عادل جمال الفنان الذي نسيناه! …
عادل جمال الفنان الذي نسيناه! … مثّل دور شقيقه جول جمّال وانسحب من الفن… يثير اسم الشهيد جول جمّال فينا نحن السوريين الكثير من الهواجس الوطنية، لكنه في الوقت نفسه يأخذ بيدنا لنتأكد أن بإمكان السوري أن يبعث برسالة إلى العالم يشرح فيها حقيقة انتمائه لوطن له مكانة بين الشعوب ولأمة قادرة على التضحيات والمواجهة بل لدين سماوي رحيم لم يشوهه التعصب والحقد يشجع على التضحية والتآخي والصبر ولا يحرض على الضغينة والفتنة، وهذه المعاني السامية تحملها الرسالتان السماويتان الإسلامية والمسيحية على السواء. وعندما استشهد البحار السوري جول جمال خلال الدفاع عن مصر بمواجهة العدوان الثلاثي عام 1956، انشغلت صحافة سورية ومصر بهذه القامة الشجاعة التي تمكنت من كسر شوكة البارجة الفرنسية جان دارك.
لم تكن الصحافة وحدها من غطى الحدث في الوطن العربي، بل إن السينما العربية، وخلال أقل من أربع سنوات تمكنت من الدخول إلى عالم جول جمال الإنساني والشخصي والبطولي، ونسجت من هذا العالم فيلما خالداً أجمل ما فيه أن شقيق جول جمّال، أي: (عادل جمّال) هو من لعب دور أخيه الشهيد، فشعر مشاهدو الفيلم وكأن (جول جمال نفسه) هو من يقوم بالتمثيل قبل استشهاده!
كان ذلك في واحد من أجمل أفلام الزمن الجميل، واجتمع فيه فنانون كبار من فناني مصر المشاهير.. فيلم عربي ساحر في وقائعه وتفاصيله، كان عنوانه: «عمالقة البحار»، الذي أنتجته السينما العربية عام 1960، ويضم مجموعة من النجوم من بينهم:
أحمد مظهر: في دور جلال دسوقي
عادل جمّال: في دور جول جمال
عبد المنعم إبراهيم: في دور بيومي
يوسف فخر الدين: في دور ياقوت
نادية لطفي: في دور خطيبة جول جمال..
وتدور أحداث الفيلم بين القاهرة والإسكندرية واللاذقية، ويتحدث عن مرحلة من أهم مراحل التاريخ العربي الحديث، أي العدوان الثلاثي على مصر، وفيها نتعرف إلى شخصية الشهيد جول جمّال أحد أبطال البحرية السورية الذي شارك البحرية المصرية في صد العدوان عليها وسقط شهيدا هناك!.
اشتغل على الفيلم السينمائي فريق عمل محترف، فكتب القصة والسيناريو والحوار من وحي الواقع كل من:كمال الديدي، عبد اللـه أبو رواش، السيد بدير، محمد مصطفى سامي، وقام بإخراجه الفنان: السيد بدير.
وتروي قصة فيلم «عمالقة البحار» وقائع العدوان الثلاثي على مصر، لكن التفاصيل تأخذنا إلى جانب الصمود في البحرية المصرية، وفيها يقوم الضابط المصري جلال دسوقي بتدريب مجموعة من الجنود والضباط على وحدة قاذفات الطوربيدات الصغيرة، ومن بين هؤلاء الطالب السوري البحار جول جمّال الذي يتخرج ضابطاً بحرياً..
ونقرأ في التفاصيل عن شخصية جول جمّال التي يلعبها «عادل» أن جول يقوم مع زملائه البحارة برحلة إلى سورية، وفي اللاذقية يلتقون خطيبة جول جمال «تلعب الدور نادية لطفي كما أشرنا» ويبدو مدى الحب الذي يربط بينهما.
عندما تتعرض مصر للعدوان من فرنسا وبريطانيا وإسرائيل بتواطؤ أميركي، يصدر الأمر لجول جمال لقيادة قاذفة طوربيد ومعه زملاء آخرون من بينهم ياقوت وبيومي، في حين يوكل لجلال دسوقي مهمة استطلاع موقع القوات المعادية، تتم المهمة بنجاح لكن عند العودة إلى الوحدة البحرية تقع معركة بحرية ويستشهد جول جمال وجلال دسوقي معا، ويتم ضرب البارجة الفرنسية جان دارك بعملية بطولية.
يلعب عادل جمال بمهارة الدور الذي يحكي عن شخصية شقيقه الشهيد جول جمال من لحظة تخرجه كضابط بحار إلى لحظة استشهاده، ويعطي ملامح الشخصية الأساسية لقربه منها، ولوحدة الروح بينهما، والغريب أننا جلسنا معه أكثر من مرة خلال السنوات العشر الأخيرة، ولم يتحدث عن دوره بالفيلم، وكأن ذلك كان واجبا أداه وفاء لجول جمال، ولم يكن إبداعا فنيا يحسب له. كان عادل جمّال يتجه في كل تفاصيل شهاداته الوثائقية باتجاه معنى استشهاد جول جمال وملامح تلك الشخصية الفذة..
كان الفنان النقابي عادل جمّال يقرأ القصة بطريقته الخاصة، وهي أن استشهاد جول جمال كان يحمل في طياته المعاني التي نفتقدها الآن وتتعلق بحال العرب في اللحظة التاريخية التي يتعرضون فيها لحملة كبيرة على التاريخ والجغرافيا والانتماء، فجول جمال يجسد، كما رآه شقيقه عادل، رمزاً من رموز الوحدة الوطنية السورية في عمق الانتماء لوطن يجتمع كل السوريين تحت مظلته..
توفي عادل جمّال في مطلع العام الحالي، وشعر كثيرون ممن يعرفونه بالحزن على وفاته وخاصة لأن في شخصيته عدة ملامح لابد من الإشارة إليها لأنها على غاية الأهمية:
الأولى، تتعلق بحياته المهنية فهو دؤوب ونشيط ويدافع عن حقوق زملائه العمال ويفصل بين كونه مواطناً سورياً عن كونه يحمل إرثاً فنياً ووطنياً خاصاً في مرحلة تاريخية ما.
الثانية، أن العودة إلى فيلم (عمالقة البحار) تكشف لنا أن عادل جمّال كان فنانا رائعا ولم يكن مجرد شخص عادي يؤدي دور أخيه أمام نجوم معروفين، فقد تمكن من التعامل مع الكاميرا والإخراج بأداء رائع لم يكن من السهل على إنسان عادي القيام به في جو من أجواء الفن السابع الذي كان يجذب الملايين لمتابعته وكان يخضع لشروط عمل صعبة.
والثالثة أنه انسحب من عالم الفن بعد أن أدى الدور الذي يليق به من دون أن يتطفل على طريق لم يكن يراه طريقه، فحافظ بذلك على قداسة الشخصية التي لعبها، وانتقل إلى عالم الحياة الطبيعية لتضيع شهرته في الصراع اليومي مع تفاصيل الكفاح من أجل عيش كريم يليق بإنسان ينتمي إلى أسرة شهيد خالد.
ولد عادل جمال في 10/2/1938 أي إنه الأخ الأكبر للشهيد جول جمال وإذا كان جول قد حصل على البكالوريوس من البحرية المصرية برتبة ملازم، فإن عادل درس الهندسة المدنية، ولم يتمكن من متابعتها، فقد دخل غمار الحياة العملية سريعا، وأصبح واحدا من النقابيين البارزين في قطاع الشركة العامة لمرفأ اللاذقية إلى أن وصل إلى عضوية المكتب التنفيذي لاتحاد عمال محافظة اللاذقية بعد أكثر من أربعين عاماً على حياته النقابية..
وعندما تتعرف على النقابي (عادل جمّال) تشعر أن هذا النقابي يملك حس فنان مرهف، يحكي بتواضع وجاذبية معا، وتتعرف في بيته على أسرة جميلة تتألف من بنت واحدة اسمها نجلاء وثلاثة شباب يوسف وجول وجورج، وأجمل ما في هذه الأسرة هما حفيداه: جول وعادل ابنا يوسف، فجول جمال الصغير يجلس مع أخيه عادل الصغير في حضن جدهما وكأنهما يخافان عليه من الفن والحياة والرحيل الذي حصل قبل فترة وجيزة، وهذان التوءمان هما ابنا يوسف جمال الذي كان يعيش مع أبيه إلى آخر لحظة من حياته..
لم يظهر عادل جمال بعد فيلم «عمالقة البحار» بشكل واضح على شاشة التلفزيون إلا عندما أنتجت الفضائية السورية الفيلم الوثائقي الخاص بحياة الشهيد جول جمال قبل نحو عشر سنوات «إعداد وإخراج عماد نداف» وقبل أسابيع ظهر في فيلم وثائقي جديد هو «حكايات الأرض الطيبة» وحكى فيه عن علاقة أبيه يوسف بيوسف العظمة، وحكى أيضاً عن جول جمال وما يحمله اسمه من معان في حرب الاقتلاع التي يتعرض لها السوريون وحضارتهم هذه الأيام..
كان عادل جمّال قد توفي عندما عرضت قناة سورية دراما الفيلم الوثائقي «رحلة الأرض الطيبة» وظهر فيها عادل جمال كشاهد من شهود التاريخ على رحلة التضحيات في سيرة أرض سورية الطيبة..