عصر جديد وثقافة جديدة (نضال سعد الدين قوشحة)

نضال سعد الدين قوشحة

دائما ، كان الجدل ساخنا بين السلطات العربية والمبدعين عبر تاريخما المشترك الطويل ، وكان هؤلاء يشددون دائما على أن حرية الإبداع لا حدود لها ، ويجب أن يكون السقف مرتفعا جدا ، بل والبعض طالب جهارا بأن لا يكون للإبداع سقف يقف عنده . من هنا كانت السلطة في أي بلد عربي تحد من حرية الإبداع ، بذرائع شتى ، حماية المقدسات مرة ، واللحمة الوطنية تارة أخرى وغيرها من البدهيات التي صار يعرفها حتى المبتدىء في عالم الإبداع . بل إن بعض الدول تفننت في صياغة هذه المحظورات في عدد من النقاط التي أوجدتها في قوائم خاصة ، يحفظها كل من يريد أن يبدع وتكون نبراسا له ، وهم – أي المبدعون – باتوا يعرفونها عن ظهر قلب . أمام هذا الواقع المرير ، كان للمبدعين أحد أسلوبين لا ثالث لهما ، فإما أن يستسلم لهذا الواقع ويبدع في مساحات الهوامش التي تركتها السلطات ، وإما أن يحتال على هذا الأمر ويبتدع أساليب متنوعة بحيث يوصل أفكاره للمتلقي ، دون أن يصطدم مع أجهزة الرقابة في السلطة . والأمثلة على الجانبين كثيرة جدا .
في هذا الحال سيجد المبدع نفسه أمام إبداع بأحد نمطين ، أول ملتزم بضوابط السلطة ، وهو إبداع قاصر ، مكرر ، لا يحمل الكثير من التميز كونه يكرس قيما محددة ومحصور بقوالب لا يجوز الخروج عنها ، أما الأسلوب الثاني فهو المتمثل بالخروج عن طاعة السلطة ، وهنا الصدام معها ، أو الاحتيال عليها ، وهي اللعبة التي فعلها كثيرون . ولكن حتى هذا الحل ، الذي سيمكن المبدع من نشر إبداعه ، سواء كان أدبا أو رسما أو موسيقى أو غيره من أنواع الإبداع ، فإن مشكلة كبرى كانت تواجهه ، وهي مساحة الجمهور المتلقي لهذا الإبداع . فمعروف أن الإبداع يخاطب الجمهور في النهاية ، وهو متوجه إليهم في النهاية ، وهو لن يكون مجديا إذا لم يصلهم ويتفاعل معهم بقوة .
هذه المشكلة كانت تسببها مصاعب مادية وطباعية ومكانية ، تتعلق بإمكانات الطباعة والنشر في المجلات والصحف العربية وكذلك مشكلة بث المواد المبدعة إذا كانت سينما أو تلفزيون أو غناء .
والأكيد ، أن الإبداع الحقيقي والصادق ، والذي يريد الوصول للجمهور ، لن يستطيع أحد إيقافه ، ولنا في تجربة الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم والمغني والملحن الشيخ إمام خير دليل . فنجم وإمام كانا مسجونين في منفردتين منفصلتين أثناء حكم عبد الناصر ، فكان نجم يؤلف الزجلية ويحفظها ، وفي الإستراحة  التي تكون في باحة السجن ، يتمن من مشاهدة الشيخ إمام ، فينقلها إليه، وهذا يحفظها ، ثم يقوم بتلحينها ، وعندما يزوره أحد الأصدقاء يغنيها له ملحنة ، وذاك يقوم بتسجيلها ، وبذلك تصل الأغاني المبدعة للجمهور رغم كل العوائق التي كانت تحاول حجب هذا الإبداع عن الجمهور المتعطش لها .
في ذلك العصر ، الذي كان بإمكان السلطة أن تمنع كتابا أو رواية ما من الصدور ، كان المبدعون يطبعون نتاجهم ، والحقيقة المرة ، التي نعيشها في عصر وقوم لا يقرؤون ، أن المبدع كان يتمنى أن يطبع أثره على ألف أو ألفي نسخة في أحسن الحالات ، لكي يصل إلى أكبر قدر ممكن من الناس ، وكان رقم كذا ألف هو كبير . ولكن على ما يبدو أن عصر الفضاء المفتوح وعصر النت ، قد أنهى هذا الصراع ولمصلحة الإبداع ، ففي عصر النت ، يستطيع المبدع ، أن ينشر إبداع الذي يريد دون مجادلة أحد أولا ، وبطريقة مفتوحة للمتلقين جميعا .
فمن المعروف أن عصر النت المفتوح ، قد أوجد الكثير الكثير من المنابر الإبداعية الخلاقة التي تحتفي بالمبدعين ، من كل الاتجاهات ، وتنشر لهم كل ما يبدعون . وإن لم يتوفر للمبدع حتى هذا ، فيمكنه أن يقوم بتأسيس صفحة خاصة به ، على مواقع التواصل الاجتماعي ( الفيس بوك والتويتر ) . وهي الفرصة الأخيرة والرابحة حتما التي وفرها عصر التقانة لمن يريد إيصال أفكاره . فمجرد رغبته أن ينشر فكرة ما ، لن يكون عليه إلا أن يضعها على صفحته الشخصية في هذه المواقع لكي تنقل للآخرين ، الذين سوف يتابعون ما فعل ، بعيدا جدا عن مقص أي رقيب .
هنا ، تظهر مشكلة كبيرة ، أن البعض سوف يسيء ، وسوف تكون هذه الميزة ، نقمة على البعض ، لأنها ستكون سلاحا مشوها بيد بعض المغامرين والمتهورين ، الذين قد يسيئون استخدام هذه الحرية في الوصول لأهداف شخصية قاتلة ، تؤذي الآخرين . والرد أن هذا سيحدث ، بل حدث ، كما أي عنصر في الحياة ، يمكن لبعض الشخوص أن يسيؤا التعامل معه ، والمثال المتميز هنا الأديان نفسها ، فكم من متسلق وكاذب حتى على الدين ، استخدمه للوصول لأهداف شخصية ومصلحية ضيقة . وبالتالي لا يجب بحجة قلة مسيئة أن نرفض خيرا أعم .
المعركة بين السلطة والثقافة ، قديمة ، قدم الدهر ، وكان السجال بين الطرفين عنيفا في غالب الأحيان ، وفي التاريخ الإنساني ، صولات ربح وخسارة لكلا الطرفين ، لكن الواضح والأكيد أن المعركة تقترب من نهايتها وسوف يكون للفكر الحر والثقافة الحرة ، الغلبة في نهاية المطاف ، لأن العلم الحديث ، قد قدم أخيرا الفضاء الذي لن تستطيع أية سلطة ، أن تحد من حريته وأن تضع دونه الحواجب والحدود .
إنه عصر النت عصر الحرية .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى