت «برايد» لتشهد ضد معلمتها «صوفيا هاكسلي» المتهمة بالتحرش بالأطفال.

سُجنت المعلّمة خمس عشرة سنة، وحين خرجت من السجن حملت إليها «برايد» هدايا ثمينة ومالاً، فرمت صوفيا الهدايا وضربت برايد ضرباً مبرحاً وطردتها. ولما عادت برايد إلى البيت وجدت أن حبيبها كان قد تركها. ركبت سيارتها وساقت تفتّش عنه، وفي الليل لم ترَ شجرة ضخمة في الطريق، صدمتها، فعلقت السيارة في جذعها الضخم، وعلقت «برايد» في مكابح السيارة، عاجزة عن الخروج، فاضطرّت إلى قضاء الليل كله في سيارتها المحطمة، غائبة عن الوعي من الألم، إلى أن مر ستيفن،ّ رجل طيّب، فنشر الشجرة، حملها إلى بيته، أحضر طبيباً وضع رجلها في جُبيرة للعظام وأمرها براحة شهرين على الأقل. فسكنت ستة أشهر في كوخ الزوجين الطيّبين. كانت لهما ابنة بالتبني، كانت امها تجبرها على مضاجعة رجال إلى ان هربت فخلصها ستيفن. أثناء إقامة «برايد» هذه لاحظت تغييراً غريباً في جسدها إذ اختفى ثدياها فأصبح صدرها أملس كصدر فتى.

ثم تنتقل الرواية إلى «بوكر» حبيب «برايد» السابق. فنعرف انه خريج جامعة، كان قد ضرب رجلاً رآه يتحرّش بأولاد وأدماه. ومن عودته إلى طفولته، نتبين أنه قضى طفولة سعيدة إلى أن اختفى أخوه الحبيب «آدم». حين أنبأوا الشرطة هزّ رجالها أكتافهم غير مبالين إذ «أية مصيبة هذه في أن يختفي ولد أسود آخر» (ص113). بعد ست سنين عُثر على من قتل آدم وخمسة آخرين، «رجل طيّب» في الظاهر، اكتشفوا أنه كان يعذّب ضحاياه ويسلخ اعضاءهم قطعة قطعة إلى أن يموتوا.

بعد تخرّج بوكر وعودته إلى بيت والديه تشاجر مع اخته فغادر ليسكن عند صديقة قديمة إلى أن تعدّى على زوجين كانا يحشّشان فيما يصرخ طفلهما في سيارتهما. سجنت الشرطة الثلاثة، وحين خرج بوكر من السجن طردته صديقته. إلا أن جدّه الغني توفي تاركاً أمواله لأحفاده، فتمكن بوكر أخيراً من شراء بيت. وكان هذا كله قبل أن يلمح «برايد» ويأسره جمالها الأسود، فيسكن معها. أثناء غيابها في العمل، يقرأ الكتب في المكتبة أو يعزف على بوقه إلى أن هرب.

وتعود بنا الرواية إلى برايد التي تابعت البحث عن بوكر بعد أن شفيت. اهتدت إلى مكان إقامته قرب خالته الحبيبة «كوين». بعد لأي وصلت إلى القرية المزرية التي أقامت فيها الخالة التي دلّتها على كوخ بوكر. حين رآها شتمها وطردها من غير أن تعرف السبب إلا بعد أن أطلعها عليه وعلى سبب تركه بيتها سابقاً. بعد شجار عنيف نامت برايد، إلا أنها لاحظت أن ثدييها اللذين كانا قد اختفيا ظهرا ثانية، كبيرين، ممتلئين. وظل بوكر ساهراً إلى أن تنبّه إلى رائحة حريق. خرج راكضاً فوجد كوخ كوين يحترق وهي في داخله. حملها وبرايد إلى المستشفى، اعتنيا بها معاً، ولكنها ما لبثت أن فارقت الحياة. بعد دفنها استقلا سيارة برايد ليعودا إلى بيتها، وأخبرته برايد أنها تنتظر طفلهما، طفل حياة جديدة، «محصّن ضد الشر، أو المرض، ضد الخطف والضرب، الاغتصاب والعنصرية، ضد الشتائم وكره الذات والهجر…هذا ما اعتقداه.» (174-175) حين كتبت إلى أمها تنبئها استرجعت «سويتنس» كل أخطائها في معاملتها برايد، ولكنها رأت أن ابنتها ستكتشف صعوبة تربية الولد، وكيف يتغير العالم والحياة حين تكون أماً. وتنتهي إلى إرسال تحية صامتة إلى ابنتها: «حظاً سعيداً، وأعان الله الطفل. (ص178)

إلا أن اكثر ما يلفت النظر في هذه الرواية هو براعة الكاتبة في حبك عقدتها. فإلى جانب عودتها الدائمة من الحاضر إلى الماضي في سرد الأحداث والتعريف بالشخصيات، نراها تذكر حدثاًّ لا نعرف علاقته بما تروي، لتعود بعد صفحات كثيرة وتبيّن أسبابه وخلفياته؛ وفي هذا عنصر من عناصر التشويق التي تحثّ القارئ على متابعة القراءة. مثلاً، خرجت «صوفيا هاكسلي» من السجن، فتتبعها «برايد» إلى بيتها محملة بالهدايا والمال. حين فتحت لها صوفيا شتمتها ورمت الهدايا في وجهها وطردتها. ويستغرب القارئ هذا التصرف. وحين تعود «برايد» بعد ذلك إلى بيتها تجد أن حبيبها «بوكر» قد غادرها، ولا تعرف السبب. ولا تطلعنا الكاتبة على أسباب ذلك كله إلا في آخر الرواية تقريباً. يكون بوكر قد ترك برايد حين رآها تقدّم هدايا لامرأة دينت بالتحرش بالأولاد، فتعترف له برايد حينذاك بأن اتهامها صوفيا كان كذباً لجأت إليه كي تثير إعجاب أمها بعد أن صفّق لها جميع من حضر المحاكمة إعجاباً بشجاعتها. فبعد أن كانت أمها تتجنب لمسها إذ كرهتها من يوم ولادتها سوداء فاحمة، ضمتها أمها للمرة الأولى في حياتها ومشت إلى جانبها.

ثم إن الكاتبة اشتهرت بحسن تصويرها وتحليلها شخصيات رواياتها. فوالدة «برايد» كانت تأمرها وتعنفها طوال الوقت، وحين ضربتها ودفعتها في مغطس مليء بالماء، أحست برضا لأن أمها لمستها. حتى بعد أن كبرت وأصبحت صاحبة أعمال ناجحة لم يغادرها الإحساس بأنها ضحية استغلال. فعندما خلّصها الفلاح الفقير من سيارتها المحطمة واستضافها مع زوجته في بيتهما كانت برايد تتساءل طوال الوقت عمَّ يريدان منها. أو حين ضربتها صوفي ورمتها بالهدايا تساءلت: «أيهما أفضل، أن أُهمل كالزبالة أم أن أُجلد كعبدة؟» (ص37) إذ شعرت بمنتهى الإذلال أن تضربها سجينة سابقة. ولشعور برايد بالذنب لشهادتها الكاذبة على تحرش معلمتها بالأولاد حاولت أن تكفّر عن ذنبها بحمل الهدايا إليها.

ولا سيما ان من أسباب عُقَد «برايد» النفسية عنصرية المجتمع التي واجهتها منذ طفولتها. تعدى عليها الصبيان في الطريق لأنها سوداء، وأهانها أولاد صفها لأنها سوداء. وكان للسود أماكن معينة في المطاعم؛ حتى في مكتب القاضي كان للبيض توراة غير توراة السود حين يُطلب منهم أن يحلفوا. وكأن العنصرية لم تكفِ لإذلال المرأة السوداء أضيف إليها عنف الرجل الأسود، زوجاً كان أم أخاً أم ابناً، مع أن المرأة هي التي كانت تعمل وتصرف عليه.

ولا تصوّر الرواية العنصرية وحدها، وإنما أيضاً آفات المجتمع الأخرى، وقد كانت كثيرة، منها التحرّش بالأطفال. حين شاهدت برايد الصغيرة صاحب شقتهم يتحرش بولد صغير كان يبكي، منعتها أمها من التفوّه بكلمة خوف أن يطردهما صاحب الملك. كذلك النفاق الديني، يصلي والدا صوفيا ويرنمان الترانيم الدينية ولكنهما لا يزورانها أو يتصلان بها. ومناهج الجامعات التي لا تبيّن الأسباب الحقيقية لآفات المجتمع كالعنصرية والعبودية والاستغلال وغيرها، ولا تظهر أن المال والجشع المادي كانا سببها كلها.

تبقى كلمة عن أسلوب الكاتبة الممتع. فكثيراً ما تستخدم صوراً شعرية جميلة كقولها، مثلاً، في وصف شروق الشمس: «لمّحت الشمس فقط إلى شروقها، شرحة مشمشية تداعب السماء بوعد أن تُظهر نفسها كاملة.»(ص83) أو حين بدأ بوكر يصرخ على أخته لأنها وضعت ملابسها في خزانة أخيها آدم الذي قُتل، يوبّخه والده لأنه ليس الوحيد الذي يحدّ على فقيد، وكان صوت الوالد «مثل فولاذ طرف السكين.» (ص123) ينهي القارئ كتاب طوني موريسون قائلاً في نفسه: أعان الله لا الطفل وحده وإنما جميع المضطهدين على الأرض، إن بسبب الفقر او اللون أو الدين.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى