عذاب الركابي ‘يبوح صمتا’
يحتوي كتاب “البوح صمتا” للشاعر والناقد العراقي عذاب الركابي على دراسات في الإبداع النسوي العربي المعاصر في مجال الشعر والرواية والقصة القصيرة، وصدر عن دار الآن ناشرون وموزعون بالعاصمة الأردنية عمّان، وجاء في 272 صفحة.
ويرى الركابي أن هؤلاء المبدعات العربيات اللاتي يتناول أعمالهن نجمات ساهرات على الحرف وعطره والكلمة وعسلها، وأن كل أنثى منهن تؤنث المكان بجدارة مشبعة بماء قريحة فيلسوفنا العظيم ابن عربي وهو يقول: “المكان الذي لا يؤنَّث لا يعوَّل عليه”، وهي ترفع راية بلدها – عنوانها الجغرافي، محيطها الذي تسعى إلى إعادة العطر والفراشات والشمس والأمطار إلى حدائقه، وتنتمي إليه راية خفاقة أبدًا بالإبداع والحرية والتألق والتواصل.
يبدأ المؤلف دراساته بقسم الشاعرات، ويتوقف عند ديوان “وأدتُ الشك” للشاعرة السورية انتصار سليمان، وقصيدة الإغواء وإغواء القصيدة، ويرى أن زاد الشاعرة الشعري – في هذا الديوان – عبارة موحية مستفزة، حافلة بمتعة جمالية ممغنطة بعسل الذات، وتبدي خلوها من أي أنانية. تقوم عباراتها على مفردات من نار وثلج معا، من ضوء وحلكة معا، من فرح وحزن معا، ومن حضور وغياب معا. وهي في أبسط وأوضح حالاتها، لا تفتح جرحًا في جسد هذه العاشقة، بلباس نبية منبوذة بسبب إفك اجتماعي، بل تحكّ على جراح قديمة، لعاشقة حالمة.
أما الشاعرة التونسية جميلة الماجري، فيتوقف المؤلف عند ديوانها “ديوان الوجد” الذي يتميز بقوة الخيال وسعته، فالصور الشعرية متزاحمة على بوابة ذاكرة الشاعرة، ومما يأخذه الركابي على الشاعرة أن صورها مهدورة في بعض الأحيان، ودون قصد، في مقاطع شعرية طويلة لحالة متكررة. وقد تساءل وهو يقرأ قصائدها: ماذا لو لجأت الماجري إلى النص المكثف .. إلى القصيدة الومضة؟ وهو يثق أن هذه التراتيل الجميلة سيكون لها شأنٌ آخر.
ويتوقف الركابي عند ديوان “الشعر والنثر لك وحدك” للشاعرة الكويتية سعاد الصباح، ويرى أن القصيدة عندها عمارة بعدة أبواب، والباب الذهبي لهذه العمارة – القصيدة – العابرة للأزمان – كيمياء الإنسان: الحب “الغامض المكشوف، الغامق الشفّاف، البعيد القريب” حسب تعبيرها. ويؤكد أن الشاعرة عبر ثورة القصيدة تسهم في إعادة صياغة العالم، وأن إسهامها الإبداعي – الإنساني يأتي عبر لغة لم تعد أفقا إنسانيا فحسب، بل تترسخ في مداها ألفة ما.
وعن ديوان “صانع الفرح” للشاعرة المصرية فاطمة ناعوت يرى المؤلف أن الكلمات تشكيلية، فالشاعرة مهندسة، ما أضاف للغتها هذه الصفة، فأصبحت القصيدة تقرأ بشروط “اللوحة” وتتحد الاثنتان في كيميائها، فللون إيقاع، وكذلك الحرف، ونرى أنفسنا ونحن نقرأ قصائد ناعوت أمام القصيدة – اللوحة، واللوحة – القصيدة، ولهذا يصدق القول: إن الذين يرسمون بالكلمات كالذين يكتبون شعرا بالألوان، والرسم في حقيقته هو استنطاق العالم، والكتابة هي استنطاق البشر.
ويتوقف الركابي عند ديوان “انتحار هادئ جدا” للشاعرة الإماراتية ظبية خميس التي تملك شاعرية مثيرة ولغة جديدة متفجرة من الصعب العبث في نسمات شطآنها أو تأجيل زخات أمطار العطر الذاهبة إليها. والشاعرة تجسد رؤيتها في انتزاع أكبر قدر من الحرية، ربما لأنها تريد أن تؤكد على جدلية “القصيدة – الحرية، المرأة – الحرية” وقد توافرت لدى الشاعرة الجرأة الكبيرة، بل جسارة الذاكرة تعبر وتصوغ ما يضيء فضاء الحرية، إذ لا حرية للكلمة إذا لم تلبس ثوب القصيدة، ولا حرية لامرأة إذا لم تترك خصلات شعرها تخط أجمل القصائد، ويلونها عطر هواء مشاكس.
أما ديوان الشاعرة العراقية وفاء عبدالرزاق “مدخل إلى الضوء” فمن خلاله يتحدث الركابي عن فعل اللغة التي وحدت بين ذات الشاعرة الحالمة، وحولها إلى مخلوق جمالي، وبين القصيدة بعلاقة إنسانية كونية شفافة، لا تشبه إلا علاقة الرسام باللوحة التشكيلية، وعلاقة العازف بآلته الموسيقية، ولكل منهم أوركستراه، وهي صدى الوقت وظلال الروح ورسولهم المتوج بآيات الإصغاء والتأمل. وهو يرى أن في قصيدة وفاء شذرة الروح الهائمة التي لم تزل بعطر الوحي وحرارة رحمها الكوني ورماد الأصابع تصبح للكلمات سلطة، تحكم كل شيء وتحوي كل شيء؛ العطور والأصوات والألوان.
وفي مجال الرواية يحدثنا المؤلف عن “عابر سرير” للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي التي توضأت بالشعر، وهي تؤدي صلاتها في محراب الكلمات، ثوبها وطن عابر، ولحظة عشق صادقة خالدة حسب تعبير الركابي الذي يرى أن تلك الرواية نص مثير للقلق ونزيف كتابة حاد وممتع، متابعته أكثر تعبا ومتعة أيضا، لما فيه من غزارة شعرية، شديد الكثافة والعمق والإيحاء، سيل جارف من الكلمات المفخخة والنيزكية، نص عسير ومراقب كالحب والإبداع.
وعن رواية “حنين” للكاتبة الفلسطينية المصرية بشرى أبوشرار يرى المؤلف أنها رواية أوتوبوغرافية بامتياز، وبين الذات المتكلمة الناطقة والذات المكتوبة أحاديث طازجة مفعمة بالحزن والشجن والشوق والنستولوجيا، مسطرة في كتاب القلق والخوف بحروف وكلمات لا يتسع فسفور حبرها لمشاعر لا تحصى ولا تعد.
وعن رواية “العراء” للكاتبة التونسية حفيظة قارة بيبان يرى المؤلف أنها قصيدة بصرية، ناطقة بقوة الإبداع وسلطة الكلمات، ونظامها الداخلي الجمالُ أبعد وأنبل سر في الكون. وأنها صورة الواقع الناطقة بأحداثه المتتابعة حتى آخر جملة استشرافٍ ونبوءة. وكل كلمة وجملة ضربة في القلب، وكل دفقة خيال سفر في أسلوب مخملي والمعنى الجارح، ما يمنح البوح كل هذا الخلود والنفوذ، ولا تخلو قنوات التعبير الإيجائي الجمالي من إثارة.
أما رواية “بغداد وقد انتصف الليل فيها” للكاتبة التونسية حياة الرايس فهي سيرة ذاتية في نسق حكاية، والحكاية هنا حكايتان، بل حكايات يبدو انتهاؤها مستحيلا، وليلها لا ينتهي إلى صباح ولا تقوى عليه الراوية “شهرزاد” زمانها وعصرها المرواغ. ويوضح المؤلف أن تلك الرواية هوس سيكولوجي جاذب لكتابة الذات بلا زخارف أو لهو مجاز واستعارات ولعبة كلمات.
وعن رواية “عيثة تقطف القمر” للكاتبة المغربية زهور كرام يقول الركابي إنها رواية الموقف الذي يمكن أن يعاش لا في الذات فحسب، بل في القلب، وقد ترجمته الكاتبة أخلاقا وسلوكا وفعلا في سرد مثير مبهر. ويرى أن غيثة هي أنا الراوية (الكاتبة) من دون خداع أو تضليل. وهي ليست سيرة ذاتية بالتحديد، ولكنها أقرب إلى “الميثاق الأوتوبوغرافي” عندما يصبح النص المكتوب بضمير المتكلم يقيم بوضوح علاقة بين الضمير “أنا” وبين “الإنسان”.
رواية “عقل سيء السمعة” للكاتبة السعودية زينب حفني يقول عنها المؤلف إنها نوع من السرد المتقن ذي الطبيعة المشاغبة والأبجدية المستفزة يدفع إلى ردات أفعال مختلفة، ويؤسس للكتابة – الخلخلة التي “لا تروم إلا ذاته”. ويرى المؤلف أن الكاتبة تضع الحقيقة في كلمات غير عابئة برياح التأويل، فـ “الأب” يقابل خيانة الزمن وألعاب القدر في حياته بكنز لا ينفد من الحب والحنان والدفء الأسري ولغة قلقه حزنه وسوء حظه دموع حجرية لا تفيض بها عيونه الهلكى، بل جسده المتشظي حبا وروحه المجبولة على الوفاء وقدسية الحياة الأسرية.
وعن رواية “إني وضعتها أنثى” للكاتبة المغربية سعيدة تاقي يقول الركابي: بكلمات شديدة الشفافية والإيحاء والبهاء كجناحي فراشة، ويرقة صائد الفراشات، تعثر الكاتبة والروائية سعيدة تاقي على هذه الكلمات في روايتها في الحلم، وفي أسلوب مبني على الإثارة وهي الملح في الرواية، وعبر لغة مكثفة، مقتصدة تزهو كلماتها السحرية بلآلئ القصيدة وأخيلتها، لتقدم لنا سردًا ممتعًا وجديدًا.
وعن رواية “فستق عبيد” للكاتبة الأردنية سميحة خريس يرى المؤلف أنها رواية شخصيات وأصوات، وهي نوع من الكتابة – الضد، وهي نثر خرافي، التاريخ فيه يحاكم نفسه، بل حاكم ومحكوم في الآن، والسرد الشاهق الموثق والأمثل، والتاريخ والسرد يجتمعان على مائدة دسمة من الأحداث، بين الواقع والخيال، وبين الحلم والحقيقة. أجَّجتها نيران الحروب والنزاعات والعصبيات والصراعات المحتدمة من أجل الوجود.
وفي رواية “رحلة الضباع” للكاتبة المصرية سهير المصادفة يرى المؤلف أن الذكورة والأنوثة عالمان أزليان، بتضاريس كونية مختلفة، يلتقيان في صحو كاذب، ويفترقان على برق غيم كاذب. ويوضح الركابي أن هذه الرواية ما هي إلا لحظات قاهرة للصراع المحتدم لتأكيد الوجود، صراع الرجال (الضباع) حيث تشمخ مملكة الذكورة، المتوجة بتأييد الكون، مبدعي الحروب والغزوات وناشري بخور الخيانات، المباركين بفقه ديني وأخلاقي لا علاقة له بفقه الروح، وصراع النساء (الأنوثة) عصافير الجنة، وهنّ يؤسسن لمملكة الجمال والحنان والدفء، بل أساس الجمال في الحياة، وزهور الوجود، وهو صراع وجود، أمام “ذكورة” حاكمة و”فحولة” مزخرفة في أحضان الأنوثة – أوركسترا الحياة وكمال الأشياء.
ويرى الركابي أن “الرواية المستحيلة – فسيفساء دمشقية” للكاتبة السورية غادة السمان، ليست سيرة الذات الحنون الجريحة، بل هي الذات نفسها، وهي تكتب بكل ما في اللغة من سحر بلاغة وكيمياء خيال، وعلى لحن ذاكرة تتجدد وعطر حنين لا ينفد. وفي هذه الرواية نرى دمشق – المدينة، رحما خصبا للحرية، للحب، لأعذب القصائد والكلمات الرشيقة وجمال المدن، كونها تتيح متسعًا من الوقت للمزيد من المشاعر الدافئة والأحاسيس الصادقة.
وفي رواية “ثرثرة بلا ضفاف” للكاتبة الكويتية فاطمة يوسف العلي، نرى أضواء باريس وإيقاعها الحياتي المخملي الذي يلغي كل تاريخ وتراث وفكر للعرب، متناسين أن شخصياته العلمية والفكرية والأدبية هي من وضعت اللبنات الأولى للحضارة الإنسانية، لنصبح تحت ذبذبات سحر باريس “كلنا خارج العصر”. ونرى أن الكاتبة تكشف وتبحث وتنقب في تربة الواقع، في القديم والجديد من آلامنا وهمومنا العربية بأسلوب “السهل الممتنع”.
ويتوقف عذاب الركابي عن رواية “كولاج” للكاتبة الإماراتية فتحية النمر، ويصفها بأنها منولوجات شائقة وأحداث حقيقية – خيالية، وهي تمتح من الأصوات البولوفينية المتنوعة الآلات، فهي رواية أصوات ومشاهد في نسيج متناغم، وباعث للتأمل الحلمي، وهو بتقنية الكولاج، تقطيع، وقص، ولصق، وفلاش باك، وفانتازيا، وحوار درامي، وميتافيزيقا، وكل ذلك من خلال روح السرد المتقن، حيث تأخذ رواية النمر شكلا ملحميا دراميا، ناتجا عن غربة الشخصية – البطل في واقعه المعيش، وهو واقع سريالي. وعلى ذلك تأتي روايتها خليطًا من الواقع والحلم والتأمل والحدس في نسق متناغم.
وأخيرا يتوقف المؤلف عند المجموعة القصصية “الملكة” للكاتبة الليبية نجوى بن شتوان، التي يقول عنها إنها كاتبة مجربة بامتياز، وهي خارج كل لوائح الثقافة القبلية، تهمتها التجديد والتمرد والفوضى الممكنة، وكلها تهم صحيَّة لإضافة المزيد من الإبداع المثير والخالِد. وتجمع الكاتبة بين سريالية النص وسريالية الواقع، فتستفز القارئ وتشاغبه لترقى في خياله وتملأ لحظاته تأملا ودهشة وجذبًا عبر لغة فاتنة وتفجرات جمالية ينقاد إليها أو يجد نفسه في حضرتها مُصغيا خاشعًا، يسحره فعلها، وهي تضرم في اللغة جذوة التألق. وفي النهاية هما متناغمان في كل سطر وكل حرف وكل ومضة خيال في “الملكة”.
هكذا اصطحبنا الناقد المبدع عِذاب الركابي إلى عالم تسع عشرة كاتبة عربية معاصرة في مجال الشعر والرواية والقصة القصيرة، أبحر إلى كلماتهن بزورق من القلق، بعد أن لمعن في سماء أخيلته، فأخرجن ذاكرته من مياه النسيان، فوجدهن ضيفاتٍ رشيقاتٍ مموسقات الظل وبهيئة عابدات ناسكات داهمن حدائق مخيلته المبددة بعطرهن الإبداعي وصخبهن الأنثوي الضروري كحمامات بأجنحة من ذهب الوقت.