نوافذ

عما مات فينا حتى “تعوّدنا”

لُجين سليمان

  بكين –كانت سنوات دراستي الأولى في الصين صعبة للغاية، وتحديدا فيما يتعلق بالتواصل مع الآخرين، إذ لم أكن أستطيع أن أتحدث “الصينية” بشكل جيد.وهو ما دفعني إلى الإصرار على الاستمرار في دراسة”اللغة” سواء من خلال الكتب أو حتى عبر التواصل مع الزملاء والأصدقاء.

عموما وعبر السنوات الماضية اختلف أسلوب تواصل أصدقائي معي طبقا للمستويات التي وصلت إليها في تعلم اللغة. في المراحل الأولى لإقامتي في الصين كان الجميع يتحدثون أمامي كل شيء على اعتبار أني لن أستطيع إدراك المعنى الحقيقي. في المرحلة اللاحقة، بدأ الآخرون يحذرون قليلا فلربما ألتقط بعض المعاني التي لا يريدون لي أن أعرفها.

بعدها بدأت مرحلة: “لا تحكوا قدامها شي، لأنها بدأت تدرك المعاني كاملة”. وأما اليوم وعند الحديث في أي موضوع يُفاجأ الحاضرون ويسألوني: “من أين لك كل هذه المعرفة، كيف تعرفين كل هذه الأشياء؟”.

غالبا ما كان سؤالهم يثير ضحكي، فبالطبع هم لا يدركون أحلامي وآمالي وأمنياتي التي خططت لها منذ الصغر. فمثلا عندما كنت أتابع مسلسل “حمام القيشاني”، ذاك المسلسل المعروف، الذي يتحدث عن سوريا تاريخيا منذ مرحلة الاستقلال تقريبا وما تلاها، كنت أحلم أني سأكون قادرة يوما ما على القيام بتغيير مجتمعي لنيل حق ما أو كتابة مادة صحفية تُثير فكرة مهمة لدى البعض. إذ أني ومنذ أن كان عمري سنوات، لم أشاهد أفلام الكرتون، وكنت أعدها تضييع وقت. كنت أحلم عندها بأني سأشارك في بناء البلاد، وكنت أبني نفسي وفقا لهذا الأمر.

كنت أقرأ، أدرس، ألتهم الكتب، حالمة بأنني سأستطيع يوما ما أن أغيّر قانونا، أو أشيّد جسرا، أو أحفر نفقا في سوريا. كنت أبني معظم خططي بناء على هذا الخيار.

فجأة كبرت ووجدت نفسي أقوم بالأعمال ذاتها ولكن في مكان آخر، عملت جاهدة على تبنيه، فأصبحتُ بين الكلمة والأخرى أقول: “عندنا في الصين نشرب هكذا، وعندنا في الصين نأكل بتلك الطريق، وعندنا وعندنا…”. وحقيقة كان لبيئتي المحيطة الداعمة والمحبّة دورا كبيرا في مساعدتي على ترسيخ هذا التبني، فمحبتهم غالبا ما تشعرني بأني في بلدي.

وأنا بالفعل ربحت عائلة في مكان آخر، اطلعت على ثقافة أحببتها وعلمتني الكثير، وحصلت على علم في اختصاص تعد الصين رائدة فيه. ولكن ومن جهة أخرى من الممكن أن أسأل نفسي: “ماذا خسرت؟”..خسرت بلدا بكل ما فيها، خسرت مخططاتي، آمالي، طموحاتي، خسرت الكثير حتى مات كلّ ما خططت له فتعودت، تعودت لدرجة قررت فيها أن أنسج من حطام آلامي مستقبل أبنيه حجرا فوق الآخر، وهو ما ساهم في مراكمة معرفتي التي باتت تفاجئ محيطي الجديد في بلد “التبني”.

 

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى