عبد الكريم غرايبة … ريادة متعدّدة في التأريخ لبلاد الشام والعرب
مرّت أخيراً الذكرى الأولى لوفاة المؤرخ عبد الكريم غرايبة الذي كان أول أردني يحصل على الدكتوراه في التاريخ من جامعة لندن في 1950 وأول من عيّن في قسم التاريخ في الجامعة الأردنية التي افتتحت في 1962، ولذلك يلقب بـ «شيخ المؤرخين الأردنيين» فمن يدرّسون التاريخ حالياً في الجامعات الأردنية هم طلابه وطلاب طلابه. ولكن سيرته وإسهاماته تشير الى أكثر من ذلك إذ إنه كان من المؤسّسين لقسم التاريخ في جامعة دمشق ونشر أشهر مؤلفاته خلال عمله هناك، وكان من طلابه أعلام المؤرخين في بلاد الشام (خيرية قاسمية وعلي محافظة وعبد الكريم رافق الخ) ومن الرواد في استخدام سجلات المحاكم الشرعية في كتابة التاريخ الحديث وفي إطلاق فكرة لجنة تاريخ بلاد الشام التي عقدت أول مؤتمر دولي لها في 1974 والتي أصبحت الآن في عهدة المؤرخ محمد عدنان البخيت. ولكن غرايبة لم يحظ بما حظي به طلابه لكونه كان يغرّد خارج السرب بأفكاره ومنهجه ومشاغبته على التاريخ الرسمي، وآثر أن يقدم في أواخر حياته (2012) أكثر من مئة ألف وثيقة اشتغل عليها منذ 1948 لتكون «وقفية عبد الكريم غرايبة» في جامعة العلوم الإسلامية العالمية بعمان لكي تصنّف وتوضع بين يدي الباحثين الشباب.
ولد عبد الكريم غرايبة في قرية المغير قرب إربد في شمال الأردن في 20/6/1923، أي بعد سنتين فقط من وصول الأمير عبد الله بن الحسين الى عمّان وتشكّل إمارة شرق الأردن، بينما كان جدّه شحادة قد انتقل من قرية طمّون شمال شرقي فلسطين الى شرق الأردن ليستقر هناك ويهتم بتنشئة ابنه محمود. وقد برز والده في إدارة الإمارة الجديدة شرق الأردن وأصبح رئيساً لبلدية إربد في 1939، ولذلك فقد اهتم بابنه عبد الكريم وأرسله الى الجامعة الأميركية في بيروت لدراسة الطب في 1942. ولكن روح الغرايبة المشاغبة لم ترتح لدراسة الطب فانتقل لدراسة التاريخ ليتخرج من قسم التاريخ في صيف 1947. وقد حصل بصدفة يتندّر عليها في ذكرياته على منحة حكومية لإكمال دراسته العليا في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن، حيث أشرف على رسالته للدكتوراة «التجار الإنكليز في سورية 1744-1791» البروفسور برنارد لويس التي ناقشها في أواخر 1950، وهو بذلك كان أول أردني يحصل على دكتوراة في التاريخ.
استفاد د.غرايبة من خبرة مشرفه في البحث لأجل كتابة رسالة الدكتوراة حيث كان رائداً في العمل على مراسلات التجار الإنكليز المحفوظة في المتحف البريطاني وعلى الوثائق في مكتب السجلات العامة (Public Record Office)، كما كان رائداً في استخدام سجلات المحاكم الشرعية في رسالته للدكتوراه، وهو الأمر الذي أصبح يميز لاحقاً المدرسة الشامية في التاريخ الحديث.
ومع عودته إلى عمّان في أوائل 1951 اشتغل مفتشاً في دائرة الآثار الأردنية خلال 1951-1951، ولكن شغفه بالتعليم الجامعي تحقّق مع عرضين تلقاهما في صيف 1951 من الجامعة الأميركية في بيروت وجامعة دمشق ففضّل الثانية حيث بقي يدرّس فيها حتى نهاية عهد الوحدة. وخلال تلك السنوات نشر د.غرايبة مؤلفاته التي اشتهر بها مثل «مقدمة تاريخ العرب الحديث» (دمشق 1960) و «العرب والأتراك» (دمشق 1960) و «سورية في القرن التاسع عشر» (القاهرة 1962) الخ. وخلال 1961-1962 اشتغل استاذاً زائراً في قسم التاريخ في جامعة الملك سعود كان من نتاجها كتابه القيّم «قيام الدولة السعودية الأولى» (القاهرة 1973).
ومع تأسيس الجامعة الأردنية في 1962 استدعي د.غرايبة ليكون أول من عيّن في هذه الجامعة، حيث كان الأردني الوحيد الذي يحمل شهادة الدكتوراة في التاريخ وأصبح في 1966 عميداً لكلية الآداب فيها. وخلال عمله الذي امتد خمسين عاماً في قسم التاريخ (1962-2012) كأستاذ ثم كأستاذ شرف (1997-2007) وأستاذ شرف بعقد (2007-2012) درّس د.غرايبة في مختلف المستويات (البكالوريوس والماجستير والدكتوراه) وأشرف على الكثير من رسائل الماجستير والدكتوراةه. وفي غضون ذلك استمر في البحث والتأليف وأصدر مؤلفات عدة مثل «تاريخ العرب الحديث 1780-1925» (بيروت 1984) و «عرب الماء والإنسان» (2006) و «نحن وأمريكا» (عمان 2008) وغيرها على حين لم تترجم ولم تنتشر للأسف رسالته للدكتوراة «التجار الإنكليز في سورية 1744-1791 على رغم قيمتها العلمية التي لاتزال راهنة.
وإلى جانب هذه المؤلفات يمكن القول ان روح الغرايبة ورياديته واضحة في بلاد الشام سواء في ما أسّس له من مبادرات أو من خلال طلابه الذين تابعوا عمله في توظيف سجلات المحاكم الشرعية في كتابة التاريخ الحديث لبلاد الشام.
فمن طلابه في جامعة دمشق كان المرحوم عبد الودود برغوث الذي نشر في 1966 دراسته الرائدة «تاريخ حماة الاجتماعي والاقتصادي والإداري مستمداً من سجل المحكمة الشرعية لعام 989 هـ/ 1581»، كما كان من طلابه عبد الكريم رافق الذي بدأ منذ كتابه «العرب والعثمانيون 1516-1916» (دمشق 1974) باستخدام سجلات المحاكم الشرعية وأصبح لاحقاً من أشهر المؤرخين في هذا المجال. ومن طلابه الأردنيين لابد أن يشار في هذا المجال إلى عبد العزيز عوض الذي استفاد من سجلات المحاكم الشرعية في رسالته للماجستير «الإدارة العثمانية في ولاية سورية 1864-1914» (القاهرة 1967) وأكرم الراميني الذي ناقش عام 1974 في قسم التاريخ في الجامعة الأردنية أول رسالة ماجستير معتمدة بالكامل على سجلات المحاكم الشرعية «نابلس في القرن التاسع عشر: دراسة متخصصة من سجلات المحاكم الشرعية في نابلس».
ومن ناحية أخرى عُرف د.غرايبه بمشاغبته أو عدم ميله للتاريخ الرسمي. ويذكر هنا للتندّر انه بعد عودته الى عمان في 1951 أخذه أبوه الى مقر الملك عبد الله بن الحسين للسلام عليه فأراد الملك أن يختبره بعدما عرف انه عاد بشهادة دكتوراه في التاريخ وسأله «من هو السلطان العثماني الثالث عشر؟» فردّ عليه مع أنه يعرف الجواب :»لا أعرف، اننا لا نهتم بالملوك والسلاطين بل نهتم بالشعوب». ولكن د.غرايبة مع مرور الزمن أخذ يعتبر ان التواريخ الرسمية في الدول العربية تثير الشعوب ضد بعضهم بعضاً لأنها موضوعة لخدمة أنظمة، ولذلك أخذ يدعو الى استلهام التجرية الإسكندنافية ووضع تاريخ واحد لدول المشرق. وفي هذا السياق رأى أن تكون البداية مع بلاد الشام، حيث اقترح تأسيس هيئة مرجعية تقوم بالبحث في تاريخ بلاد الشام ككل واحد، وهو ما تمخض عنه تشكيل «لجنة تاريخ بلاد الشام» في 1972 التي أخذت تعقد في شكل دوري المؤتمرات الدولية منذ 1974 وتصدر المؤلفات التي تتناول تاريخ بلاد الشام ككل واحد. وقد آثر رئيس الجامعة الأردنية عبد السلام المجالي خلال الاحتفال بالذكرى الـ 25 لتأسيس الجامعة في 1987 أن يذكر فضل الغرايبة على الجامعة ومن ذلك «لجنة تاريخ بلاد الشام» التي استمرت بمؤتمراتها الدورية حتى المؤتمر الدولي التاسع الذي عقد في نيسان 2012 عن «الزراعة في بلاد الشام».
وإلى جانب ذلك كان د.غرايبة من الرواد في التنبّه الى أهمية البحث في العلاقات التاريخية بين العرب والأتراك، بعد أن توترت العلاقات السياسية بينهما خلال القرن العشرين. فبعد أن أصدر في 1960 كتابه الرائد «العرب والأتراك» أخذ يهتم بتوثيق الصلة مع المؤرخين الأتراك وبضرورة تعلم اللغة العثمانية وتأسيس مركز للدراسات العثمانية لخدمة تاريخ العرب الحديث. وفي هذا السياق زار إسطنبول في 1970 حيث بدأ بتعلم اللغة العثمانية وتعرّف هناك على المؤرخ العربي التركي خليل ساحلي أوغلو، الذي جاء لاحقاً للعمل في الأردن، وبعد عودته الى عمان بادر الى تأسيس مركز للدراسات العثمانية في الجامعة الأردنية وإيفاد ثلاثة طلاب لدراسة اللغة العثمانية الى إسطنبول. ولكن هذه البادرة لم تعمّر طويلاً للأسف لأسباب لامجال لذكرها هنا.
وبسبب اهتمامه بالوثائق منذ دراسته في لندن فقد بادر أيضاً إلى تأسيس «مركز الوثائق والمخطوطات» في الجامعة الأردنية الذي أصبح مركزاً إقليمياً بما يحتوي عليه من وثائق ومصادر عثمانية عن بلاد الشام ومن سجلات المحاكم الشرعية، وقد نقل مؤخراً إلى مبنى «لجنة تاريخ بلاد الشام» التي يرأسها الآن المؤرخ محمد عدنان البخيت.
وبعد تقاعده من الجامعة الأردنية في 2012 تفرّغ تماماً لمشروع العمر الذي يتضمن أرشفة ما جمعه من وثائق لتكون في خدمة الباحثين الشباب، حيث تحمّست لهذا المشروع جامعة العلوم الإسلامية العالمية بعمان التي جعلت منه «وقفية عبد الكريم الغرايبة» وجعلت له مكتباً في الجامعة ليتابعه وعيّنت مؤرخاً (عبد المجيد الشناق) وباحثتين للعمل لإنجاز هذا المشروع. وقد كانت من صدف الحياة أنني انتقلت إلى هذه الجامعة في ذلك الوقت، ما سمح لي برؤية المرحوم الغرايبة في مكتبه من حين إلى آخر في الشهور الأخيرة من حياته لأسمع آخر ما لديه من أفكار وحكم قبل أن يتوفى إلى رحمة الله تعالى في 22 شباط (فبراير) 2014.
وقد أحسن الزميل د. الشناق بإعداد كتاب عنه يعيد إليه الاعتبار باعتباره «مؤرخاً عربياً» ويتضمّن سيرة حياته ومقابلاته معه حول القضايا التاريخية والمنهجية وبعض أبحاثه وما كتبه عنه طلابه الذين غدوا رؤساء جامعات، ولكنه شطب باللون الأسود جملة تتعلق بالأمير فيصل بن الحسين. وتجدر الإشارة هنا إلى أن د. الغرايبة يعترف في ذكرياته المنشورة في الكتاب (ص 114) أنه أختار أولاً عهد الأمير فيصل في سورية (1918-1920) موضوعاً لرسالة الدكتوراه ولكنه أقلع عن ذلك بناء على نصيحة من السفير العراقي في لندن الأمير زيد بن الحسين تقوم على أن «الفتنة نائمة ولعن الله من يوقظها». ولكن ما تركه د. الغرايبة أخذته طالبته خيرية قاسمية موضوعاً لرسالتها للماجستير «الحكومة العربية في دمشق 1918-1920».
عاش الغرايبة عمراً عاصفاً بالأحداث (1923-2014) وعايش «الربيع العربي» متشائماً من حكم العسكر ومن تسييس الدين وكتب عن ذلك محذرًا «خير ما نتمناه للأمة العربية في هذا الوقت العصيب هو ألاّ تسلّم أمورها إلى زعيم أو جيش أو حزب عقائدي».
صحيفة الحياة اللندنية