عقل سعيد !

نيتشه يرى “أن الشاعر ذئب يكتب أشعاره بين القبور”

كيف يعيش الإنسان قرناً من الزمن؟ وكيف يفعلها شاعر؟ ” ببساطة شاعر في الثلاثين رجل شاخ” هكذا يقول أحدهم. وزهير بن أبي سلمى قال منذ حوالي ألفي عام: “ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم”.

ولكن ها هو سعيد عقل يترك ، أخيراً، الدنيا بعد قرن وسنتين، وبعد أن “ملأ الدنيا وشغل الناس” ، كما قيل عن المتنبي.

ليس مهماً، بالطبع، البحث في أسباب البقاء كل هذه السنوات برأس مرفوع مليء بالشعر الأبيض العشوائي، يغطي جمجمة يعتقد صاحبها أنه الحفيد المباشر لـ “هانيبعل” البطل الفينيقي، قاهر الرومان ومنقهرهم، الحفيد المنتمي إلى تلك الحضارة مطعمة بمسيحية حديثة تحمل صليباً وبندقية، وغضباً من صنع الطوائف اللبنانية… كل هذه الكميه من الفيتامينات لا بد أن تؤثر في فيزيولوجيا المسعى إلى الخلود:

“أقول: الحياة العزم حتى إذا انتهيتُ…تولّى القبرُ عزمي من بعدي”

وإذا كان الشعر قاتلاً لأصحابه، لأنه العبث اليومي بمواد مؤلمة، فإنه عند سعيد عقل أداة لتجميل البشاعة، وضوء لعتمة الأشياء، وخيانة للوصايا… الشعر فوضاه المنظمة. ولعلنا لا نقول بسهولة كلاماً من هذا النوع عن الكثير من الشعراء العرب، والسبب لأن سعيد عقل يعتقد أن الشاعر هو أكبر من كل شيء، وأن الشعر هو الذي خلق الجمال وخلّده. إنه الرجل الذي يستمتع بكائناته في كل دقيقة، حين يكتب القصيدة، حين يقرأها، حين تغنيها حنجرة خالدة في فم فيروز.

” حسب دنيانا وهمها أنك يوماً زرتِ الوجود”

إن عبارات سعيد عقل لا عيار لها. مبالغاته هي لإقناع منطقة الشك فيك أن ما يقوله هو الصحيح. ولإنعاش منطقة الجمال فيك أن ما يقوله هو الجمال. وفي كل قصيدة لسعيد عقل تجد فيها ازدهار روح الشاعر بالخلق الفني الواضح، كطفل الولادة الأولى. كزهرة الشباك الأبدية الانتظار.

“باسترناك” شاعر وكاتب روسي يقول: “ليس بإمكان شخص سيء أن يكون شاعراً جيداً” والسيء هنا تعني عديم الأخلاق، والحضيضي المزاج، وربما البخيل، والعدواني إلى آخر ما لدى عائلة السيء. فهل هذا ينطبق على سعيد عقل الشديد اللبنانية، المتعصب، القائد المعنوي والثقافي في المجلس الحربي للمسيحية السياسية في لبنان، إبان الحرب الأهلية. صاحب كل التصريحات النارية ضد الفلسطينيين، والغرباء في لبنان؟

هنا البداية التراجيدية لأي انقسام. الانقسام الإشكالي حول دور “المظلوم” الفلسطيني، في استنفار عدوانية “المضيف اللبناني”؟

وهنا يبرز كالعادة دوماً، العامل الإسرائيلي بعريه ووضوح أسلحته. ولم ينج، للأسف، سعيد عقل من إشكالية الموقف: كانت لبنانيته قد تساوت مع فينيقيته، مع اصطفافه المذهبي.لكنه بقي الشاعر ، وقيثارته لم تفلت من يده التي ارجفتها الشيخوخه. في الموت… الناس أيضاً لا ينسون، ولكن الشعراء لا يحاسبون على ازدواجية أصبحت مشهورة: الشخص والشاعر. الحياة والفكرة. القصيدة والواقع. وسعيد عقل هو من النوع الذي يطلق عليه فريق من الآراء… نار إدانتهم. فيما لا يمكن لأي فريق، مهما بالغ في الإدانة، أن يقول عن الشاعر/ الشاعر سعيد عقل أنه لم يخلد في الذاكرة الثقافية والوجدانية لشرق المتوسط على الأقل…

سعيد عقل ترك وراءه شعراً كفيلاً ببقائه في المكان المناسب لأكبر الشعراء التقليديين في عصرنا الحديث. فضلاً عن تلك المزايا الواضحة التي تتجلى في قصائده العامية.

سعيد عقل ترك لفيروز 25 قصيدة وأغنية. من بينها ما أعطاه صفة شاعر الشآميات، في كل موسم سوري لمعرض دمشق الدولي فترة الستينات.

هو من ثبّت ورسّخ في الذاكرة الجمعية لمنطقتنا وأجيالنا تلك القصائد عن مكة ودمشق وعمان ولبنان.

ما الذي يقال أكثر من هذا الشعرفي دمشق؟

شآم يا ذا السيف لم يغب يا كلام المجد في الكتب
قبلك التاريخ في ظلمة بعدك استولى على الشهب
أنا أحبابي شعري لهم مثلما سيفي وسيف أبي
أنا صوتي منك يا بردى مثلما نبعك في سحبي

في السياسة تتغير المعايير. ويصبح عدو الأمس صديق اليوم، وما كان خطأ يصبح صواباً، ومن مدح هجا ومن هجا مدح في سجال الأحداث. أما في الشعر… فليس هناك رداءة تحولت إلى جودة، ولا جمال أصبح قبحاً.فمنذ هوميروس وأمرؤ القيس يتناقل الناس ما بقي من شعر الشعراء العظيمين، بصرف النظر عما كانوه في حياتهم السياسية، والخاصة.

السياسة متحولة… أما الفن فثابت !

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى