الذكرى الستين لاستشهاد البحار السوري جول جمال: 3ــ أسطورة سورية فى حب مصر

لم يشعر جول جمال بالغربة عندما كان يعيش في مصر أم الدنيا .

كل الحكايات التي نقلتها الصحافة عنه لم تنقل شيئا عن شعوره في الغربة هناك، كانت الإسكندرية بالنسبة له هي اللاذقية التي درس وعاش فيها، وكانت بور سعيد التي استشهد من أجلها هي القلعة التي ينبغي أن لاتسقط ، كي لاتسقط الشام، وقد أوحى بذلك وهو يدافع عن بقائه هناك للدفاع عن مصر.. كانت مشاوير جول جمال على كورنيش الاسكندرية أوبور سعيد تأخذه إلى وجدان ينبض بحب الوطن الكبير الذي اشتعل وجدان العرب كلهم من أجله في ذلك الوقت، من أجل وحدة سورية ومصر عام 1958 ..

تخرج جول جمال من البحرية المصرية برتبة ملازم ثان في أيار 1956 أي بعد نحو ثلاثة أعوام على وصوله فى بعثة تعليمية عسكرية من عشرة طلاب سوريين، إلى مصر عام ١٩٥٣، وعندما انتهت البعثة، حاز على المركز الأول بين البحارة من زملائه السوريين.. كان يفترض أن يعود البحار السوري جول جمال إلى سورية بعد تخرجه، لكنه لم يعد فقد طلبت القيادة منه التدرب على طراز جديد من الزوارق، وكان الوقت يقترب وكانت الأحداث تتصاعد وكان جول جمال يغذ السير إلى مصيره .

عندما أمم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قناة السويس وردت بريطانيا وحلفاؤها بالعدوان الثلاثي كان على مصر أن تدافع عن قرارها الوطني ، وكان على العالم أن يتعرف على قداسة الشعور القومي عند السوريين الذي كانت دعوتهم إلى الوحدة العربية تتصاعد مع تفاقم الأحداث وتصاعد الأطماع الاستعمارية تجاه المنطقة العربية ..

كان جول جمال قد بعث برسالة إلى أهله يخبرهم فيها بأنه سيعود لأنه سيتخرج قريباً من الكلية البحرية، وقد نشر الصحف المصرية في ذلك الوقت نص رسالته التي أصبحت وثيقة من وثائق تاريخ الاستشهاد. يقول فيها :

(إنشاء الله يابييِ بجي لعندكن ومن عيّد سوا بعيد الميلاد ورأس السنة لأني بكون تخرجت).

فلماذا لم يحتفل جول جمال بعيدي الميلاد ورأس السنة عام 1956 ؟!

في السادس والعشرين من تشرين الثاني عام 1956 ابتدأت الأعمال الحربية ضد”مصر” وكانت مدينة ”بور سعيد” هدفا رئيسيا لقصف الطائرات التي أرادت الانتقام من القرار الوطني المصري وكانت صور الضحايا والدمار في كل مكان.. وفي البحر كانت تعد العدة لضربات موجعة لشعب مصر، ففي فى ليلة الرابع من نوفمبر عام ١٩٥٦، تم رصد البارجة “جان بارت” أكبر قطعة بحرية فرنسية، تتجه إلى شاطئ بور سعيد ..

البارجة جان بارت هي أول سفينة حربية مزودة برادار فى العالم، وزنها ٤٨٧٥٠ طنا، وعلى متنها ٨٨ ضابطا، و٢٠٥٥ جنديا، و١٠٩ مدافع مختلفة الأعيرة..

عندما علم البحار السوري جول جمّال أن القيادة المصرية أمرت بالتصدى للمدمرة الفرنسية المذكورة، اقترح على قائده “جلال الدسوقى” المشاركة بفرق فدائية من زوارق الطوربيد، لكن القائد رفض، فألح “جول” فى طلبه، قائلا بعينين مغرورقتين بالدموع: ” لافرق عندى بين مصر وسوريا “، فما كان من القائد سوى الموافقة على اشتراكه فى تلك المعركة غير المتكافئة.

وفي التفاصيل التي توردها الصحافة المصرية أن ضابطا سوريا آخر اسمه “نخلة سكاف” من “اللاذقية” اشترك معه في العملية إلى جانب ضابط مصري ، ووضعت خطة محكمة يقوم “جول جمال من خلالها ” بالعملية أولاً وإذا لم ينجح يأتي الضابط المصري وأخيراً يأتي دور “نخلة اسكاف” وأثناء اقترابه من المدمرة الفرنسية استطاع “جول” أن يصل إلى نقطة الصفر أي النقطة الميتة التي لاتستطيع مدافع المدمرة الوصول إليه منها وهكذا استطاع “جول” أن يصل إلى المدمرة الفرنسية وينفذ عمليته الفدائية التي أدت إلى استشهاده ..

بنى جول جمال خطته على القيام بعملية فدائية نادرة، قاد زورقه صوب بدن البارجة “جان بارت”، ليرتطم بها ويعطبها ويشل حركتها ويخرجها من الخدمة نهائيا، ويستشهد هو، ضاربا أروع أمثلة الشجاعة والتضحية والفداء لمصر التى لم يجد أى فرق بينها وبين سوريا. أرسلت البحرية المصرية كتابا إلى القوات المسلحة السورية، جاء فيه :”ننعى إليكم – بفخر واعتزاز- الملازم الشهيد جول جمال، أول من دعّم بحياته أسس التعاون الفعلى بين قواتنا المشتركة، حيث إنه أول شهيد عمليات مشتركة مصرية- سورية..”

أقيم “قداس على روحه” بحضور وزير الدفاع السورى وممثلين للقوات المسلحة المصرية، فى اللاذقية. كما منحت القيادتان المصرية والسورية اسم “جول جمال” أعلى الأوسمة والنياشين، بوصفه فارسا نبيلا، و”أيقونة”عشق وطنية، حمى “النيل” من “تنين المتوسط” قبل أن يفرغ سمومه على الشاطئ، ثم توالت صور التكريم من البلاد والقادة العرب، وأطلق اسمه على العديد من المنشآت والشوارع بمصر وسوريا وغيرهما، وأنتج عنه فيلم سينمائى بعنوان “عمالقة البحار”.

نال الشهيد”جول جمال” العديد من أوسمة الشرف من بينها:

براءة الوسام العسكري الأكبر من الحكومة
براءة النجمة العسكرية من جمال عبد الناصر
براءة الوشاح الأكبر من بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس
وسام القديسين بطرس وبولس من درجة الوشاح الأكبر

احتفت السينما العربية باستشهاد جول جمال دفاعا عن مصر وفي أقل من أربع سنوات تمكنت من الدخول إلى عالم جول جمال الإنساني والشخصي والبطولي، ونسجت من هذا العالم فيلما خالداً أجمل ما فيه أن شقيق جول جمّال، أي: (عادل جمّال) هو من لعب دور أخيه الشهيد، فشعر مشاهدو الفيلم وكأن (جول جمال نفسه) هو من يقوم بالتمثيل قبل استشهاده!

وتدور أحداث الفيلم بين القاهرة والإسكندرية واللاذقية، وتروي قصة فيلم «عمالقة البحار» وقائع العدوان الثلاثي على مصر، ونتعرف في التفاصيل عن شخصية جول جمّال الذي يقوم مع زملائه البحارة برحلة إلى سورية، وفي اللاذقية يلتقون خطيبة جول جمال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى